دام برس:
الفئات المثقفة و الغيورة على مصلحة الوطن و أبنائه ، مطالبة بأن تشارك بأفكارها لإنقاذ ما تبقى من سوريا بعد أن ثبت أن الحلول الأخرى التي مورست أثبتت فشلها و لم تخلف سوى القتل و إزهاق الأرواح و تهجير الفقراء و تقطيع الأواصر ما بين أبناء الشعب الواحد ، و غَرِقَ في البحارِ البعيدة آلافُ السوريين الذين أرادوا الهروب من الموت المحقق لوقوعهم ما بين مطرقة و سندان القوى المتقاتلة ، فاستقبلتهم أمواجُ البحارِ العاتية لتبتلعهم إلى الأبد.
الجميع وصلَ إلى قناعةٍ تامة بأن خلاص واستعادة سورية ألقها و دورها الأساس في هذه المنطقة من العالم لن يتحقق إلا من خلال اعتماد الحل السياسي ، كيف نستطيع دعم الحل السياسي ؟ ، انطلاقاً من القراءة الواقعية للسوريين الذين يتوزعون مابين مكوناتٍ عديدة أهمها النظام و معه الموالاة ، و معارضة الداخل التائهة و معارضة الخارج المتشرذمة التي تتمثل حتى الآن بهيكلية الائتلاف بشكلٍ أو بآخر ، و من خلال المقاربة ما بين مصالح القوى الإقليمية و الدولية و مصالح السوريين فقد أصبحت القضية السورية في مهب الريح ما لم يصحُ الجميع من سباتهم و أحلامهم الوردية .
لفهم القضية لا بد من المبادرة باستجلاء رؤية كل من الفر قاء حول المشكلة السورية و طبيعة الحل ، فالجميع يعلن القبول بالحل السياسي و الجميع يتفق على أن الشعب السوري واحد متعدد الانتماءات و الاثنيات و الطوائف ، و لا شك أن هذه التعددية تمثل ظاهرة صحية في أيام السلم تشير إلى غنى الأمة بموروثها الحضاري و القيمي ، إلا أن هذه التعددية استُغلت و استُعملت سلباً من قبل بعض الأطراف المنغمسة في المستنقع السوري و القوى الدولية و الإقليمية و ضد السوريين و مصالحهم الحيوية ، ما أصبح حقيقةً واضحة أن جهتي النظام و الائتلاف تقفان على طرفي نقيض في المواقف بما ترسخ لهما من دعم و تأييد من القوى الدولية و الإقليمية التي تضع مصالحها قبل مصالح الشعب السوري و جراحه ، من جهةٍ أخرى تعاني معارضة الداخل من تجاذبات مختلفة تذكيها محاولات الاختراق التي تتعرض لها بهدف تفتيتها و تصنيع معارضات أخرى على حساب سابقاتها ، و بكلِ أسى و أسف لم يبقَ لغالبية هذه المعارضات المختلفة في الداخل سوى المظاهر البروتوكولية و اللقاءات التي لا تسمن و لا تغني من جوع ، فهي تتسابق في كسب ود الدوائر الخارجية و ما تبقى من سفارات وكأن الجسور التي تبنيها هنا و هناك هي التي ستعبر بها إلى قلوب السوريين و عواطفهم ، و لم يعد سراً أن تشرذمات معارضة الداخل أفقدتها ثقلها و فعاليتها و ثقة السوريين بها .
المنطق يؤكد أن معارضة الداخل هي الأقرب لمعاناة السوريين و التحدث باسمهم و إن اختلاط أوراق المعارضة حصراً في الداخل لن يخدم القضية السورية ، فوحدة المعارضة الحقيقية لن تكون في خدمة فئة بحد ذاتها من السوريين و إنما ستكون في خدمة سوريا و السوريين بما في ذلك النظام ، ففي جميع بلاد العالم المتحضر توجد معارضة مدنية حقيقية تشكل السلطة الرابعة أو الخامسة التي تعمل على خدمة الوطن و تصويب المسار و درء الفساد ، إن تفتيت المعارضة في الداخل و التشجيع على ذلك لن يخدم الوطن السوري و حتماً لن يخدم مصلحة النظام على المدى البعيد ، و الواقعية ترجح أن من مصلحة النظام الوصول إلى حل ملائم ينهي العذابات التي تعرض لها السوريون كائناً ما كان انتماؤهم و توجههم
إن التقديرات المختلفة و المتعددة المصادر ، تدعو لتساؤلٍ حقيقي ؟ فهي تشير إلى فقد حياة ما يزيد عن مئتي ألف مواطن سوري على الأقل من المحسوبين على المعارضة و من المدنيين العزل الذين لا يحملون أي انتماء لأي جهةٍ سوى تواجدِهم في مناطق الصراع ، كما يتردد أن حياة ما يقرب من خمسٍ و ستين ألف مواطن على الأقل من المحسوبين على الموالاة و من العناصر المدنية المتواجدة في مناطق سيطرتها قد فقدت ، أي أن الشعب السوري فقد ما يزيد عن مئتين و خمسٍ و ستين ألف مواطن كأدنى رقم خلال السنوات الأربع الماضية ، و إذا كان عدد سكان سورية حسب الإحصائيات المختلفة يصل إلى ما يقارب ثلاثةٍ و عشرون مليوناً فإن نسبة من فقدوا أرواحهم تصل إلى 1.15% من تعداد الشعب السوري بصرف النظر عن كون هؤلاء من المعارضة أو الموالاة أو الفئات الصامتة ، في نفس الوقت إذا تصورنا أن هناك ما يقرب من خمسمئة ألف مواطن و مواطنة مفقودين ما بين الخطف و الاعتقال و التغييب فهذا يعني أن هناك نسبة لا تقل عن 2.17 % من عديد الشعب السوري ما بين مغيب و مخطوف و معتقل ، كما تشير الاحصائيات إلى أن ما بين 8 – 10 ملايين مواطن سوري هاجروا أو نزحوا خارج سورية أو داخلها في هجرةٍ داخلية أي بنسبة تقريبية تصل إلى 40 % من السوريين ، ألا يعني هذا أن هناك تغييراً ديموغرافياً يجري في سورية بقصدٍ أو بغير قصد .
إذا أخذنا جميع هذه الأرقام و نسبها ، هل يمكن اتهام كل هؤلاء سواءٌ من الشهداء أو المغيبين بأنهم إرهابيون .
لقد استبيحت الأراضي السورية من قبل القوى الإرهابية الغريبة عن الشعب السوري ، و للقضاء على الإرهاب لا بد من مراجعة كل ما جرى في سوريا و دراسة كل مرحلة بعمق و روية ، و كيف يمكن لأصحاب القرار و الذين يغارون على الوطن و وحدته الجغرافية و تعدديته الديمغرافية الإتكاء على الشعب الذي فقد أرواح 1.15% و 2.17% مغيبين و معتقلين و 40 % مهجرين و مقتلعين من ديارهم ،و كيف يمكن مخاطبة الشعب و إقناعه بعد كل هذه التضحيات بأن المشكلة في سورية هي محصورة فقط في الحرب على الإرهاب ، و لنقبل جدلاً بهذه النظرية كيف يمكن لأي قيادة أو سلطة أن تنجح في مقاومة الإرهاب دون إعادة ترتيب أوراق الوطن على أسس المواطنة الحقيقية ، و من قال أن أياً من الفر قاء يمكنه أن يملك الحقيقة المطلقة .
من الطبيعي أن يبقى السلاح بيد الدولة فمن أهدافه حماية المواطنين من العدو الخارجي و من العدو الداخلي الذي يتمثل بالإرهاب القادم من خارج الحدود و من عصابات القتلة و المجرمين وعصابات داعش و غيرها و كثيرٌ منهم من شملتهم مراسيم العفو المتتالية.
إن تحييد السلاح يعني التوقف عن القتل و القتل المضاد و التوقف عن معاقبة المناطق التي أصبحت خارج سلطة النظام بأصناف العقوبات من بعيد و التي لا تميز بين المدنيين العزل والمسلحين ، إذا كان الفر قاء يعملون من أجل سورية الوطن ، فلا بد من مصالحة حقيقية يتم فيها اعتراف الجميع بضرورة البدء من جديد و استعادة اللحمة و القضاء على الإرهاب بوقوف الجميع سداً منيعاً في وجهه ، المصالحات التي تجري الآن تتم من خلال فرض الأمر الواقع و التجويع و الإذعان على هؤلاء الذين تُفرض عليهم شروط المصالحة فكيف يمكن للنظام أن يضمن ولاءهم ، المؤمل أن تتغلب المعايير الإنسانية في التعامل و التوقف عن كيل و تبادل الاتهامات ما بين الفرقاء ، في حين أن العدو الجاثم على حدود الوطن و الذي اخترق حدود الوطن لا يميز بين ابنائه .
لا بد من استعادة سلطة و هيبة الدولة فهناك ظاهرة لا توجد إلا في المجتمعات المتخلفة ، فالذي يسير في الشارع السوري أينما كان لم يعد يفاجأ بالأعداد الهائلة من المواطنين العاديين و من الفئات العاملة و الفقيرة الذين يستغلون الألبسة المموهة ( المبرقعة ) لحماية أنفسهم أو التعدي على حقوق الآخرين ، و كيف للمواطن البسيط أن يميز ما بين هؤلاء و هؤلاء ، فاللباس المموه لم يعد حكراً على عناصر الجيش و العناصر الأمنية و إنما انتشر في كل المناطق و كل المستويات الاجتماعية حتى أصبح جواز المرور للعديد من المخالفات و التجاوزات و التعديات .
الطريق إلى الخلاص واضح و نير لا يمكن دخوله إلا من خلال تحقيق العدالة و الحرية و المواطنة ، فهذه البلاد كما يدعي جميع الفرقاء أنها لكل أبناء الوطن فلا بد أن يكونوا شركاء في تقرير مصيرها و مسيرتها ، و للأسف يبدو أن القرن الواحد و العشرين لم يعد كما تصور الجميع ، قرن الخلاص و الحرية و الانعتاق ، بل و في كل أنحاء العالم أضحى قرن القمع و انتهاك الحريات و سلب الكرامات ، فكل الشعوب باتت ترزح تحت نير العبودية و القمع بتزكيةٍ أمريكية ، حيث بات التضييق على الحريات المنهج المعتمد تحت مسمى المحافظة على السلم الأهلي ، متناسين أن القمع يشكل الوقود الحقيقي للتطرف و أن الثقافة المجتمعية هي البلسم ، و أن محاربة البطالة تشكل العامل الأساس في قطع الطريق على الجريمة ، و أن الحرية هي المقدمة الأولى للديمقراطية ، فهل نستطيع في محيطنا أن نخرج من هذه الدائرة التي وُضعنا فيها تحت مسميات محاربة الإرهاب .
لا بد من بادرة حسنة ترطب الخواطر و تلئم الجراح لتكون بلسماً للذين فقدوا أحباءَهم و فلذات أكبادهم و دعامات بيوتهم و لا بد من مراجعةٍ حقيقية لما جرى خلال السنوات الأربع الماضية وتحليل النتائج و ممارسة النقد البناء ، و إظهار الوعي الحقيقي بإدراك المؤامرة التي تعمل إسرائيل على تنفيذها و تخطط فيها لأن تكون الدولة الأكبر و الأقوى في المحيط الشرق الأوسطي ، ومن ورائها القوى الدولية التي لا تبني مواقفها إلا من خلال مصالحها الخاصة قبل أي شيء آخر ، إن الالتزام بأهداف المقاومة و الممانعة يحتم على المؤمنين بها تحقيق الظروف الملائمة كي تقف شعوب المنطقة كتلةً واحدة و سداً منيعاً ضد الأطماع الصهيونية و الأطماع الخارجية التي تحيط بنا من كلِ جانب تريدُ أن تفقدنا هويتنا الوطنية و انتماءنا و لن تستطيع القوى الغازية من وراء الحدود أن تقدم الحرية و العدالة للسوريين و أن تكون البديل لاستعادة سورية منعتها و قوتها و ريادتها .
رؤية كفى كفى