دام برس:
هذا العنوان مقولة كان يرددها والدي أثناء مقاومة الاستعمار الفرنسي، وأعتقد أن مصدرها من الصين. وما جعلها تطف الآن على ذاكرتي، الحوار الذي جرى على قناة الميادين بتاريخ 17/11/2014 تحت عنوان "العرب إلى المواجهة". تضمن تحليل لخطاب أبو بكر البغدادي، أمير المؤمنين لدولة داعش وأخواتها، الذي أعلنه قبل هذا الحوار بعدة أيام.
شارك في الحوار نخبة من المتحدثين، بينهم الإعلامي عبد الباري عطوان، حيث جاء في تحليله لشخصية البغدادي، بأنه مثقف حاصل على درجة الدكتوراه، ذو خلق رفيع، ذكي مفكر حسب شهادة زملائه في أحد سجون بغداد، قبل إطلاق سراحه. ويخلص للقول: أنه لا يوجد مانع من تصديق نواياه في إقامة دولة إسلامية، تمتد إلى روما (كما جاء في خطابه)، والتي تشمل كافة الدول العربية والإسلامية بعد تحريرها، وعليه لا يمكن وصفه، بحال من الأحوال، أنه أداة لتنفيذ مهمة محددة، حسب زعم زملائه في الحوار.
أقرانه في هذا الحوار، ردوا عليه ما فيه الكفاية، وفندوا حججه، ويبقى هنالك موضوع لم يتطرق له الحوار أود طرحه في هذا المقال.
بداية أشير، إلى أني أكن كل احترام ومحبة للإعلامي عطوان، لدفاعه عن القضايا العربية، خلال عقود، وخصوصاً القضية الفلسطينية، أمّ القضايا العربية. وهو يتمتع بمنطق سليم يقنع المستمع إليه ويثير حماسه.
ولكن مع الأسف في حديثه عن البغدادي، خرج عن أبسط قواعد المنطق، حيث طرح أفكاراً في غاية السذاجة، وشعرت، وأنا أستمع له، كأن مُحدثي طالب مراهق في الإعدادية، عندما قال: سبق للمسلمين أن وصلوا إلى ضواحي مدينة فينا، واحتلوا الأندلس...، لذلك لا يوجد مبالغة في خطاب البغدادي، ونسي أو تناسى (وهو مقيم في لندن) أن حروب اليوم، ليست بالسيف والترس، و العضلات، بل بالعلم والتكنولوجيا. وأن هنالك مخزون من القنابل النووية، تكفي لتفجير الأرض بمن عليها!!!
يظنون بقولهم "الله أكبر" فقط، ينالون رضى الخالق، ليفتح لهم الضوء الأخضر لاجتياح العالم! وينسون أن الذات اللاهية لا تَنْفَل بالعواطف وردود الأفعال كالإنسان، وهي تسيّر الكون من خلال منظومة من النواميس الأزلية، تبدأها بقوله تعالى:
{وإن ليس للإنسان إلا ما سعى، وإن سعيه سوف يرى، ثم نجزيه الجزاء الأوفى}.
وهذا القانون الأزلي يخص الإنسان وينعكس على الجماعات في أي مكان وزمان. وبتقديريأن سعينا اليوم، لا يكفي للحفاظ على أوطاننا، وهو الواقع الذي نعيشه.
مهما كان المستوى الفكري للإنسان، لا يمكنه تصديق، أن البغدادي يسعى إلى إقامة دولة إسلامية، وليس لديه مهمة أخرى، لا علاقة لها بما يعلنه، وذلك على ضوء مراقبة الحقائق والمشاهد التي تبثها الفضائيات!.
هناك مثل عربي "البعرة تدل على البعير". فهل القتل لمجرد القتل، والإبداع في القتل يصل إلى المعس بالأقدام... وتدمير محطات الطاقة وشبكات الكهرباء... وهدم المدارس ودور العبادة... والسيطرة على مصادر المياه بغية حرمان الإنسان والحيوان والنبات من الماء... هل كل ذلك مؤشراً لصدق نواياه في إقامة دولة إسلامية؟ وهل هذا يتماشى مع سلوكيات الفتوحات الإسلامية التي حدثنا عنها التاريخ؟
كلا، إنهم مجرد صواعق تسعى لتفجير الإسلام من داخله، لتحقيق حلم أعداء المسلمين منذ قرون.
خسئتم، لن تفلحوا، فهذه الصواعق ستنهار مهما طال بها الزمن، والنتيجة، إزالة رسوبات الجهل عن الإسلام، ليبدو ساطعاً مشرقاً، منارة للسلام والرحمة والمحبة كما كان في بداية الدعوة.
بتقديري أن الإعلامي عطوان ليس غبياً، لينحدر إلى هذا المستوى من النقاش، بل لديه هدف آخر، وهو كسب رضى البغدادي، عسى أن يحظى بلقائه، ويسجل سبقاً صحفياً يتحدث عنه العالم! بدليل أن سبق واتبع نفس الأسلوب، وحظي بلقاء أسامة بن لادن في جبال طوره بوره في أفغانستان، ولكن في حينه كان حديثه مقنعاً إلى حدٍ ما، لأنه مهما كانت خلفية ابن لادن فلا يمكن أن يتهم بالعمالة، كما لم يصرح بما أعلنه البغدادي، وأهم من كل هذا، أن من حاربهم ابن لادن، يختلف كلياً عن من يعتبرهم البغدادي اليوم أعداؤه.
إن صح تفسيري هذا، في سبب تحليل عطوان لخطاب البغدادي، فعذراً أقول: هذا نوع من النفاق، ونحن اليوم في مرحلة بأشد الحاجة للكلمة الصادقة المخلصة.
في هذا السياق، من المؤلم أن أفصح عن حقيقة مرة: أننا ننبهر بالمظاهر، حتى تعمى أبصارنا عن الواقع. لذلك، بالنسبة لنا، اللباس والحذاء والسيارة... والشهادة (مهما كان سندها العلي) من أهم مكونات المواطن العربي!
وأبسط دليل على ذلك: راقب عزيزي القارئ، نشرات الأخبار في الفضائيات، وقارن بين بساطة قاعة اجتماع وزراء الصهاينة، وفخامة نظيرتها في بعض الدول العربية! (العقول الفارغة بحاجة إلى كراسي ضخمة لتغطيها).
لذلك، فمن هذا المنطلق، قد يكون سبب انبهار عطوان بشخصية البغدادي (إن لم يكن يسعى إلى لقائه) كونه يحمل درجة الدكتوراه وشهادة زملائه في السجن... تماماً كما انبهرنا بقادة الانقلابات التي شهدها الوطن العربي، على امتداد عقود، بمجرد سماعنا إلى الكلمات المنمقة في (بيان رقم واحد). في جميع الأحوال العميل يزداد خطورة كلما زاد علماً، وثقافة، وتهذيباً...!
في الستينيات من القرن المنصرم، كنت أحد العاملين في معمل يتصف بالسرية، وكان يعمل فيه مهندس، خريج أكبر الجامعات الأجنبية، يتمتع بعلاقة مميزة مع العاملين في هذا المعمل، تصل إلى حد إقراضهم المال، وإعطائهم الإعانات حين يمرض أحد أفراد أسرهم، يوزع الحلوى في المناسبات... والأهم من كل هذا، حين يتحدث عن فلسطين تظن نفسك غريباً عنها. لذلك استحوذ على محبة الكثيرين وثقة رؤوسائه له، وصل لأن يرشح لإدارة المعمل. والعناية الإلهية حالت دون ذلك، حين اكتشف أمره كونه عميلاً لإسرائيل!
ومن يتذكر بداية ثورة الثامن من آذار، كيف لمعت شخصية يوسف عبد الله، المغترب القادم من البرازيل لدعم الثورة، واستطاع خلال فترة قصيرة، لما يتمتع به من شخصية مميزة، أن يكّون علاقات متينة مع قادة الثورة. ثم انكشف أمره بأنه إسرائيلي يدعى كوهين وانتهى به المطاف إلى حبل المشنقة.
والخلاصة أن لُباس المثالية، لا تعكس حقيقة الإنسان ونواياه، وهذا يتماشى مع عنوان المقال.
لقد حان الوقت، بعد التجارب التي مررنا بها، أن لا نهتم بالقشور، ونبحث عن الحقيقة. كفانا ضياعاً تعجز، حتى اليوم، عن اختيار مسارنا الصحيح.