دام برس: كلما خطر على بالي أن أكتب عن الحدث الهام الجاري في سورية اليوم وهو السباق الرئاسي , أراني مشدوداً الى رائعة المرحوم محمد الماغوط في مسرحيته الخالدة غربة , فأجد دوماً تقاطعات غريبة بين ما يحدث اليوم وبين ما يحدث في تلك الضيعة , الفارق الوحيد في كمية اللحّى التي فاضت على سوريا ولم نعد نعرف ماذا يختبئ تحتها , عدا هذا فكل أحداث المسرحية تنطبق بشكل أو بآخر على ما يجري اليوم في سوريا , بداية من مختار الضيعة الى حاشيته التي تغرد خارج السرب ,الى القهوة الشعبية التي يشرب فيها الرجال مشاريبهم ويتبادلون الشتائم والنميمة والطعن في الظهر ,الى النساء اللواتي يكدّحن في حراثة الارض الى الحجّة التي كانت القابلة القانونية لكل أفراد الضيعة والى غربة نفسها تلك الصبية التي ترعرعت تحت ظلال عريشة الياسمين وهي تنتظر فارسها القادم على حصان أبيض .
الأمر الذي يستحقّ فعلا قليلاً من انتباهنا هو ترشح 23 شخص لرئاسة البلد من دون ذكر الرئيس بشار الأسد, ولست هنا أعترض على حرية الترشح وهو حق أصيل لكل من يجد في نفسه الكفاءة للقيام بهذا الواجب الوطني , ولكن الغرابة ان يجد 23 شخص في نفسهم القدرة الكبيرة والحكمة العظيمة على قيادة بلد يقولون أنها على وشك الدمار والضياع , بلد ترزح تحت حرب عشواء طوال ثلاث سنوات وما زالت قادرة على أن تنجب رؤوساء لهذا الوطن , بلد نهبوا خيراتها ودمروا منشأتها وسرقوا أموالها وما زال هناك من يظن أن لديه الحكمة في اعادة المياه الى مجاريها, رغم أن المياة شحيحة هذه الأيام والمجاري فاضت برائحة العفن الوطني والمهني والاخلاقي . والشيء الوحيد الذي يفيض علينا هذه الايام هو موسم قذائف الهاون التي تنزل على بيوتنا مثل حبات المطر.
الغريب لكل من تجرأ على التقدم لهذا المنصب أنه ربما لم يقرأ التاريخ أو أنه لم يتابع نشرات الأخبار الأخيرة في السنوات الثلاثة الماضية والتي تجلت بحقبة اسمها الربيع العربي , لقد أصبح كرسي الرئاسة هذا أخطر من أي حادثة مرورية قد تموت فيها قضاءاً وقدر , ففي هذه الحقبة رأينا ما لم نراه طوال سنين من عيشنا المرير في هذا الوطن العربي , رأينا الرئيس يُقتل على يد عصابات ثورجية همجية في ليبيا, ورأينا الرئيس في تونس يقصفون قصره ويضطر الى الذهاب الى السعودية كي يتعالج فيها, ورأينا في تونس الرئيس يلملم أغراضه ويسرق ما يستطيع ان يسرقه ويهرب الى بلد صارت فندق للرؤوساء ووكر لدعارة النساء ,ورأينا الرئيس الذي رموه في السجن بعد ثورة مفتعلة في مصر وما زال في انتظار فرج الله او فرج أمريكا عليه ثم تابع الرئيس الذي خلفه بارادة امريكا أيضا مسيرته العصماء التي لم تدم أكثر من سنة فصار الاثنان زوار سجن واحد , ورأينا في سورية الرئيس الذي قامت الدنيا كلها عليه ولم تقعد وما زال واقفاً على قدميه محمياً بتلك اللعنة التي أصابت كل من طالب برحيله او اسقاطه او تنحيه .
في سورية تصبح مسرحية غربة مسرحية طفولية امام المسرحية الكبرى التي تحدث اليوم , وهو اذا دلّ على شيء واحد فهو يدل على مستوى التطرف في التفكير العقلاني لأي حدث في سورية حتى لو كان الترشح للرئاسة , ومازلنا نمارس لعبة الاختباء وراء إصبعتنا كي لا يرانا أحد , رغم أن الجميع يعرف تماما أن منصب الرئيس هذا لن يكون سوى من نصيب رجل واحد فقط شاء من شاء وأبى من أبى ولا أتكلم هنا من منطلق القمعية والتظلم والتفرد في القرار تحت المقولة المستهلكة ( الأسد أو نحرق البلد ) . بل أتكلم من منطلق الواقع والأرض ,أتكلم من منطلق من يرى الحقيقة على الأرض وليس من رؤوس ما زالت تهذي باسقاط النظام وتحلم أن تجلس على عرش الرئاسة ولو جاءت على صهوة دبابة امريكية أو اسرائيلية يدفع ثمن وقودها حكام وملوك الخليج .
( بلد كلّها حكّام من وين أجبلك شعب ) .. وهذه الحقيقة الوحيدة التي تختصر العقلية العربية السورية , إنها تجسّد واقع مؤلم من سخافة العقول التي تظنّ نفسها قادرة على إدارة بلد في الوقت الذي يكون فيه عاجزاً عن إدارة بيته أو شركته أو مديريته , إنها حقيقة لن تعجب الكثير ولكن من قال أن الحقيقة تعجب الكثير , لقد اعتبروا في سالف الزمان أن الحقيقة عارية سافرة وعلينا تحجيبها كي تستر نفسها , لذا تجد الحقيقة دوماً مدفونة تحت اللسان الصادق أو في مكتب قاضي التحقيق فقط .ولهذا تصير الكذبة في حياتنا حقيقة أكثر منها مجرد اختراع من الخيال , لأننا بطبيعة الحال نتعايش مع الشيء الذي نتمناه ونكره ما يوقظنا من هذا الحلم .
ولكن من العدل أن تعرف وزنك قبل أن تجلس عليه ..؟؟ بلال فوراني
|
||||||||
|