دام برس :
أسقط القتال لمدة خمسة أيام في عرسال كافة المحاذير السياسية و الأمنية التي أعاقت سابقا عودة الحريري و هبوط طائرته الخاصة في مطار بيروت .
ففي الوقت الذي كانت لا تزال فيه قيادات أمنية وسياسية تجري عملية قطع حساب للخسائر والارباح في عرسال، وتحاول الاستفاقة من صدمة الهجوم المباغت على مواقع الجيش واستكشاف قُطَب التسوية الموجعة، أعطى السعوديون الضوء الأخضر لسعد الحريري للعودة.
هذه العودة ترافقت و تزامنت مع فيض من السيناريوهات حول آفاق المرحلة ، قد يكون أكثرها سذاجة مسارعة مؤيّدي العماد ميشال عون الى توجيه التهنئة لبعضهم البعض بانتخاب «الجنرال» رئيسا يوم الثلاثاء المقبل!
فيما لقي 17 شهيدا من الجيش ، و 19 رهينة من الجيش و لم يعدّوهم كأسرى ، و 17 من قوى الأمن على يد إرهابيين ، إضافة إلى عشرات الجرحى ، هي هدنة مفتوحة على احتمال الاقتتال المتجدّد، غياب الضمانات بعودة المسلّحين إلى عرسال، طالما أن الحسم العسكري لم يحصل أصلا.. والدولة اللبنانية بدت في كامل جهوزيتها لتأمين وسطاء عزّ الطلب للتفاوض مع تنظيمات ارهابية.
حصيلة قاسية جداً على قيادة الجيش أولا، ثم على البلد. باعتقاد كثيرين، «عودة الاعتدال» بتذكرة طائرة كلفتها مليار دولار، يجب أن لا تهمّش المشهد العرسالي، وأن لا تعيده الى الصفوف الخلفية في دائرة الأولويات. باختصار، لأن ليس تسليح الجيش هو أصل الأزمة.
صحيح أن قرار العودة جاء على توقيت عرسال نفسها، ومن أجلها، إلا أن هالة الإنجازات المفترضة والمتوقعة التي أحاطت بصورته منذ لحظة وصوله الى بيروت حرّفت الأنظار عن الحدث البقاعي.
عودته ولدت الكثير من التساؤلات هل سينتخب رئيس الجمهورية قريبا؟ هل تراجعت حظوظ التمديد لمجلس النواب؟ هل أتى سعد الحريري للإشراف شخصيا أيضاً على تنفيذ بنود مبادرته التي اطلقها في إفطار «البيال»؟ هل يودّع تمام سلام السرايا قريبا؟ هل آن أوان التسوية الكبرى؟ والأهم هل قصّ الحريري بعودته شريط الحوار المباشر مع «حزب الله» لا سيّما أن وزراءه في الحكومة عبّدوا له الطريق نحو الضاحية؟
هي جملة اسئلة طرحت على هامش الإقامة الطويلة التي تحدّث عنها الرئيس الحريري. الهواجس تكمن فعلا في أن تبتلع هذه العودة الدروس المستخلصة من عرسال، وأن تحصل التسوية السياسية الكبرى على أنقاضها. وبأن تصوّر العودة بأنها عرس وطني يبرّر القفز فوق الوقائع والحسابات التي قادت الى أن يدفع الجيش هذا الثمن الباهظ، وأن يعفي الحكومة من مسؤوليتها بالقبول بتسوية عاكست كل مصطلحات الحسم التي صدرت عنها بداية، كما يعفي المسؤولين المباشرين عن وصول الأمور الى ما وصلت اليه في عرسال.
اذاً العودة المفاجِئة، برأي متابعين، يجدر ان لا تحيد البوصلة عن أمرين أساسيين:
أولاً في ما يخصّ قيادة الجيش التي رفعت لواء «التعاطي بحكمة» مع واقع الأرض شمالاً وبقاعاً، على مدى ثلاث سنوات ونصف من عمر الأزمة السورية، وبغضّ النظر عن النقاش الدائر حول جدوى قبولها أو عدم قبولها بمبدأ التفاوض مع إرهابيين (وهو أمر بدا مسلّما به في ظل وجود رهائن بيد الجماعات الإرهابية)، فإن العديد من القوى السياسية تطالبها بتقديم توضيحات حول ظروف تواجد مراكز عسكرية على تخوم البلدة مكشوفة الظهر، وغير مجهزة بما يمكن أن يؤهّلها لمواجهة سيناريوهات من هذا النوع، وفي منطقة جردية مفتوحة بالكامل وغير مسيطر عليها، خصوصا أن سيّلاً من التقارير الغربية والاستخبارية كان يتحدّث عن نيّة المسلحين لاعتقال جنود من الجيش وقوى الامن لاستبدالهم بموقوفين لبنانيين وسوريين.
ما حدث في سبت عرسال الأسود يحتاج الى توضيحات مشابهة، تتعدّى الإطار العام الذي تحدث فيه قائد الجيش جان قهوجي في مؤتمره الصحافي غير المسبوق، علما ان هناك من يعتقد بوجود تقصير استخباري واكبه تضعضع في الردّ على الهجوم، في ساعاته الأولى، بسبب عدم توقّع سيناريو الهجوم من جانب المسلحين بالحجم الذي حصل فيه.
ثانيا، ان الجيش، وعلى قدر حاجته الملحّة للتسلّح والتمويل ورفده بالعتاد اللازم والنوعي في مواجهة أوكار الإرهاب، يبدو في أمسّ الحاجة الى بيئة حاضنة لقراراته العسكرية التي تفرضها وقائع الأرض. فنموذج عرسال، مرة أخرى، كشف عمق تداخل المعطى السياسي مع الأمني والعسكري وغَلَبتِه.
كما أن مسارعة قيادات «تيار المستقبل» الى ترتيب جدول اعمال الرئيس الحريري بالحديث عن أولوية تمتين الوحدة الوطنية بانتخاب رئيس جديد وإجراء انتخابات نيابية والترويج لتغيير سياسي كبير يجب، برأي متابعين، أن لا يمنع من أن يكون الاستثمار الاول للحريري في عرسال نفسها، وعلى مستويين.