دام برس:
من المؤلم ان ينتمي انسان الى شعب ليس لديه ما يفخر به غير القتل والحرق وبقر البطون ودق نعال الخيول في ارجل البشر وتحطيم جماجم الأطفال على الصخور وفسخ النساء بعد ربط اطرافها الى الخيول، وسلب أراضي الغير وترويع اصحاب الأرض الأصليين، ورفع علم صبغ بدماء الشعوب الشهيدة، ومن المفرح ان ينتمي انسان آخر الى شعب ينحدر من أعلى درجات الرقي والتحضر...وفيما يلي ما يعزز الشطر الثاني من هذه النظرية وهو غيض من فيض.
في العام 1899 عقد في القوقاز مؤتمر جيولوجي عالمي شارك فيه العالم الجيولوجي السيد ستانيسلاس مونييه Stanislas Meunier وزوجته العالمة الجيولوجية السيدة ماري مونييه Mme Marie Meunier واغتنم الزوجان الفرصة وقاما بجولة في القوقاز مع اعضاء المؤتمر فزارا مع الوفد المرافق كاثوليكوسية الاتشميادزين بالقرب من يريفان وسجلت السيدة مونييه الملاحظات التالية.
هذه الكاتدرائية العظيمة هي مركز الكنيسة الارمنية الشرقية حول العالم...وبعيداً هناك كان الجرس...وكانت الأبراج...انها الاتشميادزين...! إن قلبي يخفق لأني أدرك أن هذا المكان مقدس، أنه ملجأ آلام شعب بأكمله، وإيمانه وذكرياته وأمانيه...إنه يوم الحج، فمن جميع أطراف العالم يأتي الأرمن إلى حيث يتم استقبالهم جيداً، ويأكلون ويحصلون على بركة الرهبان، ولدى تلاقينا ظهر لنا رجال دين يتقدمون منا بفرح وهم يضحكون، بلباسهم الحريري الأسود وقلنسواتهم البنفسجية، إنهم المطارنة والكرادلة، وكانوا قد اعتقدوا أننا سنكون ضيوفهم، فلقد هيؤوا لنا غرف واسعة وجميلة، إن رجال الدين في الكاتدرائية هم على لطف كبير، وكرم غير مسبوق، لقد حضّروا كل شيء في سبيل راحتنا. ولكن للأسف فلقد كانت ظروف المؤتمر لا تسمح لنا بالبقاء.
كم كنت راغبة في البقاء أياماً بكاملها لأقف وراء نافذة حجرية واسعة وأنا أحلم.
في روما كان الثوب الذي يجب أن ترتديه عند مقابلة البابا مدروساً بالتفصيل، أما في الاتشميادزين فسيستقبلونك وانت في حذاء السفر وفي ثياب عادية وبلطف وكرم وذوق رفيع لا تجده في أي مكان آخر.
إن رجال الدين الذين كانوا يحيطون بنا، كلفوا أنفسهم بمرافقتنا إلى جميع الأماكن التابعة للكاتدرائية وما حولها، وكان الشرح بإفاضة مع الترجمة، وهكذا استوينا في عجب من تلك الذكريات والأدب والدماثة واللطف والمجاملة والذوق الحضاري الرفيع.
تحوي الاتشميادزين أربعة آلاف مخطوط وأهمها التوراة التي تعود الى القرن الثامن ويعلو دفتيه العاج المزخرف، إن جميع هذه المخطوطات تبحث في التاريخ والعلوم الدينية، فأي عالم يحتاج للمكوث هناك طويلاً كي يطلع على العمارات القديمة ويدرسها من خلال التاريخ، إن قلب الاتشميادزين ليس من اللؤلؤ والماس فوق تيجان اللاهوتيين، وليس في الثياب الحريرية الناعمة، كما أنه ليس في الزخارف الفنية الوهّاجة أو في علبة الجواهر المقدسة، حيث توجد يد القديس غريغوار Gregoire المنوّر (كريكور لوسافوريتشس)، وبقايا سفينة نوح.
إن قلب الايتشميادزين هو مع تلامذته وحجاجه والمهاجرين إليه، وأما رجال الدين، فإنهم من الشغيلة غير المكترثين، إنهم بسطاء، تتجه أنظارهم نحو المستقبل وليس الى الماضي، إنهم مشبعون بروح العصر، ومتعطشون للحرية، حضاريون ومتسامحون ومدركون لقوة العلم والأدب، فهم يتقبّلون كل حقوق الفكر الانساني...وعند عودتنا، ونحن نجتاز القرى الأرمنية، كان الفتيان والفتيات، يهرعون صوبنا، وبأيديهم سلال مليئة بالفاكهة، وأية فاكهة! إنها فاكهة الجنة!...وكلها من انتاجهم الوطني.
نعم هذه هي حضارتنا...وهذه أخلاقياتنا، وقد دونتها العالمة الجيولوجية السيدة ماري مونييه Mme Marie Meunier في العام 1899 ... والآن اريد أن أعرف أين تختبئ حضارتكم...التي لم نعرف منها أكثر من تشويه كنيسة آجيا صوفيا في القسطنطينية، وذبح مليون ونصف أرمني وهدم كنائسهم، وذبح أكثر من أربعة ملايين سرياني وآشوري وكلداني وايزيدي وعربي ويوناني ارثوذوكسي...أين حضارتكم التي لم نعرف منها أكثر من آثارها والتي قال فيها فيكتور هوغو وهو ليس أرمني...قال فيها: (الأتراك مرّوا من هنا)
آرا سوفاليان
كاتب انساني وباحث في الشأن الأرمني
دمشق الأربعاء 05 06 2013
arasouvalian@gmail.com