دام برس
جاء في افتتاحية صحيفة البعث السورية الصادرة صباحا ليوم تحت عنوان :الرجعية في الطور الإمبريالي.. بقلم : الدكتور عبد اللطيف عمران , مايلي:يخرج الواقع العربي اليوم بجدليته ومفارقاته عن التصنيف المعهود في الفكر السياسي وفي المجتمع. فقد عرفت الشعوب مراحل انتقال عديدة من المشاع الى الإقطاع الى البرجوازية فالرأسمالية فالامبريالية المتوحّشة. لكننا اليوم نشهد تحولاً مريباً ومضحكاً، إنه انتقال لا نوعي، غير متوقع وغير قابل للتصنيف نظرياً، يتجلى في النشاط الرجعي الإقليمي المحموم الذي وصل حد الهذيان.
فمن كان يتوقع أن تستلب أنظمة الرجعية المشهد الاحتجاجي العربي الذي يجب أن يكون واعداً في زمن ثورة المعرفة والانفتاح والتقدم العلمي المذهل ؟
ها هي اليوم الرجعية العربية تقوّض منجزات حركة التحرر الوطني، وتصادر حركة الشارع العربي، فأين نشاط المنتديات الفكرية والمجلات والأبحاث والأحزاب والاتحادات والمنظمات القومية واليسارية والليبرالية ؟ وأين مؤسساتها وندواتها التي كانت لا تنقطع في دمشق وبيروت والقاهرة وتونس والجزائر وليبيا ؟ إنها اليوم رجعية قطر والسعودية أمّ الدنيا الراهنة.
لقد طال الزمن الذي سخر فيه السياسيون والمفكرون والأُدباء من الذي لا يعرف إلا: إييه... فلوسي... انطيكو... إلخ، وممن كان يرى فيهم العلمانيون والمستنيرون مثال قول المتنبي: أمْ أذنُه في يدِ النخّاس داميةٌ... هذا المأجور صار سيّداً اليوم يتسابق كبار -صغار- الإعلاميين والصحفيين والمفكرين؟! الى فنادقه وصحفه وفضائياته العابرة بثمن أو بغير ثمن وشرف.
لكن الأصالة لا تغيب طويلاً، وصوت الحق لا ينكسر، وستكون الأصوات الحرّة الوطنية والعربية المستنيرة أمام لحظات مراجعة نقدية وحساب عسير، بعد أن ضيّعت ما أنجزه الروّاد، وتراخت في متابعة حركة الأجيال وتطلعاتها، وهي ترى اليوم تمدّد الرجعي واسترخاءه وادعاءه بالانتصار للعروبة وللحرية والتحرر والعدالة ومحاكاة لغة العصر، وتقدمه وسيطرته واستبداده المدعوم من الغرب، صديق إسرائيل أولاً وقبل أي شيء.
حقيقةً كان تحوّل الرأسمالية الغربية الى امبريالية متوحّشة متجلياً بصورة مقرفة في الواقع العربي منذ رعاية هذا التحول لمشيخات البترودولار، وكانت وضاعة الغرب مثيرة للتقزّز أمام المال العربي ما سهّل التمادي في تبديد الثروات والطاقات، فلا تغيب عن الأذهان صورة برلسكوني وهو يقبّل يد القذافي، ويحضر مؤتمر القمة العربية في سرت نائماً، ولا صورة الأمريكي وهو يراقص آل سعود في مهرجان الجنادرية ويعبثان سوية بالسيف العربي...، ولا جهود أوباما في رحلته المضنية الى الهند وحواره الشاق مع حكومتها ليظفر بعقد بيع أسلحة قيمته 4.7 مليار دولار، بينما يتقدّم آل سعود إليه بأريحية بعقد /60/ مليار دولار، ولا لهاث حكام قطر لإدماج إسرائيل -حاضنته- في الشرق الأوسط الجديد. إنه تكامل الأدوار القذرة بين الرجعية ووحشية الامبريالية الجديدة.
لكن المؤسف فعلاً أن تسمح الظروف بتورّم حكام الرجعية وانتفاشها، فيتصدون لقيادة العمل العربي المشترك، ولتبؤّ دور فاعل بل أساسي في زمن عربي جديد يتهافت فيه النظام الرسمي العربي، وكذلك بعض النخب، أمام البترودولار.فالجامعة العربية وأمينها البائس، وبعض وزراء الخارجية يدخلون في صغار وانقياد أمام الوزيرين القطري والسعودي على أنهما مؤهلان ومبايعان لدور ريادي لا ينفصل بالتأكيد عن أجندة المركزية الغربية التي طالما لم تفارق المشروع الصهيوني.
وهكذا تتحول الرجعية العربية الى الطور الامبريالي وهي تمتد وترنو ليكون مجلس التعاون الخليجي هو الوطن العربي كله، ولتكون النظم الرسمية العربية الجديدة أسيرة مخاطر الدعم المالي الخليجي حتى يستقيم أَودها بعد أن تنمو وتتطور على الرضاعة من الثدي الرجعي الأطلسي. وتبقى قضايا أساسية وطنية وعربية مؤجّلة لمرحلة ما بعد التدجين. فأي مستقبل ينتظر الحقوق والأجيال العربية؟!، ولا سيما حين تُصادر التطلعات المشروعة في المشهد الاحتجاجي العربي بقرار قطري سعودي يستلب الآمال والآفاق.
لذلك نحن - كافة القوى الوطنية والعروبية - مطالبون اليوم بجهود نوعية، نتجاوز فيها حالة ما يشبه الانكفاء. وجماهيرنا العريضة الواسعة على امتداد ساحات الوطن والأمة تنتظر جاهزةً، وقد تتجاوزنا. فهي لن ترضى أبداً بهذا العبث الطالع...، ولا بالتكاذب والنفاق الرجعي. فالأحرار العرب والقوميون، والمستنيرون من رجال السياسة والفكر والدين لن يستسلموا، ولن يسلّموا مصائر الأوطان والأمة للصغار، ولا لأصدقاء أمريكا وإسرائيل من هؤلاء الدُمى الذين يبددون ثروات الأمة والذين لا أفق لهم إلّا في الدائرة الرجعية الامبريالية الصهيونية التي خبرتها الشعوب الحيّة في كافة أرجاء الأرض، وهي تستعد اليوم وتتشكّل من جديد لمناضلتها.
فقليل من الصبر، وكثيرٌ من العمل والنصر حليفنا -منطقياً- لا محالة.
د. عبد اللطيف عمران
المدير العام - رئيس هيئة التحرير في جريدة البعث