دام برس - بلال سليطين
الصحافة الاستقصائية في سورية تحتاج هامشاً من الحرية ووسائل إعلام لا تعمل بالتراضي
يوماً ما وخلال لقاء مع محافظٍ للاذقية لامني كثيراً على التحقيقات الصحفية التي تندرج ضمن الاستقصاء والتي أنشرها وأهتم بها، وكان بينه وبين التخوين شعرة فقط متحججاً بظرف البلد وما إلى ذلك، إلا أنني جاوبته بوضوح وصراحة عليك أن تشكرني لأني أهدي إليكم عيوبكم لكي تصححوها، وبعدها اتخذ موقفاً شخصياً ضدي وعمل على التضييق علي وحجب الكثير من المعلومات عني!!!!!!
هذه المقدمة لابد منها قبل الولوج إلى المهم:
استوقفني كثيراً حديث السيد رئيس الجمهورية خلال خطاب القسم عن الصحافة الاستقصائية في مواضيع تتعلق بالفساد ما إلى ذلك وتقديمه لها على أنه حاجة وذات فائدة كبيرة، وهو كلام مهم جداً لكن يحتاج إلى آليات وتعاميم تسهل العمل وتصحح بعض المفاهيم المتعلقة بالعمل الصحفي وأهميته، نظراً لحجم المعاناة التي يعانيها الصحفي من غلق للأبواب في وجهه وتخوينه عند محاولته فتح ملفات الفساد والبحث عن الأدلة بطريقة استقصائية، بحجة أنه ليس الوقت المناسب لذلك، وأن البلد في حرب وهناك أشياء أهم علماً أن محاربة الفساد لاتقل أهمية عن محاربة الإرهاب فهما وجهان لعملة واحدة، وبالتالي يجب أن يكون هناك حماية أكثر للصحفيين وهامش أكبر من الحرية في البحث والوصول للمعلومة اللازمة والتي لايمكن الحصول عليها إلا من خلال الدوائر الحكومية التي لاتبدِ تعاوناً وتتحفظ على المعلومة وتمنعها عن الصحفي، وتخونه كما أشرنا سابقاً.
الصحفيون المتحمسون للصحافة الاستقصائية وفضح الفساد والفاسدين لا يخفون سعادتهم بحديث السيد رئيس الجمهورية عن هذا النوع من الصحافة والتشجيع عليه، فهو بذلك فتح أمامهم الباب الواسع للعمل بحرية أكثر وأغلق أفواه الكثيرين عن التخوين وما إلى ذلك، لكن بقي على المؤسسات الحكومية أن تفهم جيداً معنى الصحافة الاستقصائية وأن تكون أبوابها مفتوحة للرد والتوضيح وتسليم صور عن الثبوتيات والأوراق التي يحتاجها أي تحقيق صحفي.
كما أنه على الأجهزة الأمنية أن تدرك ذلك أيضاً وتكون عاملاً مساعداً لا معيقاً للصحفي في عمله بحجج واهية ولا أساس لها من الصحة.
علماً أن القوانين العالمية تشير بوضوح إلى الحق في الوصول إلى المعلومة، حيث نصت على ذلك المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، كما تمت الإشارة له في قواعد السلوك المهني حيث تضمنت القاعدة الثانية حرية الوصول إلى مصادر المعلومات، يضاف إلى ذلك الحق في المعرفة وهو حق نصت عليه كل القوانين العالمية بما فيها قانون الإعلام السوري الجديد والذي يمكن القول عنه أنه غير مفعل بشكل جيد.
لكن الأهم من هذا كله أن تقتنع وسائل الإعلام بضرورة الاهتمام بهذا النوع من الصحافة وفتح الباب واسعاً أمام المراسلين والصحفيين للاهتمام به وإعطاءه الحيز المطلوب، فكثير من الصحفيين اليوم لديهم ملفات فساد لكنهم عاجزون عن نشرها لأن وسائل الإعلام التي يعملون فيها لا تهتم بنشر هكذا ملفات، أو بمعنى أدق لا تريد فتح جبهة مع أحد وتعتمد مبدأ المراضاة، فأخبار هذه الوسائل تعج بأخبار المديح وتمسيح الجوخ بما في ذلك للفاسدين، وكأن الصحافة اقتصرت على تلميع صورة مسؤول هنا واللحاق بمسؤول هناك للكتابة عن جولته ... إلخ.
لقد استبشرنا خيراً كبيراً بالدراما السورية ومسلسلاتها (بقعة ضوء، ضبو الشناتي .... إلخ) فهامش الحرية التي حصلت عليه هذه المسلسلات إذا منحت الصحافة مثله سنكون أمام واقع صحفي جديد وجيد نسبياً، يساهم في تصويب الأخطاء وتسديد الأهداف والتسجيل فعلياً في مرمى الفساد والفاسدين الذين يتكاثرون بالانشطار لعدم وجود الحسيب والرقيب.
لكن لا يكفي أن نكتب فنحن لم ندخر فرصة للكتابة يوماً عن الفساد وإذا ما أشرنا لدام برس تحديداً فإننا نجد عشرات الملفات التي طرحناها ووضعنا الرأي العام في صورتها، ومع ذلك هي لم تحظ بالاستجابة اللازمة وإذا ما حددنا قضية الطالبة في جامعة تشرين "أروى نصرة" فإننا نجد أن ملفها وضع في الأدراج بدل أن يعاد لها حقها الذي سلبه منها الفساد، وكذلك قضية الفساد في برنامج تشغيل الشباب باللاذقية وكيف استحوذ على المسابقات أبناء المسؤولين وغير ذلك الكثير، وهذا يؤكد ضرورة أن يكون هناك استجابة لما نكتب وأن تفتح تحقيقات ويحاسب المقصرون والفاسدون ... إلخ.
والصحافة الإستقصائية التي أشرنا لها أعلاه هي مصطلح أطلق في منتصف القرن الماضي في الولايات المتحدة وأوروبا، ويعرفها رئيس المركز الدولي للصحفيين بأنها "سلوك منهجي ومؤسساتي صرف، يعتمد على البحث والتدقيق والاستقصاء حرصاً على الموضوعية والدقة وللتأكد من صحة الخبر، وما قد يخفيه انطلاقاً من مبدأ الشفافية ومحاربة الفساد، والتزاما بدور الصحافة كحارس على السلوك الحكومي، وكوسيلة لمساءلة المسئولين ومحاسبتهم على أعمالهم، ووفقاً لمبادئ قوانين حق الاطلاع وحرية المعلومات.
والصحافة الاستقصائية تشمل كشف أمور خفية للجمهور، أمور إما أخفاها عمداً شخص ذو منصب في السلطة أو اختفت صدفة خلف ركام فوضوي من الحقائق والظروف التي أصبح من الصعب فهمها، وتتطلب استخدام مصادر معلومات ووثائق سرية وعلنية، وهي الصحافة القائمة على المعلومات والحقائق بإتباع أسلوب منهجي وموضوعي بهدف كشف المستور وإحداث تغيير للمنفعة العامة.
جدير بالذكر أنه من النتائج الشهيرة للصحافة الاستقصائية استقالة الرئيس الأمريكي نيكسون من منصب الرئاسة في عام ١٩٧٤ على إثر فضيحة ووترجيت التي فجرها الصحفي الشهير "بوب وود ورد"، في جريدة "واشنطن بوست" في تحقيق استقصائي له.