Logo Dampress

آخر تحديث : الاثنين 17 حزيران 2024   الساعة 02:10:15
دام برس : http://alsham-univ.sy/
دام برس : http://www.
الأصولية والسياسات التعليمية

دام برس :

كتب هاني عضاضة في سلاب نيوز .. أصبحت قدرات التعبئة والتأثير لدى "داعش"، ومختلف التيارات الإسلاموية المتطرفة، مقلقةً ومزعجة. إنّ هذه التيارات تقوم بعمليات استقطاب جماعية للشباب ومختلف الشرائح في المجتمع، فتطيل أمد الصراع الدموي، وتسببُ خراباً أشدّ وخسائر أكبر على كل المستويات، الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
علينا أن نعترف أولاً، أنّ هذه التيارات التكفيرية ليست فقط وليدة المشروع الإستعماري الأميركي لمنطقتي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. إنّ صعود هذه التيارات، ليس "ظاهرةً" قائمةً بحد ذاتها، أو مشروعاً خاصاً بقوى الاستعمار خططت له ونفذته بالكامل من الألف إلى الياء؛ ولو كان لقوى الاستعمار اليد العليا، في الدفع نحو تحوّل تلك التيارات إلى قوة كبيرة، عبر التمويل والتسليح والتجهيز. ولكن للتيارات التكفيرية جذورٌ تاريخية تستمدها من عوامل وظروف معقدة، أحدها العوامل الفكرية والإيديولوجية، التي عادةً ما يهملها الإعلام الرسمي، ولا تعطيها الدول العربية أهميةً، فتلك العوامل مرتبطة حكماً بالسياسات التعليمية التي اتبعتها تلك الدول طوال عقود من الزمن. ولن ننتظر من دولٍ بوليسية، أن تدين نفسها في هذا المجال.
فالعقل البوليسي، يرى النتيجة سبباً بحد ذاته، فيفصلها عن عوامل ظهورها الداخلية، تستحيلُ كأفعى "هايدرا" متعددة الرؤوس، إن قطعنا أحدها نبت آخر. إنّ للإرهاب المتمثل بـ"داعش" وغيرها من التيارات الإسلاموية، حاضنتين أساسيتين: الفقر المادي، والفقر الثقافي. بمعنى آخر، البطالة والأمّية، وهذه الأخيرة ليست بالضرورة أمّية القراءة والكتابة، بل هي أمّية الثقافة والفكر، أو قل العجز عن إنتاجهما. والعجز عن إنتاج الثقافة والمعرفة، ليس مشكلة الإسلام كدينٍ أو تراثٍ فكري، كما أنه ليس مشكلة الأفراد، بل هو سمة ملازمة للبنى الكولونيالية، أي أنظمتنا العربية التابعة والخاضعة لسلطة السياسات النيوليبرالية العالمية.
لهذه الأنظمة الحصة الأكبر من اللوم، ليس فقط لأنها "أخطأت" التقدير في سياساتها، فتلك السياسات هي دورها الوظيفي الطبيعي، كأنظمة تابعة، وبالتالي فهي لم تخطئ، بل أنّ وجودها بالذات، كبنى تابعة، هو الخطأ نفسه. ولهذه الأنظمة التي فرضت سياساتها على الشعوب العربية طوال عقود، يجب أن يتوجّه النقد اليوم، لتكون عملية تظهير الأسباب التاريخية الفعلية لنشوء تلك التيارات التكفيرية وتصلّب عودها وتمدّد حاضنتها.
ففي العالم العربي، أعلى نسبة بطالة وهجرة في العالم، وفيه أيضاً أدنى نسبة قراءة في العالم، وأعلى نسب التسرب المدرسي وعمالة الأطفال في العالم! في ثقافة هذه الأنظمة غير المنتجة، القائمة اقتصاداتها على الريوع، يغدو القطاع التعليمي ربحياً، وتكون إحدى المهمات الأساسية لرأس المال إذاً ضرب المدارس والجامعات الوطنية وخصخصتها، والنتيجة حرمان أعداد كبيرة من الشباب من حق التعلّم والحصول على المعرفة من جهة، وتوسيع العلاقات الزبائنية المناقضة لعلاقات المواطنة الطبيعية كمثل أي دولةٍ مركزيةٍ من جهة أخرى. فيرتمي الشباب، مجبرين، في أحضان التيارات السياسية بغض النظر عن طبيعتها، ويصبح الحصول على التعليم، "خدمةً" من خلالها، لا "حقاً" من خلال الدولة.
كما تزداد معدلات عمالة الأطفال، والسرقة والمخدرات، والانتحار. إنّ خصخصة القطاعات التعليمية إذاً، بمثابة التدمير الذاتي البطيء للمجتمع. وهذا الأمر، بعد تراكمٍ طويلٍ، ينتجُ أرضيةً مناسبة تصول وتجول التيارات التكفيرية في أعماقها، حتى تظهر على السطح في لحظة "ذهولٍ رسمي". وفي هذه الأنظمة، تُصاب المناهج التعليمية والتربوية بالترهّل، وتفرض الطبقات الحاكمة مناهج تعليميةً عصيةً على التطور، كما تمنع مثلاً، خوفاً لا جهلاً، تدريس التاريخ الحديث، كما في لبنان، كي لا يتسلّح الأطفال والشباب بمعرفةٍ عن أحداث التاريخ تمكّنهم من المقارنة والمساءلة، هي أكثر ما تخاف منه الطبقات الحاكمة. وتمنعُ أيضاً، على سبيل المثال، المناهج الفلسفية المختلفة، في تغييبٍ للعقل وفرضٍ للمناهج الاستقرائية والتجريبية على الطلاب، كما أنها تنتقص من قيمة المواد التربوية المدنية والوطنية عبر جعلها مواداً غير أساسية، ولا ننسى بالطبع غياب التطوير الدائم واعتماد النظريات العلمية الحديثة في المواد العلمية.
ومن أسوأ الجوانب في تلك المناهج التعليمية والتربوية، تعليم الدينِ الواحد وتغييب الثقافة الدينية المتنوعة، التي من شأنها أن تخفّف بشكلٍ كبير من حدة التطرف الطائفي لدى الطلاب وتُعلّمهم القدرة على تقبّل الآخر. وفي هذه الأنظمة أيضاً، يُصرف القليل جداً على البحث العلمي والتطوير، بعكس العدو الصهيوني، الذي يخصّص أضعاف أضعافِ ما تخصّصهُ الأنظمة العربية على البحوث والتطوير. وهذه ليست بمسألة استثنائية مؤقتة، بل هي مرتبطة ارتباطاً بنيوياً، بطبيعة الاقتصادات القائمة على الريوع والاستهلاك، فغياب – أو تغييب – القطاعات المنتجة، أي الزراعية والصناعية، واهتمامُ الدولة حصراً بالقطاعات الخدماتية والتجارية، لا يمكنُ أن يرافقه اهتمامٌ بالبحث العلمي والتطوير، وهذه ليست مشكلة دولنا كدول، بل هي طبيعة الرأسمالية التابعة المسيطرة فيها.
إنّ هذه السياسات التعليمية المنتهجة منذ عقود، لها دورٌ كبير – بالإضافة إلى الدور الأساسي، أي الاقتصادي – في تشكيل البيئة الحاضنة للتيارات التكفيرية، فتعطيل العقلِ المخطّطِ للتقدم، وفقدان التعليم علميّته، وتحوّله إلى امتيازٍ للميسورين حصراً بدل أن يكون حقاً لكل فردٍ من أفراد المجتمع، هذه العوامل، الثقافية والتعليمية، تشكّلُ خليطاً مناسباً لتغلغل الإيديولوجيا الأصولية بين الشباب، في ظلّ فراغٍ واسع، وغياب للبدائل التقدمية. سيكون لإهمال الإصلاحات الضرورية في السياسات التعليمية، وتركيز اهتمامات وقدرات الدول العربية بأكملها على الأمن والعسكر، وقعاً وخيماً على الأجيال اللاحقة، التي ستعيشُ في دولٍ فاشية لا تحترم الإنسان. ولو أهدتها الأجيال الحالية، انتصاراً عسكرياً على "داعش". فالانتصار لكي يكون حقيقياً، عليه أن يكون كاملاً. عليه أن يكون معالجةً للأسباب على المدى الطويل، تماماً كما يجب أن تُعالَج النتائج على المدى القصير.

الوسوم (Tags)

داعش   ,  

اقرأ أيضا ...
هل ترغب في التعليق على الموضوع ؟
ملاحظة : جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا علاقة لموقع دام برس الإخباري بمحتواها
الاسم الكامل : *
المدينة :
عنوان التعليق : *
التعليق : *
*
   
Copyright © dampress.net - All rights reserved 2024
Powered by Ten-neT.biz