دام برس ـ سهى سليمان :

هجرتنا النوارسُ يا وطني.. بعد أن اعتزلتْ إشراقة ضحكتكم عن الإبحار، وخاصمَ شدو حناجركم مسامعنا مذ علا هديرُ المفاخرِ والشطّار...

حتى تلك العصافيرُ التي أطربتنا بزقزقتها على خيوطِ الصلاة طارتْ إلى مآذنِ العزاء، وتلك النسيماتُ النديّة التي كانتْ تسبحُ في بحرِ الصباح رفعتْ شراعها إلى شواطئ الغرباء...

مذْ رفعتم على سواعدكم سماءَ الوطن، ولبستم الكفن، وبسطتم الأرضَ غطاء من الشجن، تداخلتْ عقاربُ الساعة منهية اليوم في ثوان.. وأعلنَ اليمامُ الأبيض الحداد، فارتدى أجنحته انكسارات الرحيل...

مذ انهالتْ رصاصات الحقدِ على الحصون، وقتلوا الأطفالَ بشتى أنواع الفنون، ومارسوا تعاويذَ الموتِ كمشعوذ بالشيطان مسكون... فاشتعلَ الجمرُ في الناي... وشدا بصرخاتٍ من جنون... ليملأ الكون نحيباً من هذيان...

لكنهم راحلون... راحلون... راحلون...

يشرحون أجسادكم لأنهم يخشون أن يتناسلَ من حنايا ضلوعكم جذور من عنفوان، ولا يدرون أن مساماتكم يتسرب منها المجد والكبرياء... يخافون أصواتكم فيغتالون حناجركم لأنهم يسمعون تراتيلَ الكنائس وآيات القرآن... ولا يعلمون أن الشمسَ تغزلُ ضفائرها من نورِ أرواحكم...

رعباً من انتفاضاتِ أجسادكم يرتعشون، ومن دياجي الليلِ لأنكم أسيادُه يهربون، وفي جحورِ الخنوعِ من وجلِ قلوبكم يختبئون، يخفضون رؤوسهم خوفاً من حصادِ مواسكم، على أكواعهم يزحفون...

ونحن والله متعبون...

تؤلمنا عظامنا بعد أن نخرها الهرم، وظهرنا ينحني من العجز، يا ألمنا ووجعنا وخوفنا وحزننا ماذا نحن فاعلون؟!.

هل خيبنا أمالكم أم كسرنا أحلامكم، أم أبكينا قوس قزح في عيونكم، وذبحنا الفرح في شفاهكم؟! هل كانت قرابيننا التي قدمناها على مذبح جباهكم مرفوضة؟

عاتبون أنتم من عزلتنا، وغاضبون من تخاذلِ بعضنا واستكانتنا في كهوفِ من الادعاء، نحملُ على أكتافنا ثقلَ الخجلِ من نظراتكم... وقصائدنا تستظلُ بدوحِ قلوبكم... فهل تسامحوننا إن كسرنا أقلامنا، ومضينا في طريقِ اليأس؟ أم تريدون أن ننتفضَ من غفوةِ الخوفِ ونمتطي صهوةِ الفجرِ لنمضي على طريقِ النصر...

لو تدرون ماذا يحدثُ لنا عندما نحاولُ أن نخطَّ جراحَنا بحروفٍ على أوراقٍ من حزن، أو عندما نتغنى بأسمائكم، تعرّشُ على دفاترنا جناتٌ من الياسمين، وتنبتُ على قممِ أصابعنا سنابلُ قمح، وتفوحُ من أنفاسنا عطورُ الليمون.

فرساننا متوثبون، منتفضون، مولودون في كل يومٍ عيد وكنيسة ومسجد، والله لن يأتي فصلنا الأخير، ولو تنهدنا بصمت، ولن يغزو جدائلَ أحصنتنا لا عوسجٌ ولا صبار، مهما زرعتم في أقدامناا جراحاً أو تلّوت ألماً وحرّك صهيلها الإعصار...

ستمطرُ دموع الأمهات من أعالي السماء، لتروي عطشَ السواعدِ والبنادق، وتصدحُ تلك البنادق بألحانٍ العشق للشهادة.. فتعتلي أرواحكم عروشَ الضياء، ويسيلُ من أوردتكم شلالٌ من النورِ يسقي ذاك التراب المتصوف والمتشوق ليتطهر بدمائكم المعتقة... وتولدُ الينابيعُ العذبة من رحمِ الرمال، أو تزهرُ دون أدنى شكّ... شقائق النعمان...

بعد أن انتهى زمنُ المعجزات... ربما أنتم: معجزةَ هذا الزمان...