دام برس - فاطمة صندوق :
يذكر التاريخ أحداثاً كثيرة حصلت على جغرافيتنا العريقة، أحداثً حاولت المس من وحدتنا وقيمنا وتعايشنا ومحبتنا بين بعضنا، ومهما كانت أسباب ودوافع تلك الأحداث إلا أنها كانت تخمد بفضل وعيي أهلها وعدم انصياعهم للفتنة، من جملة الأحداث ما حصل عام 1860م وما دعي بالطوشة المؤرخ السوري الياس بولاذ : البالغ من العمر 76 عاماً والباحث في أسباب ودوافع هذه الأزمة يتحدث لدام برس بتفاصيل الحادثة الأليمة التي راح ضحيتها عدداً لا يستهان به من الأرواح وفاق الألاف
لم يخلق لدي حبُّ في البحث والتعمق في طوشة عام م1860الا بعد أن رأيت غزو الجيش الأمريكي للعراق عام 2003م، حيث رأيت بدايات الاحتلال والتغلغل في الشأن العراقي والسيادة العراقية والتقسيم الطائفي ومن هو ورائه والأطماع الاقتصادية والأرباح التي تجنى من وراء هذا الغزو، إلى تطور الأحداث الإقليمية والعالمية المترابطة مع بعضها، وهذا ما شجعني على أن أتعمق أكثر وأن أجري بعض المقارنات فيما حدث عام 1860 هنا في دمشق التي كانت جزءً من بلاد الشام آنذاك ، هذا البحث المعمق شغل حيّز اهتمامي على مدى 15 عاماً من جمع الأدَلة من صور ومحاضرات وترجمة بعض الوثائق باللغة الفرنسية، ومتابعة وتدقيق المراجع حتى أدق التفاصيل والأحداث التي حصلت .
وما سأقدمه الآن من دلائل يبتعد كل البعد عن أي تشويه لطائفة أو دين معيّن، وأهدف من خلال حديثي أن أضع الوقائع كما هي وأن أعرض الحقائق كما يجب، بهدف خلق الوعي المناسب في زمان بات فيه تبادل الثقافات ومعرفة الديانات الأخرى جزء من تربيتنا، إذا نجحنا في مهمتنا حينها نكون على الخُطا الصحيحة في بناء جيل واعي ومثقف قادر على مواجهة أي تدخل طائفي مع الزمن يهدف إلى تشتيتنا وتفريقنا، فنحن بلاد الدين لله والوطن للجميع، ونحن بلاد كلنا متعايشون كلوحة فسيفسائية جميلة لا تكتمل دون الأخر.
وأنا تابع شخصياً كل من كتب حول الأحداث أو عرض إن كان عبر الصحافة أو كان عبر التلفزيون لكن للأسف عرضت الأحداث فقط من باب التذكير بما حدث من مجريات للأمور دون ذكر للأهداف السياسية الخارجية وأطماعها أو الاقتصادية التي كانت تنبى على أساس هذه الفتنة ولعلي أنا أول من سوف يتحدث عن هذه الأمور.
ال 1860 م هي مجموعة حوادث استمرت لمدة عام تقريباً واشتدت في بعض الأشهر كانت دمشق اليوم من ضمن عدد من البلاد كلبنان ومصر والأردن وفلسطين تدعى بلاد الشام
بالإجمال عندما نقول سورية في ذاك الزمن اي المنطقة الممتدة من لواء اسكندرون حتى القدس وسيناء، وكانت تحت حكم العثماني الجائر، الأحداث في ذاك الزمن كان يكتب لها أن تأخذ صبغة طائفية ودينية مقيتة لتشتعل الأحداث وتكبر المذابح، وكلكل فتنة يراد لها أن تأخذ أبعادها ، تهيئ العمل هنا بضخ وتعبئة ومن ثم حقن وتجهيز وشراء وتوزيع أدوار ومن ثم انفجار.
على الرغم من الغطاء الطائفي الذي غلف أحداث عام ال 1860 الا أن ما تحت الغطاء أبعاد سياسية واسعة المدى والأفق، لكن ليس بالإمكان إنكار الخلفية الطائفية التي نفذت بها الأحدث.
أما ما حدث يمكن تقسيمه الى عدة أقسام كالتالي:
التدخل الخارجي
هو أن هذه البلاد التي حكمها المحتل العثماني لمدة أربعة قرون متتالية كان قد قسم بلاد الشام لعدة ولايات وكل ولاية ينصب عليها والي يدير شؤونها ويرعى أمورها فوالي الشام كان آنذاك "أحمد باشا " الذي تأمر مع خورشيد باشا في لبنان واللذان تعينان عبر أحد السفارات التي كانت جزء من مخطط مجزرة 1860 م ، وفي ذاك الحين لم تكن السلطة العثمانية مالكة لزمام أمورها بنفسها، إنما كانت أداة بيد القوى الكبرى والتي هي في الدرجة الأولى فرنسا وإنكلترا وفيما بعد ألمانيا، فما كان على السلطة العثمانية إلا أن تنفذ كل ما يطلب منها ولا ننسى أن نذكر دور القناصل آنذاك والذي تمثل بالتدخل المتكرر في أصغر الشؤون، وما كان للسلطة العثمانية أي قوة على ردع تدخلهم ، لأن القناصل كانت قد أغرقت الدولة العثمانية بالديون الكبيرة، من السلطان إلى الوزراء الى الحاشية، وبالإمكان القول أن السلطة العثمانية كانت مرتهنة مئة بالمئة للقناصل والقوى الخارجية لأنها كانت على وشك الإفلاس الكلي، والدولة العثمانية كانت دولة مسلمة وتحتوي رعايا مسيحين لهم حقوق وعليهم واجبات ويتمتعون بكامل الحرية الدينية لكن لضمان هذه الحرية يقومون بدفع جزية بسيطة قادرين على تجميعها كل عام ودفعها للوالي.
ومما هو ضروري أن يعرف أن السياسة الخارجية هي من كانت تنصب نفسها وصيّاً على المسيحيين في الداخل، ولهذا عمدت للعمل على نظام كانوا يدعونه التنظيمات وبعدها تم الفصل بين مسيحيي دمشق ومسيحيي لبنان كنوع من الاستقلال وبعدها تم اعطاء صلاحيات كبرى عبر نظام التنظيمات ونظام الامتيازات - والذي يتضمن نظام الحماية للأقليات- للموارنة في لبنان وهذا ما جعل الفرنسيين يعينون أنفسهم أوصياء على المسيحيين في الشرق ، بهذا يكون الفرنسيين والانكليز قد فرضوا أنظمة على الدولة العثمانية مع إجبارها بتنفيذها.
الخدمة العسكرية
مما كان هو معروفا في ظل الحكم العثماني أن المسيحيين كأقليات كانوا يدفعون جزية مناسبة يفرضها السلطان العثماني ومقابل هذه الجزية يعفى المواطن المسيحي من تأدية الخدمة العسكرية، وهذه أولى النقاط التي بدأت تَبنى الطوشة عليها، حيث أنها نقطة قوة تسجل لصالح المسيحيين آنذاك، ولأن الإعفاء من الخدمة يفتح فرصة لأن يكمل الشباب المسيحي تعلمه وأن يهتم بتعلم صناعات ومهن تُدر أرباح طائلة، وأن يعيش حياة طبيعية حرم منها الشاب المسلم كأن يتزوج وان يأسس عائلة، إلا بعد أن يعود من الجندية ( خدمة العلم )، هذا إذا عاد ولم يستشهد على الجبهات ، اذ أن الأخذ عسكر أيام العثمانيين كان يضم خدمتين ، الأولى الخدمة الإجبارية والثانية هي الخدمة الاحتياطية، حيث أن الأولى تتراوح ما بين (7- 10) سنوات فيما الثانية كانت خمسة سنوات ، وبهذا يكون الشاب المسلم قضى من حياته خمسة عشر سنة في خدمة الدولة العثمانية عسكرياً، بالإضافة إلى أن الشاب السوري عندما يتطوع ويأخذ للخدمة العسكري يكون في سن الشباب اليافع ما بين ال 17-20 وعندما يعود يكون قد بلغ من العمر ما بين (30-32) سنة وعلى هذا كيف سيعود الشاب المسلم ليتقبل الحياه ويتفهمها ففي هذا العمر لا يكون قابل لتعلم أي شيء ، عدا ما كان يلاقيه من معاناة في مواجهة واقع العسكرية هناك، فكان عليه أن يقوم بنفسه بتأمين المأكل والمشرب لنفسه وهو على الحدود، وإذا لم يتم تأمين المأكل يموت الشخص دون أي أدنى اهتمام من السلطة العثمانية ، عدا أنّ هذا العسكري لا يتقاضى أي راتب شهري من الدولة العثمانية وليس لديه أي حقوق عندها، حتى في مرضه أيام الخدمة عليه أن يواجه المصير أو القدر الذي كتب له، هنا بالإمكان القول أن التنظيم العسكري كان سيئ للغاية والناحية الوحيدة التي اهتمت لأمرها الدولة العثمانية فيما يخص الجانب العسكري هو تأمين البدل ولكن حتى في هذا الأمر لم يكن منصفاً ، إذ أن بدل العسكري كان يقدر بمئات الليرات الذهبية، أي أنه مبلع لا يتمكن من دفعه إلا الأثرياء، والذين كانوا في ذلك الزمن قلائل جداً ، وهذا ما شكل نوع من الحساسية ما بين الشباب المسلم والشباب المسيحي في ذلك الوقت، وهنا أود أن أنوه لأمر مهم جداً هو أن الخدمة لدى الدولة العثمانية لم تكون في مفهومها العسكري البحت إنما تعد جهاد مقدس وفرض عين على كل مسلم يجب عليه أن يؤديها وهذا ما يدفعني للقول أن الشاب المسلم هنا كان يعيش معاناة كبرى لأنه وفي ذاك الزمن كانت الحروب في البلاد المجاورة على أشدها، وكانت الدولة العثمانية بحاجة للشباب المدافع عن حدودها بكثرة، فعندما كانت تشتعل الحروب على الحدود ، كان من الممكن أن يخدم الشاب المسلم خدمة العلم مع الخدمة الاحتياطية لما يقارب ال 20 عاماً
فموضوع الجندية كان حدَاً فاصلاً ما بين المسيحيين والمسلمين من حيث المستوى الفكري والثقافي والمهني
تجارة الحرير
فعندما كان الشاب المسلم قد قضى ما عليه من خدمة وعاد، كان الشاب المسيحي مصاباً بالكثير من الغرور، لدرجة أن شعور الازدراء والترفع كان واضحاً من نظراته نحو الشاب المسلم، ما زاد من الحقن الداخلي لدى المسلمين، الذي كان ينظر لنظيره المسيحي بنظرة حزن وأسى ، إذ كانا منذ الصغر يلعبان معاً ويتقاسمان الأفراح والأتراح، ليغيب الشاب المسلم ويعود لرؤية أولاد صديقه المسيحي، الذي كان في فترة غيابه قد تعلم وتزوج وعاش ربيع عمره وأتقن تجارة وادخر أموالاً وأصبح من الأثرياء إن أمكن القول، وهذا ما مهد لبيئة خصب لافتعال أحداث عام 1860م ، ومما هو جدير بالذكر أن المسيحين بسبب تفرغهم الكبير وعدم أخدهم للخدمة الإجبارية كانوا هم أصحاب الحرف الثقيلة وهم من يتحكمون بتجارة المسلمين كتجارة الحرير والحديد والذهب ومختلف الصناعات الأساسية التي تقوم عليها الدولة، والبعض من التجار المسيحيين كانوا يقومون بتشغيل الشباب العائد من العسكرية كعاملين تحت يدهم دون إعطائهم مفتاح لأي مصلحة كي لا يتمكنوا من اكتشاف سر المهنة والمتاجرة بها، وهذا أيضاً كان عاملاً مهماً في ازدياد الاحتقان، فكانت كل عائلة مسيحية لها مهنة محددة ونسبت اليهم تلك المهن كعائلات ( الحداد ، والحريري، البولاذ) ، نعم البولاذ وهذا ما يدل أن عائلتي في ذلك الزمن كانت ذات شأن في مهنة تصنيع السيوف، أما المهنة التي كانت تشغل الشرق في ذاك الوقت هي تجارة الحرير،هذه التجارة المربحة وتعادل تجارة الذهب، وكانت بيد المسيحيين، وبالإمكان الاستعانة بكتان للمؤلف "ظافر القاسمي" بعنوان " قاموس الصناعات الشامية القديمة" الذي يجمع معظم أسماء العوائل الشامية ويصنف المهم حسب الأديان ، فالمسلمين كان لهم مهن معينة، والمسيحين كذلك، كما اليهود أيضاً كان لهم مهن، فالمسلمين أغلب مهنهم كانت تنحصر
إما بما يخص الطعام أو التجارة، فهنا نقول أن كل دين من الأديان أصبح له مهنته، والتي لها أصول أسرار ونظم ومتمسك بها ويحرص كل الحرص على الكتم بحيثياتها، وكانت أمور التنظيم تأتي مما يسمى شيخ الكار لكل طائفة من الطوائف، واذا وددنا حصر عدد الصناعات التي يمتلكها المسيحيين فإنها تفوق ال 300 صناعة من بينها العمار والبناء، وهي تماماً مهن لا يعلم بها المسلمين أبداً، فبالعودة للحديث عن مهنة النسيج والحرير، فهي المهنة التي كانت تشغل العالم وخاصة عندنا هنا في دمشق ، إذ أن الدمشقيين المرموقين كان لديهم حب اقتناء المنسوجات الحريريه بشغف كبير، وهي 20 اختصاص متتابعين، (كالمصدي والحايك والكباب والخ....) وكأن الأشخاص التجار المسؤولين عن مهنة الحرير يكثرون من التزاوج من بعضهم لتطوير المهنة والحرص على أن تبقى حصراً ضمن الاختصاصات ال20 والعوائل المسيحية، لأن كل اختصاص من الاختصاصات ال20 بحاجة الأخر لتكتمل صناعة الحرير، وهذا ما شكل ترابط كامل بين التجار أمكنهم من زيادة التحكم بالسوق التجارية، الآن كان المسلمين أشهر تجاراتهم وأكبر تجاراتهم يحصدونها في مواسم الحج أي يقومون بشراء الحرير من المسيحيين وغير الحرير حتى ومن ثم بيعها للزوار بأرباح لابأس بها في موسم الحج عبر القوافل كما كانوا يتبادلون البضائع بين مختلف الشعوب، وهنا تشكلت طبقة تجارية مكنت المسلمين من السيطرة على خطوط التجارة وأهمها تجارة الحج، و وكان للمسيحيين في تجارة الحرير مراكز متوزعة من الشرق إلى الغرب في في صور وعكا والاسكندرية ومرسيليا وبليفورنو بإيطاليا وهي لجاليات كبرى مسيحية لها أقسام هناك أي أنها أصبحت تجارة دولية، وأكبر تاجر حديد في العالم كان من دمشق ويدعى " فرنسيس مسابكي" وهو من يحدد سعر الحرير في العالم كله ، بعد فترة من الزمن افتقد المادة الأولية لصناعة الحرير وخاصة في مكامنها الأخرى كالصين و أوربا، نتيجة اصابة الصناعة بداء كما نعلم أن المادة الأولية المصنعة للحرير هي تربية دودة القز على أوراق العنب ولم تعد موجودة ألا عند تجار الشام التي كانت مخزنة في مكامن لديهم وبكميات غزيرة وكانت أيضا متواجدة في مراكزهم، هذا ما زاد من غنى التجار المسيحيين هنا، كما شهد الحرير ارتفاعاً رهيباً وأصبحت أسعاره مضاعفة وأخذ بالصعود ، والطلب كان لايزال جاري عليه، وأيضاً من الدول التي كانت متقدمة في مجال صناعة الحرير فرنسا عبر مراكزها وكانت تستورد موادها الأولية من الصين واليابان وهذه الدول شملها الوباء الذي أدى لضرب مواسم الحرير، وبقي تجار الحرير في دمشق ووحدهم من يصنعون الحرير ويتحكمون به، والآن يمكن القول أن العوامل والأسباب أصبحت جاهزة لإشعال الفتنة على أيدي الشباب الذين كانوا قد عادوا من الأخذ عسكر والعاملين عند ما يسمى زعيم الحارة "العكيد" وهو أيضاً كان صاحب ولاء للسلطة العثمانية.
وهنا عند اكتمال الأسباب و الانتهاء من التحضير للبدء وصباح يوم الطوشة أغلقت كل الأبواب المحاطة بدمشق والتي بداخلها يقطن المسيحيون وبدأ الإقتتال العنيف والذي راح ضحيته ألاف المسيحيين وهجر البعض الأخر وسجلت إثره الكثير من الانتهاكات في حق المسيحيين والتي نفذت بتحريض عثماني على أيدي شباب غرر به وغسلت أدمغتهم للقيام بهذه الأفعال العدوانية .
.
انتهى الصراع بتدخل الأمير عبد القادر الجزائري وبعض العلماء المسلمين المنتورين من أهالي الميدان والذين كانوا يعوا أن ذلك مؤامرة من صنع الحاكم العثماني والغرب الطامع بأرضنا.
|
||||||||
|