دام برس – علي فارس رستم
بعد أن غزا جورج بوش الابن العراق في نيسان عام 2003، وإعلانه من على متن بارجة حربية خطاب النصر، أعلن أنه سيخضع دمشق ولبنان، أما جائزته الكبرى فستكون إيران.
كان واضحاً أن هذا الهوس لمجنون البيت الأبيض ليس من بنات أفكاره، فقد زُيّن له، وهو الذي كان يحس أن مخلوقات غريبة من عالم آخر توشوش له، أنه “نبي” الكون الجديد، وبلغت هلوساته حد الادعاء – والعياذ بالله – أن “الله يحدّثه”.. خصوصاً أن زمرة من “المستشرقين” في مجموعة المحافظين الجدد، وبعضهم من أصول شرقية وعربية، أفهموه أن منطقة بلاد الشام – سورية وفلسطين والأردن ولبنان والعراق – وامتداداً حتى إيران، هي مهد الديانات والحضارات، ومنها انطلقت قيم التاريخ الكبرى، فاليهودية والمسيحية والإسلامية ما انتشرت إلا حينما امتدت أو تعمقت في هذه البلاد التي انطلقت منها الحضارات: الفارسية والبيزنطية، والأموية والعباسية.. فعمّت الكون.. فهذه البلاد هي أرض اللبن والعسل، وطريق الحرير، وشريان النفط، وهي روح العالم.. وعاصمتها دائماً دمشق؛ أول عاصمة في التاريخ، والممر الإجباري لكل الرسالات .
ويكشف الأمين العام السابق لحلف شمال الأطلسي؛ الجنرال المتقاعد ويسلي كلارك: أن وزارة الدفاع الأميركية أصدرت في العام 2002، مذكرة تصف فيها كيف ستجهز الولايات المتحدة الأميركية على سبع دول تبدأ بالعراق، ثم سورية، ثم لبنان، مروراً بليبيا والسودان والصومال وتنتهي بإيران.
وإذا كان المحافظون الجدد برموزهم جورج بوش وديك تشيني، وزمرهما، قد تذوقوا مرارة هجومهما، من خلال المقاومات التي انطلقت في بلاد الرافدين، وانتصار المقاومة في لبنان وفلسطين، وصمود سورية وإيران، وتقدم هذه الأخيرة في تمتين قوتها وتعزيز قدراتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية، فإنهما ورّثا خليفتها باراك أوباما، الذي حاولت احتكارات السلاح والنفط، أن يتصور أنه خليفة مارتن لو ثركينع، من أجل توسيع سياسة “الاضطرابات البناءة” التي دعا إليها مدير مؤسسة واشنطن لشؤون الشرق الأدنى روبرت ساتلوف؛ أحد العقول المؤثرة في التفكير الاستراتيجي الأميركي، حيث رأى عام 2005 أن إعادة تشكيل ورسم خارطة الشرق الأوسط تستلزم نحو عشر سنوات.
واللافت في مواقف ساتلوف، أنه رصد منذ 2005 هرولة أنظمة عربية لاسترضاء واشنطن بكل الوسائل والتقرب من “إسرائيل”، وإقامة العلاقات أو تلطيف الأجواء معها، بينما دول عربية أخرى تلعب على الحبلين، فتشيع قدراً من الدفء في علاقتها مع تل أبيب، وتتحدث عن إصلاحات داخلية، وأصبحت داعية لإصلاحات، رغم بعدها عن هذه المهمة.
ويراهن ساتلوف على الليبراليين العلمانيين العرب، وإمكانية توسيع التحالفات وتغييرها لتطال إسلاميين.. وحتى أصوليين من أجل الوصول إلى السلطة بأشكال “ديمقراطية”.. وبالتالي تحالف “الديمقراطيين” الجدد من العرب مع ديمقراطية أميركا وامتداداتها.
بأي حال، ليس قدراً أن ينجح المشروع الأميركي، رغم كل الإمكانيات الموظَّفة له، فالمشاريع الأميركية والاستعمارية، خصوصاً في هذه المنطقة، سبق لها أن تلقّت ضربات كبرى على مرّ تاريخ الصراع.. وإن اتخذت في كل مرة أشكال مختلفة.
ثمة حقيقة باتت واضحة الآن، وهي أن التحالف الأميركي – الغربي – الرجعي العربي، باستهداف قلب منظومة المقاومة والممانعة والردع في المنطقة، وهي سورية، لإسقاطها، مهمة صعبة ومعقدة وبعيدة المنال، لا بل قد تنتج عن هذه المواجهة تغييرات كبرى ستطال أسس المنظومة الأميركية نفسها في المنطقة، ولهذا باتت أطراف من هذا الحلف تفتش عن وسيلة للخلاص من التعهدات التي قدمها للسيد الأميركي من أجل الحفاظ على رأسها، وإن كان البعض الآخر يحاول أن يكابر، كحال القطري الذي بدأ ورَمُه المصطنَع ينفّس، لدرجة أن شيخ المحمية خرج من موريتانيا بما يشبه الطرد، فيما العقل المدمر في هذه المشيخة رئيس الحكومة ووزير الخارجية زحف إلى بان كي مون يطلب منه النجدة، في نفس الوقت الذي أفادت معلومات شبه مؤكدة، أنه عجز عن تدبير لقاء مع أي مسؤول أميركي، حتى على مستوى الموظفين الكبار في وزارة الخارجية أثناء زيارته النيويوركية، بينما المتغطرس الآخر أحمد داود أوغلو حاول أن يحمل رسائل غربية إلى طهران، فيها تهديد ممزوج بكثير من الود، فكان أن سمع من الإيرانيين ما سبق لحمد بن خليفة وحمد بن جاسم أن سمعاه؛ أن “أمن سورية من أمن إيران”.
لقد سمع أوغلو كلاماً قاسياً في طهران، وتبيّن له أن الموقف التركي من سورية هو في حقيقته موقف “إسرائيلي”، والدليل على ذلك تورّط أنقرة في مخطط التخريب والإرهاب، وعملها لإنجاز صفقة بين الإدارة الأميركية والقيادات المصرية الجديدة لحماية كامب دايفيد، كما كشف المخرب الكبير جيفري فيلتمان في القاهرة ما أثار نقاشات واسعة بين صفوف الإخوان المسلمين ووصلت شظايا هذا النقاش حتى إلى حماس.
الإفلاس والجنون في مسعى قطر وتركيا جعلهما يفتشان عن وسيلة لأي نجاح، ويبدو أنهما لم يجدا إلا أن يلعبا على أوتار مذهبية، فاشتغلا على الفتنة في لبنان وسورية والعراق، في نفس الوقت الذي أحاطا عمل المراقبين العرب في سورية منذ اللحظة الأولى بالضغوط، لكنهما أصيبا بالفشل والخيبة، لاسيما بعد أن تم إحباط مجموعة داخل البعثة ترتبط بجهات استخباراتية متورطة في خطة استهداف سورية، وبالتالي أفشل مسعى حمد بن جاسم باستفزاز سورية، فكانت المحاولة اليائسة لقطر بانتقال هذا الحمد إلى نيويورك، بناء على طلب أميركي، من أجل العمل على نقل الملف السوري إلى مجلس الأمن الدولي، الذي جاء الرد الروسي عليه صريحاً وواضحاً، من خلال الأسطول الحربي الروسي الذي رسا في مرفأ طرطوس، والذي أعلن قائده أن زيارة هذا الأسطول هدفه تقريب المسافات بين دمشق وموسكو، في الوقت الذي كان وفد شعبي وحزبي صيني يزور دمشق تضامناً مع شعبها وقيادتها.
ومن الواضح أن قوى ودولاً متورطة في المؤامرة بدأت تعيد حساباتها، وتشير المعلومات إلى سلسلة من التراجعات من المحور الذي يستهدف دمشق، فقد علم أن وفداً أمنياً أردنياً رفيع المستوى زار دمشق، وأبدى كل استعداده للتنسيق الأمني الكامل، مبدياً كل تعاونه واستعداده لتسليم المشبوهين بأعمال تخريبية، إضافة إلى الفارين من الخدمة العسكرية.
كما علم أن الفرنسيين أبلغوا قيادات قوى “14 آذار 1978″ أن إسقاط النظام في سورية وصل إلى حائط مسدود، وأن سورية تجاوزت فخ المراقبين العرب الذي نُصب لها، لكن حدث ما لم يكن يتوقعه أحد، وهو أن الحلف المعادي لدمشق كان يراهن بمزيد من الشكاوى في حمص ضد الحكومة السورية، لكنهم فوجئوا بذوي الشهداء من الأهالي والجيش.. وحتى من المواطنين العاديين يشكون على الزمر المسلحة، ومن عمليات التهريب للأسلحة والمخدرات التي تتم من تركيا وشمال لبنان.
في كل الحالات، فإن الخلاصة للتطورات السورية قد تكون في أوضح تجلياتها بما أعلنه الرئيس الأسد عن محور المقاومة والممانعة: “هيهات منا الهزيمة”، والذي أكد على مواجهته للمؤامرة بكل وجوهها بنزوله مع عائلته إلى المظاهرة المليونية في ساحة الأمويين الإربعاء