دام برس :

قبل اربعة عقود عشنا حرب تشرين المجيدة وكلنا يعرف مفاخر البداية، من أقتحام جبل الشيخوتدميـر خط دفاع العدو آلون وعبور السويسوتدميـر تحصـيـنات خط بارلـيـف الى رفع سعـر النفط من 3 الى 12 دولار للبرميل... كما أننا نعرف كيف انتهت هذه الملحمة المجـيـدة : قبلتفكيك خيمة العزاء على شهدائنا، كان هناك من  يواسي العدو ويستعطف الصلح  معه. 

وكانت ردات الفعل عنيفة في البداية ثم تحوّلت الى عتب صامتفمصالحة بدأت سرية، ما لبثتْ أن أصبحت علنية، وهنالك من اعتبر التطبيعَ "شطارة"... وبدأ التطبيع وتبادل االزيارات... ولا بدّ هنا من ذكرالموقف المشرّف لمثلث الرحمات البابا شنوده الذي حـرّم على المسيحيين زيارة بيت المقدس ، تحت طائلة الحرمان، طالما الإحتلال قائم.                                                                       

واستمّر بعض العرب على موقف الممانع، و"قلب العروبة النابض" يتعذّب ساعيا بكل جوارحه لإبقاء القضية حيّة مقدّسة، بينما عيون القوى الظلامية تبحث كيف لها أن تصيب "القلب النابض" بمقتل وتريح "ابنها المدلل" من كابوس دمشق آرام.

وانتظرتْ تلك القوى الظلامية طويلاً حتى بدأ ما اسموْه "الربيع العربي" يجتاح دول شمال افريقيا واليمن، تضافرت جهود عربان الجاهلية وبقايابني عثمان والمحافظين الجدد مع بني صهيون. أقاموا حلفا "غير مقدس" و شهودُه الزور أحفادَ دول سايكس ـ بيكو، وغايته إعادة تقسيم "الشرق الأوسط الجديد"... وشهد شاهد من أهله : قبل بضعة أيام، صرّح وزير دفاع فرنسا الأسبق، السيد رولاند دوماس، أن جهات معينة عرضت عليهقبل سنوات، المشاركة في التخطيط لتدمير سوريا... فرفض.  وإذا بهميشوهون سمعته باتهامه بالرشوى في صفقة سلاح الى تايوان... واستمرّ التخطيط، وحين تهـيّأ لهؤلاء اللئام أن الوقت قد حان لِ "قطاف الرؤوس" أعطيتْ الأوامر ووزّعت المهمات لنشر "الفوضى الخلاقة" في بلادالشام.      

وكان الخامس عشر من أذار 2011

لكن خيبة آمالهم في معركتهم في سوريا  المقدّسة حيرّتْ  جهابذتهم العسكريين والسياسيين، وقد تقتلهم حيرتهم... وها نحن

نعيش الخامس عشر من أذار 2014

وسوريا العـزّ والكرامة، سوريا القلب النابض،  سوريا الحضارة والتاريخ لا تزال  شامخةً عصيّة على الأعداء...

تونس الخضراء سقطت سريعا رغم رضى الغرب على حكم السيد زين العابدين بن علي.

مصر الجامعة العربية سقطت رغم دعم الغرب لحكومة الرئيس حسني مبارك ثم محمد مرسي.

ليـبـيا عمر المختار الأسطورة، ليـبـيا الرئيس معمر القذافي سقطت رغم نـفطها الذي لا ينضب.

اليمن السعيد قاوم الشرق والغرب وخاصة الشمال، ثم سقط معرئيسه علي عبد الله صالح تحت الضغوط.

قطر وقناة الجزيرة تعتبر بحكم الساقطة من الخريطة العربية والخليجية مع الحمديْن، بالرغم من ملياراتها.

لماذا سقطت هذه الدول من التاريخ ؟... لمعرفة الأسباب علينا الإنتظار مايكـتبه التاريخ...   سقطت هذه الدول خلال فترات قصيـرة ولم تستـقـرّ حتى يومنا هذا... واستمـرت سوريا تـقارع مجموعات متعـدّدة الجـنسيات والولاءات تمـوّلها وتسـلّحها الجاهلية الخليجـية مع بني عثمان تساندهم دولة أبادت الهنود الحمر مع أتباعها الغربيـين مع بعض الدول التي كنّا نسمّـيها " الدول الشقيقة "... استمرّت سوريا، صامدة شامخةلأن شعارها : "سوريا تفضّل الموت واقفة على الحياة راكعة، إلا لله. "               

سنوات ثلاث مرّتْ الـيـمة على سوريا الوطن، شعباً وحكومة وجـيـشاً.وكانت المسيرات المؤيدة والمظاهرات المعارضة... وكانت المطالبة بالإصلاح الديموقـراطي والحريات وتعديل الدستور والغاء حالة الطوارىء ومحاربة الفساد والمحسوبـيات. وللحقيقة والتاريخ علينا التذكير بأن الدولةاعتـرفـت بالآفات المستـشـرية، على نطاق واسع، في مختلف مفاصلمؤسساتها وتعهّـدت في حينه بمحاربة الفاعلين واستـئـصال أسباب غـضبة الشعب.

في 31.3.2011 وحسب المقرّرات الموعودة منذ أوائل عهده، القى السيد رئيس الجمهـورية خطاباً تضمـّن قانون تجـنيـس الأكراد، إلغاء حالة الطوارىء، إطلاق سراح المعتقلين واعداً باصدار قانون الأحزاب ودستور جديد، وهذا ما حصل فـعـلاً  في 26.2.2012 ودخل الدستور الجديدحيّز التنفيذ بعد عرضه على الإستفتاء الشعبي.

لكن الشارع لم يهدأ... وارتفعت المطالب وسُمعت بعض الشعارات غيرالمألوفة في مدرسة الإعتدال السورية.

وظهرت ادوات القتل والتدمير في أيدي المغـرّر بهم والمرتزقةالوافدين لِ الجهاد المقـدس، والإنتصار لِ الثورة.

وسُمعت الدعوة للفـتـنة حين المطالبة لبعـض الشعـب بِ " التابوت " و للبعض الآخر بِ " الطرد الى بيروت. "

حينئذ قررت الدولة القيام بواجـباتها الشرعـية والمشروعة دفاعا عن مؤسساتها ومواطنيها... والدولة التي تتهرّب من هكذا مسؤولية تعتبر جبانة وخائنة، حسب العرف العام.

كانت المظاهرات المعارِضة تدّعي أنها "ثورة اصلاحية سلمية" لكنها وبتاريخ 6.7.2011 ، عرفت سوريا والعالم حـقـيـقة تلك "الثورة الإصلاحية السلمية" حين هاجم مسلحوها مخفـر الشرطة المدنية في جسر الشغور وقـتـلوا نحو 120 عنصراً... والكل يعلم كيف نكّلوا بهم ورموهم في نهر العاصي وهم يهللون ويصرخون " الله أكبر" وكأنهموكلاء الله على الأرض.

"هل يمكن تسمية هذه المجزرة : ثورة ؟..."

كتب الفيلسوف الإغريقي أرسطو : " الثورة هي التغيير من دستور لآخر أو تعديل جذري لِ دستور موجود." 

حسب المعاجم وكتب اللغة "الثورة هي تغييرسريع يحطّم الاحوال القائمة ويعيد تنظيم وبناء المجتمع بناءً جذرياً."

جاء في الميثاق المصري: "الثورة عمل تقدمي شعبي سريع يقتحمالعوائق ليحقّق غايات الشعب وأجياله القادمة."

الثورة ظاهرة رائعة تعبّرعن وجدان الشعب، يفجّـرها المفكرونوالجامعيون لإرساء قيم تحظى بإجماع وطني.

المساجد والكنائس تدعو الى "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..."والثورة تحترم بيوت العبادة هذه.

الثورة هي من انتاج الأرض والشعب ولا يمكن أن تكون مستوردة من بلدان الجوار ومن ما وراء البحار...

"هل يمكن تسمية ما يحصل في سوريا ثورة ؟..."

والسؤال الذي يطرح نفسه : لماذا لا يمكن تسمية الأحداث الأليمة التي تعصف بِ سوريا، منذ ثلاث سنوات بِ ’الثورة‘ ؟...

للثورة قضية وبرنامج او بيان وزاري يجمع عليه مفجّـرو الثورة...

" اسقاط الرئيس واستلام الحكم ليس بِ قضية أو برنامجأو بيان وزاري "

للثورة قيادة واحدة معترف بها، أقلّه من قبل الجامعة العربية...

" منذ بدأت الأحداث والقيادات المتناحرة تشرق وتغيب، بقدرة الممّول الأكثر سخاء..وحتى اليوم، لم تسلّم الجامعة العربية مقعد سوريا للمعارضات. "

للثورة مرجعية واحدة وطنية تمثلّها في المحافل الدولية...

" في مؤتمر جنيف 2 وجد المحاور السوري وفداً لا يمثـلكل المعارضة ولا حول ولا قوة له على المحاربين."

للثورة روح وقلب وضمير وتحافظ على مرافق الوطن العامة وثرواته وشعبه...

" هل تفجير جسور سكة الحديد وقصف مصفاة البترول تحقق مطالب الشعب في الإصلاح ؟...

" هل سرقة الآثارات والاوابد من المتاحف والكنائس وبيعها تسقِط النظام ؟...

" هل تدمير النصب التذكارية للشعراء والفنانين من مستلزمات الثورة ؟...

" هل خطف المطارين والراهبات وقتل رجال الدين من مكارم الأخلاق ؟...

للثورة مفكرّوها وفلاسفتها ومنظرّوها وكتابها...

" أين انتم من أمّة أول كلمة في " دستورها الكريم " عبارة  ’ إقرأ ‘  "إقرأ بسم ربك الذي خلق..."

لـنُـلـقـيـنّ نظرة على الثورات التي يُجمع العالم على أحقيتها في حمل هذه التسمية :

الثورة الفرنسية : قامت سنة 1789 بعد عقود من انتشار البحوث والدراسات الفكرية والفلسفية وتجاوبا مع الأزمة الإجتماعية كي تحطّم النظام الإقطاعي وتسقط الملكية وتعلن وثيقة حقوق الإنسان وشعارها "الحرية، المساواة، الأخُـوّة." أما المنظّرون والفلاسفة الذين كانوا وراء تفجير هذه الثورة فهم : ديديرو، مونتسكيو، فولتير، روسو ... وغيرهم.

الثورة الشيوعية : قامت سنة 1917 وكانت النهاية الطبيعية للأوضاع العامة التي كانت تعيشها الطبقات الفقيرة والمحرومين من أبناء الشعب الروسي، تحكمها النخبة الأرستقـراطية الظالمة بحماية  القياصرة. وقامت بقيادة لينين وتروتسكي، بعد أن كاد الشعب ينفجـر... وفلاسفة ومنظـرو هذه الثورة كانوا، بالدرجة الأولى، كارل ماركس، هيجل، أنجيلس...وغيرهم.

الثورة التركية : بعد الحرب العالمية الأولى، فرض الحلفاء المنتصرون معاهدة سيفـر Traité de Sèvres بتاريخ  10.8.1920 على الأتراك بعد أن فكّكـوا ممتلكات الخلافة العثمانية. فثار الشعب التركي بقيادة الجنرال مصطفى كمال باشا أتاتورك، تلميذ الثورة الفرنسية، وحارب وانتصر وعدّل المعاهدة... بمساعدة نخبة من المفكرين والمنظرين وأصدر دستوراً علمانياً حيث فصل السلطة السياسية عن الخلافة ونقل العاصمة الى أنقرة وقـرّر اعتماد الأبجدية اللاتينية وغرّب اللباس...

"هل يمكن تشبيه ما يحصل في سوريا بِ إحدى هذه الثورات؟..."

منذ قرّرت الولايات المتحدة الحرب على الإرهاب واحتلال العراق واجتياح أفغانستان أصيبت سياستها بالتخبّط وفقدان البوصلة وعقب الموجة الأولى من الثورات العربية، لم تفلح في بناء سياسة ثابتة تجاه الثورات المتتالية... وقرارها الأسوأ كان تعويلها على قدرة «الإخوان» بتحقيق استقرار مصر متناسية تناقضاتهم الطائفية مع سائر قوى الوطن،فانهارت آمالها بعزل رئيسها محمد مرسي وإنهاء حكم الجماعة. وهذا ما دفع الرئيس السوري للتصريح : " لقد فشل الإسلام السياسي. "

بعد ثلاث سنوات من بدء الأحداث، لا يزال الغرب بأكمله وبعض العربانأتباعه، في حيرة بين الحل السياسي والحل العسكري، بينما المفروضاعتماد الشرعية الدولية، وقد خرج هذا التخبّط الى العلن في مؤتمر جنيف2  وعلى اثره :

الوزير جون كيري، دون أن ترفّ له عين، يلغي شرعية الرئيس السوري، بقدرة القوى الظلامية اللئيمة.

الأمير السعودي فيصل، وبكل وقاحة، يُسقط الرئيس الشرعي ويُنصّب " فخامة" السيد الجربا  رئيسا بديلاً.

السيد نتانياهو قال للملك عبدالله الثاني : " لا تسوية إلاّ بأن تكون ملكاً على سوريا. " وكأنه عظيم كهنة الهيكل.

يوم 4.3.2014 قرّرت أميركا منع مندوب سوريا لدى الأمم المتحدة من التجوّل أبعد من 40 كم خارج نيويورك لأن تجواله يشكل خطراً على الأمن القومي الأميركي... وا حسرتاه على اميركا، كم أصبح أمنها هشاً هزيلاً !...

" هل يمكن لهذا التحالف المتخبّط أن يقود ثورة ؟... "

واليوم إذ نُطفأ الشمعة الثالثة لملحمة جيشنا البطولية وصمود سوريا الأسطوري في مجابهة القوى الظلامية، املنا جميعًا ان تحمل لنا براعم ربيع السنة الرابعة تباشير صباح الأمن والأمان، كي نرى مجدداً بسمة المحبة والطمأنينة على وجوه ابناء هذه الأرض المقدسة... وقد لاحت في الأفق بشائر نهاية النفق بالمصالحات الميدانية والتفاهمات الداخلية التي نشهدها على مختلف أراضي الجمهورية، بعد أن اكتشف الشعب زيف الوعود بالسمن والعسل الموعود... 

بعد لقاء السيد رئيس الجمهورية، كتب السيد ناهض حتر، يوم 6.3.2014، في جريدة الأخباراللبنانية، وهذا بعض ما كتب :

" المواطن بشار حافظ الأسد سيترشّح للرئاسة... لكنه سيخوض الإنتخابات من موقع سياسي لا من من موقع سلطوي، وعلى أساس برنامج سياسي غير حزبي يتضمّن رؤية شاملة تأخذ في الإعتبار التيارات والحساسيات الوطنية المختلفة المشارب التي وقفت في خندق الجمهورية ضد التدخل الخارجي والإرهاب... يسعى السيد بشارالأسد الى برنامج يلامس قضايا الناس اليومية، وإعادة البناء، والنهج الإقتصادي الإجتماعي، ويتضمّن البرنامج كيف يمكن عدم تكرار المأساة الحالية في سوريا مستقبلاً... "

بعد مؤتمر جنيف الأخير زار موسكو السيد أحمد الجربا مطالباً بِ حكومة انتقالية، فكان جواب موسكو موجها للسيد برهان غليون : " الإنتخبات الرئاسية على الأبواب، لماذا لا تترشّح أنت يا سيد غليون؟ " وهو يلمّح للسيد أحمد الجربا أن نتائج صناديق الإقتراع هي التي تقرّر مستقبل سوريا وليس جنيف، اسطمبول، باريس او واشنطن... وهذا لسان حال المواطن السوري السيد بشارالأسد للمعارضة :

" رشّحْوا من يمثّلكم ودعونا نرى النتائج... وليحكم الفائز "

قد يكمن في هذا الإقتراح البسيط الحـلّ المنطقي ونهاية النفق الذي نعيشه وننسى جنيف والجامعة العربية والأمم المتحدة...

لنعيد البسمة الى هؤلاء الأطفال : أطفال سوريا

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

لوجانو، في 15.3.2014

كل ما ورد في المقال يعبر عن رأي كاتبه