دام برس: يومَ أمس جئتُ إلى هناك. رأيتكَ، أو رأيتُ نفسي، واقفا في الطابور لتأخذ حصتك من الطعام. هنا، في الصليب الأحمر (لا تنسَ كلمة الصليب) وقفتُ أنا قبل ثلاثين سنة مثلما تقف أنت اليوم، في نفس الطابور. كانت في قلبي يومها، كما اليوم، غصة فأنا ابن العراق .. وأنت تعرف الشعور نفسه فأنت ابن سورية. ولكني لم أكن أشعر بالندم على الإطلاق لأني كنت أعتبر الوقوف هنا ثمنا، أوبديلا عن أن أغمس لقمة أطفالي في دماء العراقيين. يومها لم يبق أمام العراقي من خيار .. إن أراد السلامة فلم يكن أمامه إلا أن ينتمي إلى حزب البعث، ليس ليبني مستقبل الأمة العربية ذات الرسالة الخالدة، وليس ليشارك في تحرير فلسطين، بل ليحافظ على "الثورة"، وغرور الأب القائد، وعنجهية القائد الضرورة، لينتهي به الأمر إلى أن يموت ليحفظ عروش طغاة جزيرة العرب. ستعرف الأجيال القادمة أن ذلك كان خيارا صعبا: إما أن تفنى في الوطن، وتشارك في تدميره، أو تقف في الطابور تحت راية صليب أحمر لتنال حصتك من الطعام، وأنت ابن الخير الذي تعلّم أبا عن جد أن يكسب لقمة عيشه بعرق الجبين. الانتماء إلى الحزب كان يعني بشكل مقصود، وبكل بساطة، أن يشارك المواطن في الجريمة، فيكتب التقارير التي يمكن أن تكسر رقبة جاره، وزميله في العمل، وقريبه، وابن عمه أو أخيه، أو حتى زوجه، فيصبح قاتلا لا شيء إلا لأنهم لم يكونوا يريدون أن يبقى في العراق أحد يداه نظيفتان، ويدعي أنه لم يشارك في الجريمة. ثم صار علينا أن نبذل دماءنا رخيصة باسم حماية البوابة الشرقية. كان الوقوف في طوابير الصليب الأحمر (ولا تنسَ كلمة الصليب) حفظا للكرامة وصونا للضمير، ورفضا للمشاركة في الجريمة. هل ترى كم كنت مثلك؟ أنت أيضا كنت تستطيع، إن تجردت من الإنسانية، أن تغمس لقمة أطفالك في دماء أبناء بلدك مقابل الدولارات السعودية والقطرية، فتنتمي إلى واحدة من منظمات "الجهاد" والإفساد في الأرض! لم تفعل، واخترت (لم يجبرك غير ضميرك وإبائك) أن تقف حيث كنت أقف قبل ثلاثين سنة.
لا أخفي عنك أني فكرت للحظة أن الأوان قد آن لأكسر القلم و.... لكني تطلعت في هامتك، وقلت في نفسي "لن تنحني هذه الهامات أمام الأقزام، وأمام المحن". لا بأس، ها نحن هنا كلانا، ولا نقف هنا كشحاذين، بل نؤمن في دواخلنا أننا أمام إخوة في الإنسانية يقرضوننا قرضا حسنا، ونتعهد بأن نرده إليهم أضعافا. أنا وأسرتي عشنا لسنة كاملة على مساعدة إخوتنا في الإنسانية، ومنذ تسع وعشرين سنة نرد جميعا شيئا من الجميل، وسنبقى نفعل ذلك ما حيينا، نساهم في بناء هذا المجتمع بكدنا، وجهدنا، وعرقنا. لن ننسى أبدا فضل من آوانا، وأطعمنا، ومنحنا الأمن ساعة ضاقت بنا بلاد أهلنا بما رحبت. لا تبتئس أبدا، بل تذكر أنك سوري أبي، وكريم، وعزيز قوم لن يرضى بالذل. أنا لا أقول لك هذا من باب الانفعال والتعاطف معك، بل هذه هي الحقيقة. غدا تتجاوز هذه المحنة، محنة الوقوف في الطابور، ورؤية الناس يتقاطرون إلى هنا بأكياس مليئة بالألبسة والأحذية، وغيرها، وقد تأتيك ساعة تبكي فيها لأنك ستلبس طفلك حذاء مستعملا، أو تلبس زوجتك ثيابا قديمة، أو تلبس أنت جاكيتة استغنى عنها أحدهم .. تبكي لأنك من بلد كان يُطعم من حوله، لأنك من بردى ومن الغوطة. لا تبتئس، فيوم تنطلق من قيودك، وتتجول في أوروبا من أقصاها إلى أقصاها ستعرف نفسك أكثر، فأنت السوري، سليل من أقاموا الحضارات، وعمروا الأرض، وخلقوا الثروات، وأنشأوا العلوم، وطرزوا الفنون، وأبدعوا الأدب. سترى أنك، مثلك مثل أي إنسان على وجه الأرض، قد تأتيه ساعة محنة، أتاك حين من الدهر تكالبت فيه عليه كل ضباع الصحراء، فوجدت نفسك في طابور في الصليب الأحمر (ولا تنسَ كلمة الصليب)، ولكنك لن تلبث طويلا حتى تقف على قدميك، تقيم الحضارة من جديد حيثما كنت. في أوروبا، كما في الأمريكتين، وأستراليا، وفي كل مكان سترى السوريين الذي جاءوا إلى هنا قبلك .. مفخرة لسورية وللبلد الذي استقبلهم، فهم أطباء ومهندسون، وعلماء، وباحثون، وكتاب، وأساتذة جامعات، وتجار، أو في أقل الأقل أناس يكسبون لقمة أسرهم بعرق جبينهم . السوري لا يستطيع (هذا قدره) إلا أن يسود، ويعيش بكرامة .. إن تقفيتَ أخبار السوريين ستجدهم في دائرة الضوء فيما ينفع الناس. قل سوري، وسوف يشير الناس إلى آلاف النوابغ، والمبدعين. ولعلك لا تدري، أن الناس هنا مستبشرون بقدومك، فهم يعرفون أنك تحمل مؤهلات علمية وعملية، وأنك تحمل مقومات الحياة، وأنك تحمل جذوة الحضارة، وسوف تغني هذا البلد وهذا المجتمع. كررت عليك مرات أن تتذكر كلمة الصليب، لأني أعتقد أن التجاءنا إلى أهل الصليب سر من أسرار هذه الأمة، وقدرها. هل تعرف أن الرسول الأكرم حين ضيّق أجداد تيوس السعودية الحاليين من قريش الخناق على أصحابه الكرام، شجعهم على اللجوء .. إلى أين؟ إلى الحبشة إذ كان فيها ملك من أهل الصليب. سبحان الله فنحن نلجأ اليوم إلى الصليب الأحمر، ووراء محنتنا أحفاد تيوس قريش! أي قدر هذا؟ كنت أنت وأهلك في الشام في أمن واستقرار حتى جاءتكم موجات البرابرة من صحراء الجزيرة، فضاقت بكم أرضكم، فلم تجدوا، مثلي أنا، غير الصليب الأحمر ليطعمنا، ويحمينا. أنا تعلمت من هذا شيئا، وهو أن أنظّف نفسي من كل أثر للتعصب، ففي المحنة نكتشف أننا إخوة رغم اختلاف الأديان، واللغات، والألوان، بل وإننا حين ترتفع صرخات "الله أكبر" من حناجر أحفاد قريش وسيوفهم على أعناقنا نلجأ إلى الصليب بحثا عن الأمن والحماية. لا تبتئس، فأنت هنا في أيدي الكرام. سل العراقيين الذين هربوا من صدام عام 1991 ولم يجدوا مفرا من دخول مملكة الرمال، سيقصون عليك قصص الإذلال في معسكر رفحة سيء الصيت في مملكة آل سعود. لا تآخذني عندما أسرّ إليك أن الناس الذين يساعدونك هنا في قلوبهم رحمة – تعرف لماذا، لأنهم ليسوا مسلمين. هنا لن يغتصب أحد أطفالك. لن يحلم سعودي ولا قطري ولا كويتي بالمجيء إلى هنا لاغتصاب القاصرات!! فمثل هذه الجرائم مباحة لهم في بلاد المسلمين وحدها وباسم الإسلام. وهنا لن يدوس أحد على كرامتك لأنه يطعمك مؤقتا، وهنا يقدمون لك المساعدة، ولا يطلبون منك جزاء ولا شكورا، ولا ينتظرون منك إلا أن تتجاوز محنتك، وتواصل مسيرة بناء حياتك. أنا أعرف عن قرب كيف يفكرون بك. في إحدى الجزر قرروا تحويل مدرسة قديمة إلى معسكر لاستقبال مئة طفل سوري وصلوا إلى هنا بدون ذويهم، وبعد إجراء الرقابة على المكان رفضت اللجان المسؤولة استخدام المدرسة لأنها غير صالحة للسكن بسبب بعض الرطوبة! أوصيك خيرا بأهل هذا البلد .. وإن أردت التقرب إليهم فداعب كلابهم، وقل عنها إنها جميلة، وسوف يحبونك. إياك أن تفكر أن الكلب نجس، فكلاب الدنماركيين أكرم من كل أمراء آل سعود، ومن كل شيوخ الكويت ومن كل تيوس قطر، والحبل الذي في رقبتها أنظف من العقال المطرز بالذهّب على رأس ملك البحرين.
دعنا نصلي من أجل أرواح الأبرياء الذين طالتهم يد الغدر في بلادنا، ومن أجل أرواح الذين لم يستطيعوا الوصول إلى بر الأمان، وغرقوا في البحار ..
تحية دجلة إلى بردى |
||||||||
|