دام برس:
يتردد كثيراً في معترك الأزمات، التي تعصف بالعديد من البلدان العربية، مصطلح المصالحة الوطنية كمخرج يحفظ وحدة الشعب والوطن، لكن الوقائع على الأرض، من خلال تباعد مواقف السلطة والمعارضة، تدفع باتجاه معاكس يفرغ المصالحة من مضمونها بالقفز عن أسسها وشروطها الأزمات العربية وتقديم تنازلات متبادلة لمصلحة الشعب والوطن ووأد الفتنة. غير أن تباعد مواقف السلطة المعارضة إزاء فهم مضمون المصالحة الوطنية، كأسس وشروط والتزامات عملية، بات يجعل من مطلب المصالحة معضلة بحد ذاتها، جراء صعوبة الوصول إليها في ظل ما يمارس عملياً من قبل أطراف الأزمات، المعنية بالمصالحة. وللموضوعية؛ من غير المنطقي الحكم على كل الأطراف من خلال وضعهم في سلة واحدة، لكن مع خصوصية كل حالة من حالات الأزمات العربية، وشدة الأزمة وأسبابها وتجلياتها وتداعياتها، وطبيعة تركيبة القوى السياسية والحزبية في هذا البلد أو ذاك، والمعضلة الرئيسية التي تعترض عملية التغيير والتحول الديمقراطي هنا أو هناك، إلا أن الحالات جميعها تتشارك في أنها مسؤولة، في شكل أو أخر وبنسبة تقل أو تزيد، بإعطاء تفسيرات خاصة لمفهوم المصالحة الوطنية، وتكييف مضمونه ليصب في مسار يوظف على نحو فئوي أحادي الجانب، لا يراعي جوهرياً مصالح الأطراف الأخرى بتعبيراتها السياسية والمجتمعية. أيضاً من أجل الموضوعية، إن أحد أكبر المعضلات التي تواجهها دعوات المصالحة الوطنية يرجع إلى رواسب الأنظمة السابقة، والتي انتقلت عدواها إلى أنظمة الحكم الجديدة، وفي القلب منها عدم الخضوع لمبدأ الشراكة الوطنية، وإرساء ضمانات دستورية كافية لممارسة التعددية السياسية، والتداول السلمي للسلطة، وإبعاد شبح عودة الديكتاتوريات الفردية مرة ثانية تحت عباءة أيدلوجيات شمولية، أو العودة إلى حكم العسكر والمؤسسات الأمنية خلف ستار مدني، الأمر الذي عانت منه غالبية الشعوب العربية لعشرات السنيين منذ خمسينيات القرن الماضي، وما زالت تعاني. من البديهي أن أرضية إجراء مصالحة يستند إلى أرضية توافق سياسي، وفي حالة بلدان الثورات العربية على وجه التحديد، دون أن يعني ذلك استثناء البلدان العربية التي لم تصلها رياح الثورات، لا غنى عن وجود مقاربات جدية وحقيقية لتحقيق العدالة في المرحلة الانتقالية، بمحاسبة كل من تورط بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، ومارس أي شكل من أشكال الفساد السياسي أو المالي أو انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وذلك من خلال تطبيق إجراءات قضائية تفضي إلى محاكمات عادلة للمتهمين، ويكون الهدف منها القصاص للضحايا، وتقوية الثقة بالقانون والديمقراطية في المستقبل. وفي مثل هكذا حالة، إن اتخاذ مواقف مسيسة تحت مسمى تنفيذ "العدالة الانتقالية" يعطي نتائج عكسية، مثل قوانين "الاجتثاث" و"العزل السياسي"، حين تطبق على نطاق شامل ضد كل من شغلوا مواقع قيادية، سياسية أو إدارية، في ظل النظام القديم. وإذا كان يجري تبرير الإقدام على مثل هكذا خطوات ضارة، بعدم الثقة في بنية ما تبقى من النظام القديم، وخاصة المؤسسة القضائية، فإن مبادئ العدالة الانتقالية تعالج هذا المحذور، بنصها على إصلاح المؤسسة القضائية، والمؤسسات التي كانت تستخدم في القمع وانتهاك الحقوق السياسية والمدنية، والمقصود بها في الحالة العربية مؤسسة الجيش والمؤسسات الأمنية ، والأوضاع الأمنية شهدت تهوراً حاداً في الأسابيع الأخيرة. وفي ليبيا بدأت تظهر الآثار الضارة لإقرار قانون العزل السياسي، بحرمان الدولة من الكفاءات السياسية والاقتصادية والإدارية والعسكرية، التي تحتاج لها في المرحلة الانتقالية، وارتد ذلك أيضاً سلباً على الأمن.
وكان العراق قد دخل هذه الدوامة منذ أن تم فرض قانون "اجتثاث البعث"، الذي بات من أكبر العقبات أمام نجاح مصالحة وطنية بين العراقيين، وينظر إليه كأداة للاستحواذ على السلطة، وإعادة إنتاج نظام استبدادي، أكثر خطورة على العراق . الفلسطينيون ، وللمفارقة كانت كل جولة من جولات المصالحة الوطنية تقود إلى انقسام أعمق، وصل عام 2007 إلى اقتتال داخلي، ومن ثم انقسام سياسي وكياني، ولا تقل التعقيدات في الحالتين المصرية والتونسية، وكذلك في الحالة البحرينية على فرادتها، فالحديث عن المصالحة يكتسي طابع الرؤية الأحادية الجانب، وتسليم طرف بكل شروط الطرف الأخر، ودون ذلك الصدام في الشارع والسعي لإسقاط المؤسسات. رغم أن أول شروط المصالحة الوطنية البحث عن حلول وسط تحافظ على المصالح الوطنية العليا، وتحول دون الانزلاق نحو العنف، أو الاحتكام للشارع في القضايا السياسية الخلافية. أما في سورية فالأمور أكثر تعقيداً من كل الحالات الأخرى، حيث وصلت درجة العنف الدموي وانسداد أي نوع من أنواع الحوار بين السلطة والمعارضة المسلحة، درجة تهدد وحدة سورية، الشعب والوطن، بينما دعوات المصالحة الوطنية حاضرة دائماً في الخطاب السياسي والإعلامي للجانبين، وفي الوقت عينه غائبة عن الممارسات العملية.
|
||||||||
|