دام برس :
هل من المفرح أم من المحزن أن تعترف الولايات المتحدة الأمريكية بالمجزرة التي ارتكبها العثمانيون بحق الشعبين الأرمني والسرياني منذ مئة عام ونيّف؟ وهل هذا الاعتراف يأتي جزئياً كتغطية لمجازر تطهير عرقي يرتكبها العثماني الجديد في سوريا، والعراق، وليبيا دون أن تتم إدانته من هذه القوى ذاتها ودون أن نشهد أي تحرك لإيقاف عجلة الإجرام ومحاسبة مرتكبيها.
إن الإيمان بحقوق الإنسان والعمل من أجل ضمان هذه الحقوق لا يقبلان المواربة ولا التورية ولا الاستخدامات الذكية أو المتذاكية لأهداف لا تمتّ إلى احترام الإنسان وحقوقه بصلة.
فالشعوب التي تحترم حقوق الإنسان وتعمل على نصرته كلما دعت الحاجة لديها تاريخ يشهد لها بذلك دون أن تلحق أعمالها هذه بأية منة أو أذى. وعلى سبيل المثال لا الحصر حين ارتكبت المجازر بحق الأرمن والسريان في عام 1915 في الدولة العثمانية لم يألُ مسلمو سوريا والعراق ومصر ولبنان جهداً في احتضان اللاجئين والترحيب بهم عنصراً جديداً في المجتمع، بالإضافة إلى توجيه النداءات وحمل الرسائل والحث على إيقاف هذه المجازر، كما سطر الكتاب السوريون الروايات عمّا تعرّضت له هذه الشعوب من تنكيل، وقتل ودمار، وفتحت المنازل والمؤسسات السورية أبوابها على مصراعيها لاحتضان القادمين من ظلم العثماني وجرائمه بحيث أصبح الأرمن ومازالوا جزءاً عزيزاً من النسيج السوري لهم لغتهم، ومدارسهم، ومهنهم، واحترامهم العالي لدى كل أفراد الشعب السوري وتشكّلت عُرى أخوة جعلت من الأرمن مواطنين سوريين بامتياز.
هذا هو الفرق بين الموقف المبدئي الإنساني ضد أي إجرام بحق الإنسان وبين التمظهر بمظهر المدافع عن حقوق الإنسان حين يكون الاستثمار السياسي مناسباً. وموقف الحكومات والمجتمع الفرنسي من جرائم الإبادة التي قامت من خلالها الحقبة الاستعمارية في الجزائر مثلاً خير دليل على تجنب الحكومات الاستعمارية على إدانة جرائمها وهذا ينسحب على الدول الاستعمارية كلها بالإضافة إلى الدول الاستيطانية التي تأسست على أنقاض الشعوب الأصلية في أميركا وأستراليا وغيرها.
لا شكّ أن كشف حساب الدول في مسائل حقوق الإنسان ليس بالأمر السهل ولكنّ المعيار الحقيقي يجب أن ينطلق من مواقفهم اليوم مما نسمعه ونراه ونعلمه علم اليقين؛ فقد أثبتت الأحداث أن كتابة التاريخ لا تقلّ أهمية عن صناعته وأن بعض المنتصرين الذين كتبوا التاريخ كتبوه من وجهة نظرهم هم فقط، ودفنوا وللأبد قضايا وثقافة ومعارف وحقوق شعوب لم يعرف عالم اليوم عنها إلا النذر اليسير. ولا شك أن الشعوب المستضعفة والمستهدفة من قبل الاستعمار لم تمتلك الأدوات بعد لإيصال صوتها حيث يجب أن يصل أو لكتابة تاريخها كما شهدته هي.
إن معايشة الحرب الإرهابية على سورية للسنوات العشر الماضية ومتابعة اللغة والمقالات والكتب والأفلام والتقارير التي تمّت صياغتها عن هذه الحرب من قبل هؤلاء الذين أضرموا نارها يعتبر درساً للتشكيك بكلّ ما يجود به الأعداء والخصوم حول قضايانا وحافزاً لنا جميعاً لنحرّر لغتهم ونعيد صياغتها، ولنكتب تاريخنا بأيدينا ولنؤسس لمراكز أبحاث متخصصة تعمل على كتابة التاريخ الحقيقي لكلّ الشعوب المستضعفة الواقعة تحت مطرقة الاستعمار والإمبريالية والصهيونية.
لقد مردت شعوب الأرض على محاولة امتلاك وسائل الدفاع عن نفسها ولكنها لم تولِ بعد الوسائل اللغوية والتاريخية والثقافية الأهمية التي تستحقها لأن ارتكاب مجازر الإبادة بحق السكان الأصليين للولايات المتحدة وكندا وأستراليا وبحق الأرمن والسريان في السلطنة العثمانية وبحق الجزائر والتشاد وبلجيكا وأفريقيا، والتي راح ضحيتها الملايين من الشعوب الأبرياء، لم يودِ فقط بحياة الملايين من البشر ويسبب ألاماً إنسانية لا حصر لها وحسب ولكنه أودى أيضاً بتاريخ هذه الشعوب وحضارتها وثقافتها وأفقد الإنسانية جمعاء جزءاً عزيزاً من إرثها الحضاري والذي هو حق وملك لها، وما تبقى من فنون الأبورجينز والأقباط السكان الأصليين لأستراليا واميركا من النذر اليسير من فنون وعمارة وأخلاق ومعتقدات يشي بحجم الخسارة الفادحة للبشرية جمعاء.
ربما لأنّ هذا التاريخ لم يسجل ولم يكتب ولم يتم البحث فيه كما يجب فإن مرتكبيه يتجرؤون على إعادته مرة تلو أخرى معتبرين أن العالم غافل عما يعملون وأن أبعاد جرائمهم تدفن مع ضحاياهم.
اليوم وفي زمن التواصل والتقنيات الحديثة وسهولة إيصال الصوت والصورة لا مبرّر لأي حكومة أو شعب او طرف بالسكوت عمّا يمارس من عقوبات جماعية بحق الفلسطينيين والسوريين واليمنيين والعراقيين؛ إذ إنّ الإجراءات القسرية الأحادية الجانب التي اتخذتها الولايات المتحدة وحصارها للملايين من المدنيين الأبرياء في سوريا وتهديدها الدول الأخرى بخرقها لا تكتسب أيّ صفة قانونية أو شرعية ولكنها ظلم القوة العسكرية المهيمنة المستخدمة لقهر شعب آمن مستقر مسالم فتح أبوابه وحضنه لكل من تعرض لظلم عبر التاريخ وكان عضواً مؤسساً للأمم المتحدة وسعى دائماً كي يكون العالم أكثر وئاماً وأمناً واستقراراً.
إن اللغة الاستعمارية المضلّلة التي تستخدمها الولايات المتحدة والدول الأوروبية لوصف هذه العقوبات هي شريكة في الجريمة لأنهم يصفون العدوان الإرهابي الممنهج على سوريا "بالحرب الأهلية" كما يصفون جريمة الحصار والعقوبات اللّاقانونية بأنها على أشخاص بعينهم بينما هي تطال كل طفل وامرأة وشاب وشيخ في سوريا وهي تستهدف قطاعات الصحة والتعليم والغذاء والزراعة والصناعة وطرائق العيش المتوارثة منذ آلاف السنين وحضارة وهوية هذا البلد.
إن الإجراءات القسرية الأحادية الجانب، المعروفة باسم حصار قيصر وغيرها، المفروضة على سوريا واليمن ترقى إلى جريمة عقوبة جماعية ضد الشعب السوري بعد أن تم ارتكاب جرائم تطهير عرقي لفئات من الشعب السوري عاشت على هذه الأرض متآلفة متحابة منذ آلاف السنين. ولذلك فإن المؤيدين لهذه العقوبات على مختلف الصعد والصامتين عنها هم مشاركون بهذه الجريمة الموصوفة ضد الشعب السوري.
ولكي تضيّق الخناق أكثر على الشعب السوري تقوم الولايات المتحدة كقوة احتلال في شمال شرق سوريا بسرقة القمح والنفط السوريين في وضح النهار وحرمان الشعب السوري من موارده التي هي حق حصري له بحكم كل قوانين الطبيعة والقوانين الدولية والإنسانية.
إذا كانت اليوم منظمة هيومان رايتس ووتش استفاقت لتعترف بأن الكيان الصهيوني يمارس سياسة عنصرية ضد الفلسطينيين بعد أن تمّ قتل مئات الآلاف من الأطفال وتهجير الملايين ومصادرة الأراضي فإن هذه الاعترافات لا تتجاوز كونها محاولة لتحسين سمعة المنظمة والكيان الذي يتم وصفه من قبل القوى الغربية بأنه نظام ديمقراطي؛ فكم سيستغرق الوقت من أجل يقظة ضمير عالمي يسمّي الأشياء بأسمائها فور حدوثها ويعمل جاهداً لوضع حد لإجرام المجرمين ووقف ممارساتهم ورفع الظلم عن الشعوب التي تتعرض للاحتلال والإرهاب والعقوبات التي هي بمثابة حرب إرهابية واقتصادية ظالمة.
إن أحد أشكال التغيير التي طرأت على عالم اليوم هي أن المعركة لم تعد عسكرية فقط بل تليها المعركة الاقتصادية والثقافية والإعلامية والوجودية إلى حدّ بعيد وأن المعاناة من ظلم القوى الغربية ومنها الصهيونية منتشر على مدار الكرة الأرضية بتخطيط وتمويل وتسويق ممنهج تابع لإدارة عمليات واحدة.
ما هي الوسائل الناجعة لمقاومة وتغيير هذا الواقع الظالم؟ لا شكّ أنها تبدأ بحركة شعبية إقليمية دولية ذات تخطيط فكري ولغوي وإعلامي مركّز وممنهج يدرك تماماً حذاقة أدوات الخصوم ويعمل على تقويضها بأدوات أمضى منها لأنها متسلحة بحقوق الشعوب وأحقية ما تعمل من أجله والتعاضد والتكاتف بين كلّ الشعوب المتضررة لتشكل تياراً جارفاً يحق الحق ويزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً.