دام برس :
ثلاث سنوات عجاف مرت على الشهباء، كان مشهد «يوم الحشر» على المعبر، تلك العبارة الوافدة إلى القاموس السوري، أكثرها إيلاماً وحفراً في القلوب المقهورة في تلك المدينة.
بين رمضان 2011 ورمضان 2013 انقلبت مدينة حلب رأساً على عقب. في العام الأول لم تفلح «ثورة الشعب»، رغم اشتعال حماة وحمص ومناطق كثيرة ونزيف الدماء، في إخراج تظاهرة حقيقية واحدة في المدينة التي توجّست شراً من لفظ «ثورة». وفي الثاني، حضر الثوار بأنفسهم إلى المدينة لتجويعها بعد نهب أسواقها وأملاك سكانها الذين يتهمهم الثوار بـ«الكش والشوي على طريق المحلق بينما النظام يقتل شعبه». ولكأن الحصار الغذائي الذي فرضه «المحرِّرون» على «المحرَّرين» محاولة لإكساب مقولة انشغال الحلبيين بشواء اللحم في النزهات الربيعية صفة الحقيقة. الإذلال
تعدّدت صور الإذلال في يوميات الحلبيين على المعبر. كل مادة غذائية تُضبط «متسللة» إلى الجهة الغربية من حلب التي يقطنها نحو مليوني مواطن، يتهم حاملها، مع إهانته، بأنه «يهرّبها» إلى الجيش، فيما يقسم «المذنب» بأنه يحملها لإطعام أسرته. وأمام «خنفشارية» فرمانات ولاة أمر المؤمنين الجدد، تفتقت العقلية الحلبية عن حيل طريفة لتهريب الطعام ستبقى محفورة في الذاكرة طويلاً. فصندوق التلفزيون الخشبي أصبح «براداً» يحتوي بضع ربطات من الخبز وكميات من اللحم والزيت وحليب الأطفال. وجيوب مراهق اتسعت لفخذي دجاجة وصدرها وجانحيها. ضبط الفتى بالجرم المشهود من قبل مسلحين إسلاميين. لكنهم طمأنوه بأنهم لن يقتلوه، لأنه يهرب الطعام. «أمير المعبر» وللمعبر «أمراء» تعاقبوا عليه وجنوا ثروات طائلة، أسوأهم حظاً كان زكريا العتك «أبو غياث»، وهو أربعيني قتل برصاص قناص من الجيش السوري، يضطلع «الأمير» بدور الضابطة الجمركية، والعدلية، والصحية، ومهام جميع فروع الأمن، والفتوى كذلك، وما قدر الله. في مقرّه يجب فحص شهادات المنشأ، ورخص المرور التي تصدرها الهيئة الشرعية، المتمركزة في مستشفى الأطفال، بعد دفع «الأتاوات» المترتبة، بما «يرضي الله» طبعاً، ووفق النسب الموضوعة لكل مادة. فقد المعبر أهميته الاقتصادية بعد فتح طريق خناصر (الذي يربط الأحياء الحلبية التي لم يحتلها المسلحون بوسط دمشق، وبات معبراً للأفراد بالدرجة الأولى وللبضائع المصنعة أو المواد الأولية. لكن العقل الاستثماري تفتق عن بديل من الأتاوات التي تُفرض على السلع والبضائع، وباتت تفرض على «الرؤوس»، ووصلت إلى ثلاثة آلاف ليرة في كل عبور. «داعش» في حلب مع تمدد تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» في حلب، سعى إلى مدّ نفوذه إلى المعبر الذي يحقق هدفين، معنوياً ومادياً، مستغلاً الاستياء الشعبي العارم من ممارسات المسلحين وكراهية الناس لهم. لكن محاولة «داعش» قوبلت باستياء «الهيئة الشرعية» ومسلحيها. فسيطرة التنظيم على المعبر تعني أنه أصبح الرقم واحد في المنطقة المحتلة من المدينة، وعلى احتكاك مباشر بسوريين يعيشون في ظل النظام. أما الهدف المادي فهو الأهم، إذ إن المعبر يدرّ مبالغ فلكية على الهيئة وفصائلها. في تشرين الأول 2013، ومع تهاوي المناطق بيد «داعش» ريفاً ومدينة، سارع «أمير التشويل» الأشهر أحمد عفش زعيم «لواء أحرار سورية» إلى نفض يده من المعبر وسحب كتائبه من المنطقة، مبدياً استعداده للتعاون مع أي جهة قضائية لـ«محاسبة المسيئين». ولكن لم تتمكن «داعش» من السيطرة على المعبر، فسرعان ما «حسّنت» الهيئة الشرعية تعاملها مع الناس وحاسبت «بعض المسيئين»، رغم أنّها منذ سيطرتها الكاملة على المعبر، نهاية العام الماضي، رفعت قيمة «رسم المعبر» أضعافاً مضاعفة، ليصبح 2525 ليرة سوية (حوالى 16 دولار)، بعد أن كان سابقاً 25 ليرة فقط (أقل من ربع دولار). المعبر اليوم مع تصاعد عمليات الجيش في الشهرين الأخيرين، اجتازت المعبر خلال ايام أمواج بشرية قدرت بعشرات الألوف. أغلق المعبر مجدداً وبات على الأشقاء والجيران والأبناء قطع مسافات تتراوح بين 200 كيلومتر و450 كيلومتراً، للتنقل بين حيين متجاورين. إذ لا يوجد أحد في شطري حلب ليس له أخ أو أخت أو قريب من الدرجة الأولى في أحياء الشطر الآخر، ومع ذلك فإن التقسيم القهري وجد تعبيرات له في النفوس. يشعر سكان الأحياء الغربية بالغدر ونكران الجميل، فقد احتفوا بنازحي الأحياء الأخرى ووفروا لهم كل ما يحتاجونه، في حين كان المقابل حصاراً وقصفاً وتظاهرات تطالب بإغلاق المعبر لأن سكان الأحياء الشرقية ليسوا مسؤولين عن رفاهية مناطق النظام. هكذا راكمت ثورة الغرائب التناقضات المصطنعة في النفوس، فيما تدخل الحرب عامها الرابع، لكن الجميع يدركون أن المعبر… عابر.
|
||||||||
|