دام برس :
دخل توقيت الضاحية الجنوبية إلى التواقيت التي تضبط عليها الساعات العالمية، وفرض توقيت الثالثة بعد ظهر غدٍ الجمعة كأحد أهم التواقيت التي يجري انتظارها، (وبالمناسبة فإنّ توقيت الضاحية الجنوبية  هو نفسه توقيت القدس الشريف ).
إطلالة الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله ، تشدّ أنظار العالم، العدو قبل الصديق، في أول حديثٍ له بعد ٧ أكتوبر، والذي أصبح يمثّل تاريخاً مفصلياً في الصراع مع الكيان الصهيوني، ونتيجته المباشرة وضعت وجود الكيان الصهيوني موضعَ شكٍّ كبير، في تقاطعٍ كامل مع استشراف السيد بأن "إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت "، وكانت القناعات، قبل إنجازات المقاومة التي راكمت على إنجازات تشرين ٧٣، بأنه كيان لايقهر .
ما يحسب للسيد نصر الله أن عبارته الشهيرة مثّلت علامةً فارقة في وعي الجمهور للصراع، وتثبيت هذا الوعي بعد تموز لأجيالٍ كاملة.

فمع السيد كانت القدس قريبةً، وأقرب من أيّ وقتٍ مضى، وحين كان يتحدث عن قربها، كان الكثيرون يعتقدون بأنها مجرد أحلامٍ غيفارية (حسينيةً إن شئت أيضاً) لتحقيق العدالة. ولكن ما كان أحلاماً لدى الكثيرين، وخارج نطاق تفكيرهم وإرادتهم، كان لدى أبناء المقاومة بأجيالها المتعاقبة فعلاً محققاً ومنجزاً ومُراكماً على أرض الواقع.
انتظار العدو قبل الصديق للساعة الثالثة من بعد ظهر غدٍ الجمعة، نابعٌ من انتظار  أكثر من يفهم الكيان الصهيوني، ويدرك طبيعته، وطبيعة الصراع، ومكوناته، وأطرافه، وانتظار من يمتلك الإرادة والقرار والتأثير فيه بالعمق.
 وحتى الغد ستكثر التحليلات حول ما سيقوله  السيد حول هذا النوع من الصراع مع العدو، ليس بوصفه كياناً قائماً بذاته، ومجرّد طليعة استعمارية متقدمة أمريكياً وأطلسياً، بل بوصفه اختزالاً لهذا الغرب الاستعماري بكل مكوناته، وتطلعاته، وأهدافه الجيوسياسية، وهيمنته، ما ينقل المعركة من معركةٍ محلية بتبعاتٍ إقليمية، إلى معركةٍ عالمية بأدواتها ومفاعيلها.
والملفت للأمر هو أن السيد نصر الله، على امتداد مقاومته للاحتلال، كان من أشد المدركين لطبيعة الصراع مع الكيان بأبعاده كافة، وأنّه - ونتيجةً لهذا الادراك - قد راهن بيقينٍ مدهش على الشعوب، في الوقت الذي كان يجري فيه التنظير لسقوط خيار الرهان على الشعوب، وعلى دورها في المعركة، باعتبار أن معركة فلسطين هي معركة الشعوب جميعها ضد المستعمرين جميعاً، وأن هذه الشعوب ببوصلتها الجمعية الفطرية الصادقة والصائبة هي التي تغير معادلات هذا الصراع.
رهان   السيد نصر الله  لا يستثني شعباً من الشعوب العربية والإسلامية، والشعوب الباحثة عن الحرية من الناهب الاستعماري (رغم عتبه، وأحياناً غضبه على الأنظمة)، وكان مؤمناً إيماناً لا يتزعزع بالإعصار الكامن في جوهر الشعوب، مستنداً إلى قيمها الأصلية المرتكزة على إيمانها الراسخ بالحق. وعلى مدار أعوامٍ وأعوام، كان السيّد يراهن على الشعب السوري واللبناني، بقدر مايراهن على الشعب الأردني والسعودي والإيراني والعراقي والجزائري…رهان العارف المؤمن  بقدرة الشعوب على إطاحة الوجود الغربي (وجوداً ومصالحاً)، وعلى رأسه الأمريكي بوصفه وجوداً حامياً وراعياً وممثلاً للكيان الصهيوني، المرتكز في وجوده (المؤقت)، على قيم غير أخلاقية.
ورهان العارف، مستندٌ إلى تشريحٍ واعٍ  ورصين  لبنية الشعوب في الأمة، وجوهر المعركة، وطبيعتها، وأطرافها، وتداعياتها. ونابعٌ من إدراكه لدوره ومركزيته في الأمة، وتجربته التراكمية .
حتى الثالثة غداً، دارت، وستدور تحليلاتٌ وتحليلات عما يريد أن يقوله السيد. فماذا سيتكلّم من كان صمته يشغل العدو؟!. ومن كان صمته استهدافاً للعدو على طول الجبهة الشمالية ؟!
ولكن عادةً فإنّ أغلب التحليلات، التي كانت تسبق كلام السيد في المفاصل الكبرى، كانت تفتقر إلى  الدقة، بحيث أنها تركّز على عاملٍ معين، أو سلوكٍ معين، أو حالةٍ معينة، وتأتي المفاجأة أن السيد حين يتكلم يكون محيطاً بكل العوامل والظروف، ويمتلك قدرةَ التعامل معها، واتخاذ القرارات العقلانية بشأنها -وإن بدت مغامراتٍ بالنسبة للبعض- وكان يمتلك الأدوات الأساسية والإرادة للتعامل معها.
وبغضّ النظر عن التحليلات والتوقعات، فإنّ المثبت أنه ليست فقط (إسرائيل) من تقف على رجل ونص، بل الأمريكي، من واشنطن إلى كافة قواعده في المنطقة، وكافة حلفاءه أيضاً.
هامش:
ليس الذكاء تقليب الاحتمالات، بل الذكاء هو التحكّم فيها .