دام برس:
مواطن عربي سوري ، عاد بعد قضاء إجازته السنوية في ربوع الوطن إلى ذلك البلد العربيّ حيث يعمل هناك منذ سنوات ، وفي مطارعاصمة ذلك البلد وعند ( كاونتر ) جوازات السفر ، نظر إليه الضابط المناوب مبتسما ... تلك الإبتسامة التي من الصعب اكتشاف كنهها ... هل هي مجرد ابتسامة مجاملة عادية ، أم ابتسامة شماتة بالمواطن السوريّ وبسورية وما تتعرض له من هجمة بربرية ظلامية على يد من هم أكثر بشاعة وقبحا من التتار ...
وبعد أن رمقه الضابط بنظرة ... سأله :
- أسوريّ أنت ؟
= نعم ... انا مواطن عربي سوري
- ومن أيّ طائفة أنت ؟
= من الطائفة ( السورية ) ... وأضاف بزهوّ واضح ... وهي بالمناسبة أكبر الطوائف في وطني
- حسنا ... وهل أنت مع ( الثورة ) أم مع ( النظام ) ؟
= عن أيّة ثورة تتحدث ؟ وهل ما يجري في وطني من تقتيل وتدمير وتمثيل بالجثث وأكل للأكباد والقلوب يسمّى ثورة ؟ ... وأضاف ... طبعا أنا مع الدولة الوطنية السورية ... أنا مع الشعب العربي السوري ... أنا مع جيشنا العربي السوري البطل ، والذي سينتصر حتما على كل هذه العصابات المسلحة التي تراها والتي أسميتها زورا وبهتانا ... ثورة .
- طيّب ... عرفنا أنك تحب وطنك سورية ... وهذا من حقك ... ولكن ، قل لي بصراحة ... من تحب أكثر ؟ سورية أم بلادنا هذه التي تعمل فيها منذ سنوات وتسكنها أنت وزوجتك وأطفالك ؟
= ابتسم المواطن العربي السوريّ للمرة الأولى منذ وقف أمام ضابط الجوازات ، وقال ... أحب أمي ، وأحب زوجتي .
- لم أفهم ما تعني .
= أنا أشرح لك ... هناك فرق كبير بين وطني سورية وبين أيّ بلد آخر في العالم ، بما فيها بلدكم ... سورية بالنسبة لي ولكل أبناءها هي ( الأم ) ، وبلدكم ( مع احترامي الشديد ) هو الزوجة ... وأنا أحبّ كلتيهما ... ولكن بالتأكيد هناك فرق بين حبّ الأم وحبّ الزوجة ...
فالزوجة أختارها بنفسي ... أرغبها لجمالها ... أحبها ... أعشقها ... وأضحي من أجلها ، و لكن لا يمكن أن تنسيني أمي ... بينما الأم... لا أختارها ولكني أجد نفسي ملكها ... منتميا إليها ... لا أرتاح الا في أحضانها ... ولا أبكي إلا على صدرها ... وأرجو الله ألا أموت إلا على ترابٍ تحت قدميها ... أفهمت الآن الفرق بين الوطن وأيّ بلد آخر ؟
... أغلق الضابط جواز السفر ونظر إلى المواطن العربي السوري الواقف أمامه ... وباستغراب... وقال:
- نسمعُ عن ضيق العيش فيها هذه الأيام ، وانعدام الأمن ، وعن سوء المواصلات وصعوبة الإتصالات ... فلماذا ما زلت تحبها كل هذا الحبّ ؟
= تقصد أمي؟
فابتسم وقال:
- لتكن أمك ...
= قد لا تملك أمي ثمن الدواء ولا أجرة الطبيب ... لكن حنان أحضانها وهي تضمني ... ولهفة قلبها حين أكون بين يديها تشفيني ... ابتسامتها في وجهي هي البلسم الشافي لجراح قلبي
- طيّب ... صف لي سورية ..
= سورية ( أمي ) ، لا تشبه سواها ... لا تشبه إلاّ نفسها ... متفرّدة في كل شيء ... جمالها سوري ... شعرها سوري ... فمها ، عيناها ، جيدها ، قدّها ، نحرها ، رائحتها ، ياسمينها وترابها ... كل ذلك سوريّ ... عربيّ سوريّ ... تشعر بالطمأنينة اذا نظرت اليها ... ثيابها بسيطة ، لكنها تحمل في ثناياها الطيبة والرحمة ... لا تتزين بالذهب والفضة ، لكن في جيدها عقداً من سنابل القمح والشعير تطعم به كل جائع ... سرقها اللصوص ولكنها ما زالت تبتسم ... طعنها القريب قبل الغريب وغدر بها الأخ وابن العمّ ، ولكنها ما زالت شامخة رغم الجراح ...
سورية باقية للابد ، واللصوص والمرتزقة وكل من سرق الكحل من عينيها ، وكل من تآمر عليها الى مزبلة التاريخ مهما طال زمن المعاناة ...
سورية باقية طول الدهر رغم القهر ...
سورية باقية قلعة للعرب ... وهذا قدرها وأحد أهم أسباب كينونتها .
أعاد الضابط إليه جواز السفر ... وقال :
- أنت تبالغ ... أرى سورية على شاشات التلفاز ، ولكني لا أرى ما وصفت لي ...
فقال :
= أنت رأيت سورية التي على الخريطة التي يشرف أعداء سورية على رسمها ... أما أنا فأتحدث عن سورية التي يحتضنها قلبي في داخله ...
- أنت عنيد ... صحيح أنك سوري ... سوري عنيد ...
وأعطاه جواز سفره .... وانصرف .