قبل أيام، خرجت المستشارة الالمانية أنجيلا ميركل لتردد تطمينات عطوفة بخصوص اليونان، أنها لن تُترك وحيدة لتواجه سيل اللجوء، مع بوادر أزمة إنسانية جراء انحباسه فيها. تطمينات ميركل، وفق سوابق الترجمة اليونانية، لا تدعو إلا للقلق. ففيما تقوم فرنسا بإزالة مخيم كاليه، المعروف بـ «الأدغال»، تنمو مخيمات «أدغال» أخرى، غاضبة وجاهزة لتفعيله، على طول طريق البلقان، بعدما قرّرت دوله تنسيق إغلاق حدودها لتقليل التدفقات ما أمكن.
آخر مرة طمأنت ميركل اليونان كانت خلال احتدام النقاش حول خروج هذا البلد من منطقة اليورو، الصيف الماضي، قبل أن تُحلّ القضية بصفقة مذلّة باعتراف حكومة أثينا نفسها. قالت ميركل قبلها لنظيرها أليكس تسيبراس مواسيةً: «لا تقلق، كل شيء سيكون على ما يرام». الآن يتكرر الشيء ذاته، لتترك لمسؤولين وديبلوماسيين ألمان مهمة إيصال رسالة مناقضة: لا حلول عاجلة في اليد، على اليونان تجهيز نفسها للأسوأ، لأزمة سيخلفها تراكم عشرات آلاف اللاجئين العالقين فيها، لا يمكننا إخراجها منها، لكن المساعدة في احتوائها بالمساعدات الإنسانية.
أوروبا تقف على أعتاب «أزمة إنسانية صنعت بنفسها جانباً كبيراً منها»، كما أعلنت المفوضية العليا للاجئين أمس. العنوان ليس غريباً على أثينا أبداً، فحكومتها تصدر بيانات غاضبة منذ أيام، رافضة أن تتحول اليونان إلى «مستودع أرواح» يموّل الأوروبيون ما يلزم لتشغيله. قالت وزير هجرتها يانيس موزالاس صراحة إن أوروبا تدعو بلادها «لنقاش أزمة يريدون خلقها في اليونان».
لكن العمل على «خطة الطوارئ» بقي مستمراً، رغم الاعتراضات اليونانية. دول طريق البلقان اتفقت خلال اجتماعها في فيينا، بعد إقصاء اليونان، على تنسيق عمل أجهزة شرطتها لإغلاق الحدود بما يقلل التدفقات. العملية بدأتها مقدونيا، المحطة الأولى بعد اليونان، لتصدّ آلاف اللاجئين، سامحةً فقط بمرور أعداد قليلة. مرة تقول إن المسموح به مرور السوريين والعراقيين، مع رفض صارم لمرور الأفغان وجنسيات أخرى. مرة أخرى تصدّ السوريين والعراقيين، لتقول إن هناك حداً أقصى للمسموح بمرورهم يومياً.
هنا لم يعُد سيناريو المواجهة مع اللاجئين مجرد تحذيرات. مشاهد مئات اللاجئين الغاضبين، يقتحمون البوابة الحدودية المغلقة بين اليونان ومقدونيا، أكدّت أن تدفقات الهاربين من الحروب والمآسي لن تصبر كثيراً على من يصدّها.
حول معبر ايدوميني الحدودي، بات مئات اللاجئين ينامون في العراء، وفق شهادات جمعتها منظمة العفو الدولية. هناك أقامت اليونان مخيمَين، تحسباً لإغلاق مقدونيا حدودها، لكنهما بلغا بمراحل قدرتهما الاستعابية. يتجمع الآن ما يزيد على ثمانية آلاف لاجئ، مرابضين على البوابة أو منتشرين في الحقول القريبة. استمرار هذا الوضع سيعني مزيداً من مخيمات «الأدغال»، على حدود صربيا ثم كرواتيا ثم سلوفينيا وصولاً إلى حدود النمسا.
إنها عملياً خطة مرسومة، تتجهّز لخلق اختناقات تجعل اللاجئين ييأسون بما يقلل التدفقات. لكن عملاً واسعاً بإجراءات التشدد الحدودية، نصب الحواجز وخلفها قوات مكافحة الشغب، ينتظر نتائج القمة الأوروبية مع تركيا الاثنين المقبل. مسؤولون أوروبيون توقعوا سلفاً أنه لن يمكن تحقيق نتائج حاسمة، مقرين بأن إطلاق حملة التحصّن الحدودي، على طول طريق البلقان، بات مسألة وقت فقط.
سلّة تركيا مليئة بما يمكنها التفاوض حوله. تريد الكثير من الأوروبيين، وتعرف أن ورقة اللاجئين باتت عامل الضغط الموجع لهم. هناك التقارب الاستراتيجي على طريق العضوية المستعصية في الاتحاد الأوروبي. هناك اتفاقية لمواطنيها كي يسافروا إلى أوروبا من دون «فيزا»، ليكون لدى حكومة أنقرة مكاسب تقدّمها خصوصاً لداعمي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحزبه. هناك ثلاثة مليارات تطلبها سنوياً، للمساعدة في استضافة ما يزيد على 2.5 مليون لاجئ سوري.
المطلوب منها شيء واحد: منع تدفق اللاجئين من سواحلها إلى جزر اليونان القريبة. الحديث عن عدم القدرة على وقف شبكات التهريب أمر يدعو لسخرية مسؤولين أوروبيين، يعرفون تماماً أن هذا النشاط ميسّر ويتم تحت أعين السلطات وبرعايتها.
لكن ما مصلحة تركيا في تخفيف ضغوط خانقة تحاصر اليونان؟ لا يمرّ يوم إلا وتصدر وزارة الدفاع اليونانية بياناً بعدد الطائرات التركية التي اخترقت أجواءهم. اليونان هي من الدول القليلة في الحلف «الأطلسي» التي تصرف اثنين في المئة من موازنتها على الدفاع، طبعاً الفضل يعود للخصومة المعتملة على سطح العلاقة المتوترة مع تركيا، الشريكة في الحلف ذاته. هذه هي حال العلاقة منذ تقسيم قبرص إلى تركية ويونانية، بعدما بات مفروضاً بالقوة العسكرية التركية المنتشرة في الشطر التركي من الجزيرة.
خلال نقاش ضرورة تعاون البلدين، لم يمكن اللجوء إلا لـ «الأطلسي» كإطار يجمعهما سلفاً. لكن العملية البحرية التي أطلقها الحلف للمساعدة في رصد المهربين، مع تحفظ دول فيه وقبول أخرى مرغمة، ذهبت لتسير على حدود الخلاف. السفن اليونانية تعمل في مياهها الإقليمية، والأمر ذاته للتركية، والحلف يشدد على عدم التورط، مؤكداً أن مهمته ليست صدّ وإرجاع قوارب اللاجئين، بل تقديم معلومات استخبارية عن أنشطة المهربين.
لدى تركيا أيضاً مطالب لدعم أجندتها في الحرب السورية. مسؤول أوروبي أكد لـ «السفير» أن هذه القضية تتكرر في كل الاجتماعات مع تركيا، خصوصاً اجتماعات على مستوى الزعماء. قال إن روايتهم تقول دائماً إننا «لسنا مصدر المشكلة، بل الحرب في سوريا»، قبل أن يضيف «نحن نتفهم ذلك، لكن مطالب مثل المنطقة الآمنة لا يمكننا توفيرها في الأساس». حين سؤاله إن كان الاتحاد سيضطر لدعم أجندة تركيا في سوريا، في حال تفاقمت أزمة قضية اللاجئين بما يهدد بمخاطر كبيرة على الاتحاد، قال ساخراً إن «هذا السؤال يمكن طرحه خلال عشر سنوات»، في إشارة إلى استعصاء الإجماع حول تسليم مقاليد حل قضية اللجوء لأنقرة.
مسؤول أوروبي آخر، من دولة أوروبية بلقانية، قلل من أهمية الحديث عن حلول عاجلة، كما طرحتها برلين. قال لـ «السفير» إنه «في الحقيقة لا أحد يرى حلاً لأزمة اللاجئين، سواء حل قريب أو بعيد»، قبل أن يضيف «لدينا مزيج من الإجراءات لا يمكننا أن نتوقع منها سوى تقليل التدفقات». أما حول الحديث عن حملة تشدد حدودية ستشارك فيها بلاده، أكد ذلك بالقول «نحن دولة عانت من الحرب، ولدينا لاجئون تم الترحيب بهم، لذا لا يمكننا رفض لاجئين، لكن المسألة هنا باتت خطيرة، إذا لم تنجح القمة مع تركيا، فسنكون مضطرين لإغلاق الحدود لأنه الحل الأخير».
خطة الطوارئ الأوروبية تتقدم. اليوم من المنتظر أن تعلن المفوضية الأوروبية تخصيص مساعدات، حوالي 700 مليون يورو، لمواجهة التبعات الإنسانية لـ «أزمة اللاجئين»، خصوصاً في اليونان. قبلت أم لا، يبدو أنها ستكون رهينة قدرها الجغرافي. وسيلة ضغطها، الوحيدة تقريباً، هي محاولة عدم توفير أي إحراج للأوروبيين الآخرين، وعلى رأسها تركهم أمام انفجارات مخيمات «الأدغال» الناشئة.