دام برس:

تعد ملحمة جلجامش الرافدية، أهم وأكمل عمل إبداعي أسطوري شعري، كتبت سطوره على الرقم الكتابية المسمارية منذ العهد السومري في المرحلة الواقعة بين (2750و2350) قبل الميلاد عن الملك جلجامش الذي عاش في مدينة أوروك الواقعة في وادي الرافدين على الضفة الشرقية لنهر الفرات، وقد تشكلت حول شخصه باقة من الحكايات الأسطورية والبطولية، التي تسرد أخبار أعماله الخارقة، وسعيه المستميت إلى معرفة سر الحياة الخالدة.التي وجدت  في مكتبة نينوى، وهي الصيغة التي كشفتها أعمال التنقيب الأثري من مكتبة قصر الملك  .

تعد الملحمة أهم انتاج أدبي في تاريخ البشرية، وذلك من خلال إبراز المضامين الفكرية التي تحملها، ومن خلال الأسلوب الأدبي الفذ الذي حمل القضايا والهموم الإنسانية، والمتمثلة في التحرر والخلاص من الهيمنة بمختلف أشكالها .

تستعرض الملحمة العديد من القضايا وأهمها الحرية والديمقراطية , تعظيم الفكر الانساني وكشف الغموض والغباش عن العقل , الآلهة , المرأة ودورها في المجتمع , الجنس , الوحش أنكيدوا وانخراطه في المجتمع الانساني بسسب امرأة , جلجامش وأنكيدو في غابة الأرز لقتل الحارس الشرير خمبابا ,  جلجامش وعشتار ,الثور السماوي , رحلة البحث عن الخلود , قصة الطوفان  والسفينة , العودة والفناء .

لقد ذكرني بهذه الملحمة العظيمة التي قرأتها قبل ثلاثين عاما" بالأوضاع التي كانت سائدة قبل خمسة آلاف سنة وبين الأوضاع التي نعيشها اليوم في القرن الحادي والعشرين بفضل هؤلاء الرعاع  والوحوش الذين أتو لينهشوا أجسادنا من كل حدب وصوب .وبين الحرية والديمقراطية التي كانت سائدة في ذلك الزمن  وبين حرية الفكر الوهابي المجرم الذي خرّج لنا كل هذه الوحوش البشرية التي لا تعرف سوى القتل والاجرام و النكاح  .

فقد كان هناك نظام ديمقراطي فريد في مدينة اورك، تمثل في مجلس شيوخ (الحكماء) ومجلس شباب (المحاربين)، وكانا يعقدان الاجتماعات للنظر في أمر البلاد كلما دعت الحاجة. أن هذا الأسلوب الديمقراطي كان سمة ذلك العصر، وكانت مثل هذه الاجتماعات تتكرر كلما تطلب الأمر. ها هي إحدى الاجتماعات للنظر في أمر   (أجا) حاكم مدينة كيش الذي أرسل مبعوثين إلى اوروك، يحملون معهم إنذارا نهائيا لتسليم اوروك للملك الغازي، وكان قرار الشيوخ بتسليم المدينة، ولكن مجلس الشباب اجتمع وبحث الأمر ولم يوافق على التسليم، وقد أثبت قرارهم تاريخيا. وها هو مجلس الشيوخ في اورك يجتمع للنظر في سفر جلجامش وانكيدو إلى غابة الأرز.ً

نجد هنا المعارضة من الشيوخ بكل عنفوانها، فهم يخاطبون الملك بكلمات حادة ( أنت شاب ... كثير الحماسة وطموحك ... بعيدا") ,وهذا يؤكد حرية الاختلاف وحرية الرأي وحرية المعارضة، وهذه المعارضة مبنية على حجج ومعلومات، وليس فقط لمجرد الاختلاف والمعارضة، فكان الخوف على جلجامش باني مدينة اوروك وسيدها، هو ما دفعهم لمثل هذا الكلام الغليظ، وجعلهم يذكرون أمامه معلوماتهم عن حارس الغابة ـ خمبابا ـ، الذي يمتلك قوة كبيرة تتجاوز قوة البشر بكثير.

إننا نفتخر عندما نفكر بهذه المدينة التي مارست الديمقراطية قبل أكثر من 4700 عام،وهذا الحضور لمجلس الشورى في اوروك ، ويجعلنا نندفع أكثرلتطوير هذا  الفعل الاجتماعي الذي يحمي الأمة من كافة الأخطار والتهديدات والمشكلات الداخلية والخارجية، ونحن في هذا الزمن الرديئ يحاصرنا الإرهاب ووحوشه الذي صنعه أعداؤنا وأذنابهم في مهلكة آل سعود  من كل جانب.

مازال الغربيون إلى غاية هذه الساعة يفتخرون بمجلس شيوخ روما، الذي وجد حوالي 500 ق م، ونحن أصحاب مجلس الشيوخ والشباب قبلهم ب 2200 عام، لا نذكر تاريخنا الديمقراطي المشرف، ولا نعرف عنه شيئا.

لقد كان الوضع في أوراك عصرا ذهبيا لما تم تحقيقه من الحرية واحترام فكر الإنسان. وكانت الحرية فيه تحلق راياتها عاليا،فقد سمحت أن تكتب عما يجول في نفس الإنسان من مشاعر ورغبات دون قيد أو رقيب، وأحداث الملحمة  تؤكد على أن السومريين كانوا يعظمون المرأة ويعتبرونها من عناصر المجتمع الفاعلة، فهي كائن فاعل له دوره في الحياة، هذا الدور للمرأة جعل الملحمة تخرج عن المألوف والمنطقي، فبدلا من مواجهة القوة بالقوة جاءت المواجهة بين القوة المتوحشة وقوة العاطفة.

إن إرادة الإنسان تبرز وتسطع في الملحمة، وكأنها شمس تطرد وتحارب الظلام، ونستطيع التأكيد ـ بعد قراءة  الملحمة ـ أن أول وأعظم عمل أدبي تناول مسألة الإرادة الإنسانية هو ملحمة جلجامش، لأنها ترسخ فكرة الإصرار والتصميم للحصول على الحرية والانطلاق نحو الفضاء الرحب، متخطية كل الصعاب والعقبات ومتجاوزة كل التحديات.

وهكذا يتأكد لنا  نحن سكان هذه المنطقة  أننا أول الشعوب التي مارست حق المعارضة وإبداء الرأي بكل حرية وبدون خوف، ونحن أول من استخدم النظام الديمقراطي أو الشورى في العالم، فنحن السباقون في هذا المضمار، ونحن من علم الآخرين الديمقراطية. وان جلجامش أول من طالب بازلة التفرقة بين البشر.

والمفارقة العجيبة هو ماكان عليه انساننا قبل خمسة آلاف عام من فكر نير وحرية وعطاء لاحدود له , وبين إجرام انسان القرن الحادي والعشرين , الذي تجاوز كل المحرمات ووصل إلى الدرك الأسفل من التوحش والسادية والبربرية . بفعل الفكر الصهيوني الغازي المتسلط والفكر الوهابي العفن والفتاوى الجهنمية التي يعممها على الشعوب المسلمة لغسل أدمغتها من كل شيئ انساني وتحويلها إلى وحوش بشرية .