الرئيسية  /  كتاب وآراء

حق الرد .. بقلم الدكتور عفيف دلا


دام برس :

لم تكن يوماً الحروب إلا انعكاساً لصراع إرادات بين أطرافها .. وخاصة تلك التي تستطيل في عمر الزمن نتيجة وجود تكافؤ نسبي بين أطرافها، حيث يتحول الصراع في مرحلة معينة منه إلى صراع استنزاف قوى واختبار قدرة تحمل وبمعنى آخر صراع كسر عظم وإخضاع إرادات بكل الوسائل الممكنة أو المتبقية مما لم يستخدم بعد في الصراع أو ذاك الذي ما زال صالحاً للاستخدام مرة أخرى.

والصراع العربي الصهيوني يعتبر من أشد وأطول الصراعات التي شهدها التاريخ المعاصر للمنطقة ، وسبب استطالة هذا الصراع هو في أن الجبهات لم تعد تقليدية والأدوات لم تعد مرئية ومادية بالضرورة فهو في جوهره صراع وجود حقاً وليس صراع حدود ولذلك فإن هذا الصراع يرتكز في عمقه إلى إخضاع البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وليس فقط إرادة الأنظمة السياسية وتطويعها، فالنتيجة الحقيقية تكون عندما تتغير ذهنية أحد أطراف الصراع ومنظوره تجاه الأخر فيصبح العدو صديقاً ويتم تصنيع عدو أو مجموعة أعداء آخرين في داخل بيئة الطرف الأول المكانية والجيوسياسية والاجتماعية والفكرية ، بحيث يغدو الصراع ذاتياً يغذي نفسه بنفسه ويخلق أسباباً لاستمراره بعيداً عن العدو الرئيسي وأسباب الصراع الحقيقية الأصيلة .. وبالتالي تدخل كل البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في تلك البيئة في مرحلة تآكل واهتلاك داخلي وينطلق الصراع بين القوى الذاتية على المستويات كافة بين مجموعة قوى معرقلة مفاهيمياً وعملياتياً وبين قوى تسعى إلى تصويب الاختلالات الحاصلة نتيجة فوضى الحركة وضبابية الرؤية لدى القوى الأخرى التي يكون جزء منها بالأساس مرتبطاً وظيفياً بالعدو لتشكيل تلك الضبابية والاختلالات المقصودة في كل بنى المجتمع وبيئته.

أما بالنسبة لحدود الاشتباك فهي متغيرة أيضاً ففي الوقت الذي كنا نتحدث فيها عن الامة العربية من جهة والكيان الصهيوني من جهة أخرى في مكان وجوده في قلب فلسطين المحتلة ، بتنا اليوم نتحدث عن حدود اشتباك مغايرة تماماً عن تلك ، وأمسينا نتحدث عن حدود اشتباك داخل كل قطر عربي على حدى أو بين مجموعة دول عربية ودول أخرى بعيداً عن ساحة الكيان الصهيوني السياسية والعسكرية ، ولذلك كان من الضروري حقاً تصنيع حدود اشتباك جديدة لمعارك جديدة أيضاً بمسميات مختلفة منها ما هو طائفي أو عرقي أو سياسي أو اقتصادي وبالتوازي التركيز على هوية العدو الجديد وتسويق ذلك اعلامياً على أوسع نطاق مما يرسخ في ذهنية المجتمعات العربية فكرة العدو الجديد وصورته التي يتم شيطنتها بشكل ممنهج _وهو إيران اليوم_ وذلك لزرع القناعة في عقول الاجيال اللاحقة بما يريد العدو الصهيوني تعميمه وتكريسه كقناعات جديدة حول مفهوم الصراع وهويته.

وعلى هذا الأساس كان العدو الصهيوني يتجنب المواجهة المباشرة مع دول منظومة المقاومة ولذلك غدت استراتيجية مواجهة هذه المنظومة في هذه المرحلة تقوم على مبدأ " الحرب بالوكالة " دون الحاجة لوضع قدرات العدو الصهيوني العسكرية على محك التجربة العملية المباشرة مستفيدين مما حدث في حرب تموز 2006 ، لكن العدو الصهيوني اضطر في مرات عدة للتدخل مباشرة في الحرب على سورية لدعم مرتزقته الإرهابيين عندما كانوا يتقهقرون تحت ضربات الجيش العربي السوري وحلفائه ، لكن هذا التدخل العدواني كان يراعى فيه معايير الضربة الخاطفة والسريعة لتجنب أي رد فعل من قبل الدفاعات الجوية السورية وفعلاً تم توجيه ضربات عدة لعدد من المواقع العسكرية السورية بصواريخ موجهة وعبر طائرات متطورة دون أن تدخل المجال الجوي السوري أحياناً فتقوم بتوجيه ضرباتها  على خط الحدود السورية اللبنانية او من عمق فلسطين المحتلة ، وقد ظنت فعلاً أنها تستطيع فعل ذلك متى شاءت ومتى أرادت دون قدرة للجيش السوري على الرد ، فكان بيان الجيش العربي السوري يتحدث عن الاحتفاظ بحق الرد في الزمان والمكان المناسبين ، ولتكرار الاعتداءات الصهيونية كان البعض يتهكم على هذه العبارة ظناً أنها حالة إنشائية لا أكثر تعبر عن العجز أكثر مما قد تعبره عن قوة كامنة او قدرة حقيقية على الرد.

لكن اليوم في العاشر من شباط كان الزمان والمكان المناسبان حقاً ، فكان الرد السوري صاعقاً على ما اعتبره العدو الصهيوني عادة له فقام سرب طائرات معادية بالاعتداء على أهداف عسكرية سورية فما كان من الدفاعات الجوية السورية إلا صد الاعتداء وإسقاط أكثر من طائرة من السرب المعادي اعترف العدو بواحدة منها سقطت في الجليل الاعلى وقتل الطيار الصهيوني متأثراً بجراحه وأغلق مطار بن غوريون الصهيوني لساعات عدة مع إنزال المستوطنين إلى الملاجئ في المنطقة الشمالية من فلسطين المحتلة خوفاً ورعباً من سقوط الصواريخ السورية في تلك المنطقة بعد ان تم إطلاق أكثر من اثني عشر صاروخاً من منظومة اس 200 الدفاعية فأسقطت مباشرة مقاتلة صهيونية من طراز اف 16 .

نعم قد أتى الزمان المناسب للرد في بيئة اشتباك سياسي وعسكري دولي كبير في الساحة السورية، فقد حاولت الولايات المتحدة ومن معها التصعيد العسكري في كل مكان تستطيع فيه ذلك لتقويض نتائج مؤتمر سوتشي الروسي وعدم إطلاق المسار السياسي في سورية بل بقاء التصعيد العسكري هو المتحكم في المشهد السوري وبالتوازي كان الاعتداء الامريكي على رتل عسكري سوري شرق الفرات ثم أتى العدوان الصهيوني لإكمال مشروع التصعيد فكان الرد الصاعق السوري الذي لم يتوقف عن حدود إسقاط طائرة صهيونية بل تغيير قواعد الاشتباك مع الصهيوني برمتها وإعادة ضبطها وفق معايير الجيش العربي السوري هذه المرة .

لذلك اليوم بات من المنطقي التفكير بمعادلات جديدة في ساحة الصراع السورية أجبرت الأطراف الأصيلة على التدخل والتأثر مباشرة بارتدادات العدوان وليس المراقبة والتحكم عن بعد بمجريات الأحداث وبالتالي إعادة الحسابات حول الخسائر المحتملة من أي تأثر سلبي لتدخلها ينعكس استراتيجياً عليها وعلى مرتزقتها المتحركين في الداخل السوري، وبمعنى آخر بات من الممكن جداً ان نتحدث عن تكبيل للعدو الصهيوني ومن ورائه الولايات المتحدة في حدود رسمها الجيش العربي السوري وحلفاؤه مع استمرار تقدمه الميداني في محيط إدلب وعلى بقية المحاور التي تتواجد فيها قوى إرهابية مسلحة . وبالتالي تم احتواء ورقة التصعيد العسكري التي أرادتها الولايات المتحدة ومن معها نسبياً لحساب إعادة التركيز على ضرورة إطلاق مسار سوتشي السياسي.

أما الإنجاز الاستراتيجي حقاً هو في إعادة ضبط البوصلة جماهيرياً حول العدو الأساسي وهويته وحقيقة الصراع في المنطقة ، الأمر الذي أعاد إلى الأذهان المرهقة ذاكرتها نصاعة وجذوة القوة والقدرة على الرد على العدوان وحقيقة ومشروعية القضية القومية والصراع مع العدو الصهيوني وما يؤثر ذلك على إعادة استنهاض الشارع العربي مجدداً ووضع كل أولئك المتآمرين على القضية والعروبة والمروجين للقبول بالصهيوني على أنه أمر واقع ونسف تلك اللغة النضالية باعتبارها لغة خشبية والتسويق للغة الخنوع والإذعان كلغة واقعية لدفع الشارع لاستمراء وجود إسرائيل في قلب الأمة وبالتالي قبول مشروعها أياً كان فهو مشروع لا سبيل لمقاومته من قبل أحد ، فالنضال بات في قاموس إذعانهم لغة رومانسية لا تمت للواقع بصلة لا بل لغة خرافية ليس بمقدور أحد التكلم بها ..

هو ذا كل زيفهم اليوم يسقط مع أقنعتهم ويعود للأصالة معناها ومبناها ويهتز وجدان الشارع العربي مجدداً محركاً رقاد الذاكرة نافخاً فيها روح الحياة مجدداً ،، لنقف جميعاً امام ذاتنا حقاً ونمسح كل ذاك الركام على مرآة ذاتنا لنرى حقيقتنا الناصعة وحقيقة هويتنا فندرك من نحن .. وندرك أن كل تلك التراكمات من التشويه والتزييف لن تلغي حقيقة أن الصراع مع العدو الصهيوني هو صراع وجود وهو العدو الاوحد ولا أحد غيره ، ولتعلو راية الامة العربية مجدداً فليس هناك من خيار سوى أن نكون معاً أقوياء بما نملكه من إرادة بوما نمارسه من نضال حقيقي يعبر عن تاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا الذي لن يكون إلا كما نريد نحن لا كما يريده الغرباء .
     

Copyrights © dampress.net

المصدر:   http://www.dampress.net/?page=show_det&category_id=48&id=85181