الرئيسية  /  من هنا وهناك

لن أفعل مثل بابا نويل وأعطيكم السعادة.. بل سأحاول أن أعلمكم كيف تصطادونها .. بقلم الدكتور محمد سامر آغا


جرس الهاتف يرن.. هَبَّ من مكانه مسرعاً نحو جهاز الهاتف أحمر اللون الموجود في الصالون.. إنه الجهاز الذي يتفاءل به على الرغم من وجود العديد من الأجهزة في المنزل.. رفع السماعة لكي يأتيه صوتها...
- أريد أن ألتقيك..

صرخ فرحاً وأغلق السماعة وأسرع نحو خزانته ليخرج قميصه القمر ديني الذي يحبه وبنطاله الجينز الأزرق المكويان والمعلقان بعناية وأخرج حذاءه العسلي اللون وجواربه الزرقاء ورشرش عطره المميز وانطلق ليجد سيارة تكسي عند باب البناء فاستقلها وانطلق إلى الجامعة حيث اتفقا أن يلتقيا وعلى الطريق كان سائق التكسي صامتاً تماماً، أما هو فكان يرسم في رأسه صورة لهذه الفتاة التي يعرفها منذ حوالي الشهر بواسطة المحادثة على الإنترنت ولا يعرف شكلها... حاول أن يستجمع كل الكلام الذي تحدثت به عن نفسها ورسم صورة فتاة فارعة الطول، دقيقة الخصر، جميلة الساقين، ينساب شعرها الأحمر مجعداً على كتفيها ، عسلية العينين، منمنمة الأنف، مكتنزة الشفتين، ترتدي بنطالاً أبيضا وقميصاً أبيضاً وحذاءً أبيضاً بكعبٍ عالٍ.
وصل هناك ليجدها تقف بانتظاره وكل تفصيلٍ فيها كما رسم تماماً، مد يده ليصافحها.. فعاجلته قائلة : أحبك أحبك أحبك....
فتح ذراعيه ليضمها.. لكن...
- ماذا بك يا بني.. ناديتك كثيراً فلم تجب.. ما بالك؟؟؟
هكذا قالت له أمه.. وهكذا انتبه وليد لنفسه ليجد بأن حلم اليقظة تلاشى..
ظلت السعادة تسيطر عليه على الرغم من أن كل هذا كان حلم يقظة فهو لا يزال يجلس منتظراً جرس الهاتف ليرن فتكلمه الفتاة التي يراسلها حقاً على الإنترنت لتتصل بعد أن أعطاها رقم هاتفه منذ يومين.
فما الذي أشعر صديقنا بالسعادة.. وكم ستكون السعادة التي سيعطيه إياها الواقع مقارنة مع سعادة حلم اليقظة.. هذا ما سنحاول اكتشافه، ولكن دعوني أولاً أخبركم عن السعادة من وجهة نظر علمية..
هناك يا أحبائي هرموناً أو ما يسمى بالناقل العصبي يسمى (السيروتونين) وهذا الهرمون حينما يفرز في الدماغ يعطي الشعور بالرضا أو ما يسمى بالسعادة ومشكلة هذا الهرمون هي أنه لا يفرز إلا عند اكتمال الدارة الدماغية أما إن لم تكتمل الدارة فيتوقف افراز هذا الهرمون رغم أن الخلايا العصبية قد استعدت لقدومه وهذا ما يسبب الشعور بالإحباط أو الكآبة..
فأنت إن اشتريت ورقة يانصيب وجلست تحلم بربح الجائزة الكبرى وهي عشرة ملايين ليرة مثلاً لتشتري بها السيارة التي تحب، ورفضت في ذهنك أي مبلغ أقل من ذلك، فسيتشكل في دماغك دارة كالدارات الكهربائية التي نعرفها جميعاً بين المناطق الدماغية التالية: ورقة يانصيب – بائع يانصيب – دولاب الحظ – شاشة التلفاز – رقم بطاقتك – عشرة ملايين ليرة – سيارة
وكما تعلم فإن كل شيء نتعلمه سيخزن في دماغنا في مكان ما ( كورقة اليانصيب مثلا التي تم تخزينها في دماغك منذ اشتراها والدك أول مرة وكنت معه وسألته عنها) وتفكيرنا بأي شيء هو رسمنا الإرادي لدارة دماغية في رأسنا تصل بين هذه الأماكن..
فأنت مثلاً لديك في دماغك تخزين لمفهوم الأم ولمفهوم الحب ولمفهوم العطاء وما عليك إلا أن تصل بينهما لتستطيع أن تفكر بأنك (تحب أمك لأنها امرأة معطاء)... وقد تغير التوصيلات فتفكر (بأن تعطي أمك الحب كما تعطيه لك).. أو (أنك ستعطي الحب لأم أولادك أيضاً).. وهكذا..
وأعود لورقة اليانصيب فأقول بأن هذا الشخص بعد أن فكر بربح الجائزة الكبرى فقد رسم دارة دماغية جعلها تكتمل إرادياً، فإغلاق هذه الدارة جعل السيروتونين يفرز في دماغه فشعر بالرضا أما إن لم تكتمل كل الدارة:
ورقة يانصيب – بائع يانصيب – دولاب الحظ – شاشة التلفاز – رقم آخر
أو حتى:
ورقة يانصيب – بائع يانصيب – دولاب الحظ – شاشة التلفاز – رقم بطاقتك- جائزة مئة ألف ليرة
فسوف لن يفرز السيروتونين في دماغه وسيصاب بالاحباط ولو مؤقتاً مع أنه ربح مئة ألف ليرة...
ما أريد أن أقول يا سادة هو أننا نستطيع أن نقي أنفسنا من الإحباط أو الكآبة.. وصدقوني بأن هذه الكآبة وهذا الإحباط سيؤثر علينا جسدياً ونفسياً وسوف يستهلك طاقاتنا الفعالة وسيجعلنا عاجزين عن أداء حتى أعمالنا الاعتيادية وجميعكم يعرف عم أتحدث..
قلت مرة لصديق بأن دراسات عالمية وجدت بأن مقدار هرمون السيروتونين في أدمغة أناس ماتوا منتحرين كانت تساوي الصفر.. وبأن الذي جعلهم ينتحروا هو الإحباط الشديد.. فصرخ في وجهي قائلاً بأن هذا هراء واحتج بقوله: لماذا يعاقبنا الله في جميع الأديان بالعذاب الشديد إن متنا منتحرين طالما المنتحر مات لعدم وجود سيروتونين في دماغه، فهو إذاً غير مسؤول عن تصرفاته.. فضحكت منه وأجبته بأنك إن وصلت دارة كهربائية في دماغك تجمع : الأب – اليد- القبلة- الابتسامة فهذه الدارة ستولد سيروتونين في دماغك يمنعك من الانتحار وإن أنت نفذت هذا وذهبت إلى والدك وقبلت يده فسيفرز سيروتونين من دماغك يحول شعورك من مفكر بالانتحار إلى شخص سعيد، لا تظنوني أبالغ يا أخواني فالله يحاسبنا على الانتحار لأن الخيارات الأخرى كانت لدينا كثيرة، وأنت بإرادتك أوصلت نفسك إلى انعدام السيروتونين في دماغك.

أما الفائدة من هذا الكلام، وأنا أكره أي نقاش لا يتمخض عن أفكار تفيد الناس، فهي أن علينا كما سيطرنا على لا وعينا -والذي تحدثنا عنه في المقالة السابقة- أن نسيطر على أحلام يقظتنا وبالتالي على سعادتنا.. ولنحاول دائماً أن نرسم دارات عقلية يمكن تحقيقها وأن نرسم أحلاماً وآمالاً وطموحات يمكن بلوغها، فنحن نرسم دائماً بخيالنا تصورات لكل شيء قد يحدث معنا فحتى إن فاجأت أحدهم في عيد ميلاده بحفلة جمعت لها الأصدقاء دون أن يعلم فستكون سعادته عارمة رغم أنه مندهش ولكن صدقني بأنه لطالما حلم بأن أحدهم سيقوم يوماً بتحضير حفلة عيد ميلاد مفاجئة له فهو لديه الدارة التي أكملتها أنت وسيفرز السيروتونين في دماغه بغزارة...
وهكذا يا أصدقائي فإن كانت سعادتك بشراء سيارة وكانت أحلام يقظتك مركزة على هذه الدارة فقد تحصل على هذه السعادة مرة واحدة في حياتك وقد لا تحصل عليها أبداً أما إن كانت سعادتك بفنجان قهوة تشربه مع صديق أو خمس وعشرين ليرة تعطيها لفقير أو رؤية ابتسامة على وجه شقيقتك الصغرى وكانت أحلام يقظتك مركزة على هذه الدارة فستحصل على سعادتك في كل يوم أكثر من مرة، وصدقني.. هي ذات السعادة..
وأما صديقنا وليد فالآن عليكم أن تتخيلوا حجم الدارة التي يرسمها في دماغه والتي تصل ما بين:
جرس الهاتف- الهاتف أحمر اللون- صوت فتاة جميل – عبارة (أريد أن ألتقيك)– الخزانة – القميص قمر الديني – البنطال الجينز الأزرق – الحذاء العسلي والجوارب الزرقاء – زجاجة العطر – التكسي الموجود أمام الباب – سائق التكسي – الجامعة – الطول – الخصر – الشعر – اللون الاحمر- الأنف – الشفاه – البنطال والقميص الأبيض- كلمة أحبك.
فتخيلوا أنه إن انقطع أي جزء من الدارة فلن يفرز السيروتونين ولن يحصل وليد على السعادة التي رسمها في ذهنه، كأن يجد شعرها ليس أحمراً كما رسم وطولها ليس فارعاً كما تمنى..
لكن ما حصل مع وليد هو التالي:
جرس الهاتف يرن.. هب من مكانه مسرعاً نحو جهاز الهاتف أحمر اللون الموجود في الصالون.. إنه الجهاز الذي يتفاءل به على الرغم من وجود العديد من الأجهزة في المنزل.. رفع السماعة ولم يجب أحد، ضرب السماعة أكثر من مرة بذراع الكرسي إلا أنها لم تعمل.. ركض باتجاه الغرفة الأخرى ليجد أصدقاء شقيقته في الغرفة وقفز إلى هاتف المطبخ حيث كانت أمه تحاول تعذيب البامية التي يكرهها ويكره رائحتها، وحين رفع السماعة لكي يأتيه صوتها... جاءه صوت كجرس الإنذار يزعق في أذنه.. إنه هيَ.. يا إلهي..
- أريد أن ألتقيكِ..
- تلتقيني... ماذا؟؟؟ ما عندك أخوات بنات تخاف عليهون
ولكنها وافقت بعد مناقشة استمرت ساعتان..
صرخ فرحاً وأغلق السماعة وأسرع نحو خزانته ليخرج قميصه القمر ديني الذي يحبه وبنطاله الجينز الأزرق فيجدهما بأسوء حالة، متسخان وغير مكويين وأخرج حذاءه العسلي اللون ليجده ممزقٌ من جانبه وجواربه الزرقاء التي فاحت رائحتها ختى غطت على رائحة البامية، أما زجاجة العطر فكانت منتهية وحاول تحريكها في كل الجهات ليحصل على رشة دون جدوى، وانطلق ليجد سيارة تكسي عند باب البناء ولكن السائق انطلق لحظة وضع يده على مقبض الباب ليرميه أرضاً، وانتظر ساعة ليضطر أخيراً لركوب السرفيس وانطلق إلى الجامعة حيث اتفقا أن يلتقيا وعلى الطريق كان سائق السرفيس يحدثه عن أسعار البندورة والخيار والبقدونس والكيوي اللي صارت نااار.. كيوي؟؟؟؟ أما هو فكان يرسم في رأسه صورة لهذه الفتاة التي يعرفها منذ حوالي الشهر بواسطة المحادثة على الإنترنت ولا يعرف شكلها... حاول أن يستجمع كل الكلام الذي تحدثت به عن نفسها دون جدوى.. إذ إن صوت السائق كان يقاطعه في كل لحظة.
وصل هناك فلم يجدها وانتظر ساعة وثلاث وعشرون دقيقة لتأتي أخيراً فتاة قصيرة بدينة خصرها كمدفأة الحطب التي في منزله والتي طالما نفضت في وجهه ، شعرها أسود مقصف وأنفها يتجه كبوصلة نحو الشمال كيفما أدارت وجهها تلبس بنطالاً أسود وقميصاً أسود تخفي خلفهما بدانتها، مد يده ليصافحها.. فعاجلته قائلة : هذا أنت... يا إلهي.. أنت قبيح للغاية... لقد غششتني..
فتح ذراعيه ليضمها.. لكنها عاجلته بصفعة على وجهه ورحلت...

فتصوروا يا سادة كم من السيروتونين سيكون بدماغ صديقنا الآن...
أمدكم الله بطول العمر وبالسيروتونين وجعل أيامكم كلها دارات مغلقة....

د. محمد سامر آغا

Copyrights © dampress.net

المصدر:   http://www.dampress.net/?page=show_det&category_id=82&id=8330