دام برس :

بعد ستّة أشهر من شنّ إسرائيل ما وصفته في وسائل إعلامها "آخر الغارات" على المناطق السورية بعد فشل أهدافها في تدمير ما كان يجول بخاطر الكيان على كونها صواريخ "ياخونت" جاهزة للإطلاق أو أنواع أخرى معدّة للإرسال الى مخازن حزب الله. واكتفى الكيان بالعودة إلى مقاعده إلى جانب الكيان السعودي في المساعدة الاستخباراتية, اللوجستية و البشرية ( التعبوية و الطبية) للمجموعات الإرهابية التي تُجري معارك مع قوات الجيش العربي السوري على كامل المساحة السورية منذ ثلاث سنوات قصد إسقاط و "تفكيك نظام الرئيس بشار الأسد المعادي لإسرائيل" بحسب تعبير ضابط رفيع المستوى في قيادة المنطقة الشمالية في الجيش الإسرائيلي في حديثه مع موقع "واللا" الإخباري العبري.

بعد سقوط بندر بن سلطان رئيس المخابرات السعودية لفشله في "تحقيق وعوده سواء في تغيير التوازن العسكري في سوريا أو إغراء روسيا لتغيير موقفها المساند للأسد" حسب ما جاء في صحيفة "الأندبندنت" البريطانية, من الجدير بالملاحظة التغير المنهجي الشامل في التعامل السياسي الإسرائيلي مع الأحداث في سوريا, حيث أصبح التعامل مع ما يسمّيه الإعلام الإسرائيلي-الذي صار مختصّا بالأزمة السورية- "المتمرّدون السوريون" أكثر علنية و وضوحا الآن بعد أن كان سرّيا في مرحلة أولى و شبهسرّي في مرحلة ثانية. و أن مستوى التعاطي الإعلامي مع هذا الشأن أصبح أكثر شفافية خصوصا بعد زيارة رئيس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع موشيه يعالون ورئيس الأركان بيني جانتس "الاستكشافية" (بحسب صحيفة دبكا العبرية) للمشفى الميداني الذي أعدّته إسرائيل لعلاج الجرحى في صفوف العناصر السورية المسلّحة في هضبة الجولان المحتلّ و الذي جاءت بالتوازي مع تغيير قيادة ما يسمى الجيش الحر بمنطقة القنيطرة والاستعداد لإدخال جسم مقاتل يضمّ 1000 عنصر أريد أن يكون أغلب أعضائه من السوريين و قد تم تدريب هذا الجسم بتنسيق أمريكي إسرائيلي أردني.

يصعب على إسرائيل, في ظل الواقع العالمي الجديد, بعد أن كانت قيمة إستراتيجية مضافة, أن تكون من بين الخاسرين في المنطقة أو أن تصبح مجرّد عبء استراتيجي على الولايات المتحدة التي داوم الكيان على ابتزازها و استجلابها لصفّه خصوصا بعد الاتفاق الغربي الإيراني الذي أدخل إسرائيل في حالة هستيرية واضحة المعالم شاركته فيها السعودية فتعمّدا محاولات لتفجير المنطقة عبر تفجير الوضع اللبناني بدءً بتفجيرين استهدفا مقرّ السفارة الإيرانية ببيروت بتاريخ 19 أكتوبر 2013 و اغتيال القيادي في حزب الله حسّان اللقيس بتاريخ 4 ديسمبر 2013. و محاولة إقناع الإدارة الأمريكية بفرض حكومة أمر واقع في لبنان تعزل حزب الله, فلم تستطع هذه الأحداث تغيير أي شيء في المعادلة فسقطت وخياراتها و فشلت. شكّلت جملة الأحداث هذه حالة احتياج إسرائيلي شديد إلى العودة و الظهور على الخط مجدّدا عبر استعمال كلّ ما لديها من أدوات ضغط في العالم فكانت أحداث أوكرانيا الأخيرة أبرز ملامحها.

خلافا لما يروج من أخبار و تعليقات على كون الأحداث الجارية هي "رياح ربيعية", تسجّل هذه الأحداث تطورا كبيرا و خطيرا. فأوكرانيا الدولة الشبيهة جدا بالمناخ اللبناني القائم على الاختلافات و التشابكات و التباينات الدينية العميقة, جاهزة في أي لحظة للانفجار عبر تلقي الإشارات المرتبطة بالموازين و القوى الخارجية التي تؤثر بصفة مباشرة على انقساماتها الداخلية السياسية المنقسمة أساسا بين الهوى الأوروبي و الارتباط بروسيا والانقسامات الهووية الدينية و الاثنية التي إذا تواصل اللعب على أوتارها فإنها لن تهدّد وحدة أوكرانيا فقط بل قابلة لأن تهدّد وحدة أوروبا -المتجاوزة سياسيا المكوّن الديني- بأكملها الى شقّين لأن الفالق الكاثوليكي الأورثودكسي الإنجيلي البروتستانتي له تأثير عميق مرتبط بالجغرافيا المجاورة مباشرة و وحدة جغرافيا بلدان أوروبا الغربية بصورة غير مباشرة, بالضبط كما الواقع الاثني الموجود في منطقة الشرق الأوسط الذي يهدّد حتما كل الجغرافيا الممتدّة شمالا من تركيا إلى اليمن جنوبا بالإضافة إلى مصر. إذن  يتبيّن لنا و كأن اللاعب على هذه الأوتار هو طرف واحد..

ما جري في الساحة الأوكرانية له تأثير مزدوج من و على إسرائيل. فالمسألة الأوكرانية بحسب النظرة الإسرائيلية هي "مشكلة إسرائيلية صرفة", فنسبة اليهود في أوكرانيا 0.2% من العدد الإجمالي من السكّان البالغ 46م.ن أي قرابة المليون و نصف يهودي أوكراني, من بينهم قرابة 300.00 مهدّد بالهجرة إلى إسرائيل التي تحتضن أكبر "تجمع يهودي" أوكراني خارج أوكرانيا (قرابة 10% من مجموع سكان إسرائيل اليهود  إي قرابة570 ألفا). كل هذه النسب تشير إلى ارتفاع منسوب العلاقات التي تجمع إسرائيل باليهود في أوكرانيا بمعنى أن لإسرائيل نفوذ كبير داخل جسم المعارضة الأوكرانية في مجالات حيوية كالتمويل والأمن و العلاقات الخارجية و الإعلام خصوصا, و كل هذه المجال اتتتزعمها شخصيات يهودية معلنة الولاء لإسرائيل مثل الملياردير فايم رابينوفيتش و غاندي أكسللورد الذي قُتل في المواجهات, وغيرهم من الشخصيات التي تقوم بأدوار مهمّة في المشهد السياسي و التي لا يزال لديها هوامش و ادوار قائمة فمن غير المستغرب زيارة اليهودي الفرنسي و المرشّح السابق لرئاسة إسرائيل و عرّاب مشروع "الربيع العربي" برنار هنري ليفي إلى أوكرانيا ليرفع من حماس المعارضين.

إن الوجود الإسرائيلي في المشهد الأوكراني إنما هي رسالة على كونها قادرة على إرباك روسيا التي  تثبّت قوتها و قدرتها في اللعبة السياسية و الاقتصادية العالمية و التي يمكن أن يتم تكريسها في المشهد الأوكراني عبر تدخّل عسكري روسي في أوكرانيا يفرض التهدئة (و هذا خيار مستبعد نظرا للسياسة العقلانية التي تنتهجها روسيا في التعامل مع حلفائها) أو قطع إمداد الغاز لأوروبا عبر أوكرانيا, و هذا بعد تصريح رئيس الوزراء الروسي ديمتري ميدفيديف بأن روسيا لن تعترف بالحكم الجديد في أوكرانيا الذي وصفه "بالانقلابي" الى جانب تصريح سيرغي لافروف بأن بلاده لن تعترف بأي حكومة إلا بعد الاطلاع على تشكيلتها و أن صيغة الحكم لا يمكن ان تكون أحادية او انقلابية .إذن إسرائيل ترى في نفسها الآن أنها تشكّل ورقة اعتماد لدى أوروبا و الولايات المتحدة في تغيير توازن سياسي في أوكرانيا يربك روسيا ليصير ورقة ضغط على روسيا بالتوازي مع العودة الإسرائيلية إلى أجواء لبنان في شكل غارات تسخينية هدفها دمشق مما قد يشكّل معادلة في شكل مقايضة عنوانها "أوكرانيا بسوريا""

خلاصة القول, أن الغارات الإسرائيلية على الحدود اللبنانية السورية التي لم تصب هدفا بعينه عكس ما تروّج له بعض وسائل الإعلام, وإنما هي رسالة سياسية مزدوجة الى روسيا إيران سوريا و حزب الله أن إسرائيل قادرة على العودة في أي وقت و انه ليس لديها شيء اسمه "آخر الغارات" و أنها نستعد على الأرض لتعديل الموازين, و رسالة إلى أوروبا و الولايات المتحدة التي انساقت في المفاوضات مع روسيا للخيارات الروسية و الإيرانية, أن إسرائيل تستطيع تعديل الموازين السياسية من جديد لصالح الغرب و أمريكا, لذلك نجد تصريح رئيسة وزراء ألمانيا الذي تصف فيه إيران على كونها ليست خطرا على إسرائيل فقط بل خطر يهدد العالم بأسره .نزعم أن كلّ هذا الأوراق تبدو واضحة أمام قيادة الرئيس بشّار الأسد و حلفائه بدءً بالرئيس فلاديمير بوتين وصولا الى السيد حسن نصر الله و أنه من المؤكد لديهم من الأوراق و الخيارات لإسقاط هذه المعادلات و المكابرات و الأوهام و إفشالها ما يكفي لضمان وحدة الدول و الكيانات و الشعوب و إنقاذها من السقوط في الفخّ الديني أو الاثني أو الطائفي الذي تلعب إسرائيل على أوتاره و الذي بات يشكّل خطرا قد يهدّد أمن عام بأسره. يتبين لنا أن العالم يواجه حربا معقّدة لا يتبيّن فيها المنتصر إلا من خلال معركة عسكرية حاسمة يكون عنوانها الأساس "كسر الظهر" ربما تكون سوريا ساحتها الأولى و الأخيرة.

كاتب تونسي .. كل ما ورد في المقال على مسؤولية الكاتب وتعبر عن رأيه ..