الرئيسية  /  كتاب وآراء

الثورة الديموقراطية التي اندلعت في 25 يناير .. بقلم :جمال ايوب


دام برس : الثورة الديموقراطية التي اندلعت في 25 يناير .. بقلم :جمال ايوب

دام برس:

الثورة الديموقراطية التي اندلعت في 25 يناير 2011 في ميدان التحرير وسائر المدن المصرية، وقدمت المئات من الشهداء والجرحي ، ونجحت في إزاحة رأس النظام عن موقع الرئيس في 11فبراير 2011 فتحت الباب أمام عملية الانتقال السلمي الشامل نحو الديموقراطية، بما تحتاجه هذه العملية من استكمال هدم النظام القديم، وإقامة نظام سياسي جديد يتسم بالديموقراطية والعدالة الاجتماعية، تطبيقاً للشعار الرئيسي للثوار: "الشعب يريد إسقاط النظام، تغييرـ حرية ـ عدالة اجتماعية". وتنطوي كل ثورة علي عمليتين معا، هما عمليتا الهدم والبناء، لكن ما يتم في الظروف العادية في سنوات ببطء وبوتيرة عادية قد تصل حد الركود أو التطور غير المنظور لا يتم في أثناء الثورة بنفس الطريقة، فقد يتم في أيام أو ساعات، فالثورات تقوم بعمليات تسريع للإنجازات باعتبارها نقلات نوعية في التاريخ، لأن الثورات تنتمي لمفهوم التغير الكيفي، استكمالاً لما تم في السابق من تراكم كمي ، والتراكم الكمي إذ يكون بطيئاً وغير منظور فإن التغير النوعي يكون سريعاً ومنظوراً ومتسماً بالثورية. وتتميز ثورة 25 يناير بشبابها، وطريقتها في عمليات الحشد والتعبئة ورفع الشعارات والتوحد حولها، والضغط عن طريق الانتفاضات السلمية المليونية، بقدرتها علي إزاحة رأس النظام، والقضاء علي شرعية النظام القديم (دون القضاء عليه بعد)، والمطالبة بنظام ديموقراطي جديد يستهدف إقامة دولة مدنية ديموقراطية. لكن معضلة هذه الثورة أنها حيث فتحت الباب لبناء نظام جديد ، لم تكن تمتلك قيادة منظمة قادرة علي الانتقال من حالة الحشد والتعبئة والصمود في الميادين إلي حالة استلام السلطة والقيام بالتغيير الثوري للنظام،
بل فتحته باتجاه إنجاز عملية التغيير والبناء عبر مرحلة انتقالية قلقة، تتسم قواها والعناصر المتنفذة فيها بالتداخل بين عناصر تنتمي لنظامين: النظام القديم والنظام الجديد. وهذه هي معضلة هذه الثورة وقدرها في أن تكون ثورة مستمرة، دائمة، كي تتمكن من إنجاز مهمتها الرئيسية، وهي بناء الديموقراطية بمعناها الشامل، ومواجهة التحديات الفكرية والسياسية والثقافية المرتبطة بعمليتي الهدم والبناء، لكي يتمكن النظام الجديد المنشود من البزوغ والنمو والتوسع والتحقق علي حساب النظام القديم المرفوض، وعلي الرغم من تداخل ومعضلات المرحلة الانتقالية وتحدياتها فإننا ينبغي أن ندرك أن ثورة 25 يناير قد فجرت في الواقع المصري- والعربي - ثلاث ثورات في ثورة واحدة هي: 1ـ ثورة سياسية من أجل تغيير النظام السياسي القديم، 2ـ وثورة اجتماعية من أجل تغيير نظام القيم السائدة، 3ـ وثورة ثقافية من أجل تغيير نظام التفكير السائد. فما هي أهم تداعيات وتحديات هذه الثورات الثلاث؟ هذا ما نحاول التعرض له في الفقرات التالية. أولاً: ثورة تغيير النظام السياسي: نجحت ثورة 25 يناير الديموقراطية في الإطاحة برأس النظام، لكنها لم تتمكن بعد من تحقيق شعارها المعلن حول إتمام عملية إسقاط النظام السياسي، والمقصود هنا بالنظام السياسي هو النظام الذي كان قائما قبل 25 يناير 2001 بمكوناته الدستورية والقانونية والتنفيذية، برأسه وجسده وأطرافه، أي برأسه ودستوره والقوانين المكملة له، والسلطات التشريعية والتنفيذية النابعة منه، وأدواته الأمنية والسياسية. فإذا كانت الثورة تمكنت من الإطاحة بالرأس في 11 / 2 / 2011 ، وتوجيه ضربات مؤثرة لعدد من رموز الفساد والسطوة الذين كانوا متنفذين في عدة مواقع تنفيذية في الحكومة وفي الحزب الحاكم، إلا أن بقايا النظام مازال قائماً، في دستور 1971 ببنائه الرئاسي الفردي الذي يعطي للرئيس صلاحيات مطلقة، وقائما في بقاء القوانين المقيدة للحريات، كقوانين تقييد حرية الحركة والتجمع والتنظيم والتعبير، وتقييد حرية إقامة الأحزاب والنقابات والجمعيات ومنظمات المجتمع المدني، وقوانين مباشرة الحقوق السياسية والانتخابية وغيرها من القوانين. كذلك مازال النظام قائماً في السلطة التنفيذية المركزية، وفي المحافظات والمدن والقري، وفي الحكومة والمحافظين والمجالس المحلية المزورة لصالح أغلبية غالبة من أعضاء الحزب الوطني الذي كان حاكماً، وحزب مبارك ونجله ورجاله , ومن المؤكد أن عملية الانتقال من النظام القديم إلي النظام الجديد ليست عملية سهلة ، فهي عملية تنطوي علي صراع بين عناصر القديم الذي تكون واستقر وساد عبر الزمن، وعناصر الجديد الذي مازال يتكون ويتشكل ويتوالد، ومن المؤكد أيضا أن عملية التغيير الثوري ليست مجرد ضربة واحدة، بل عملية تنطوي علي الكثير من التحولات والإجراءات والخطوات، وتنطوي علي العديد من الاستراتيجيات والأهداف والوسائل التي تستهدف التغيير. وتتميز ثورة 25 يناير بوضوح استراتيجيات وأهداف التغيير التي طرحها ثوار التحرير،

فعندما طرحوا أن الشعب يريد إسقاط النظام طرحوا في نفس اللحظة شعار: تغيير، حرية، عدالة اجتماعية، ولم يكتفوا بالعموميات، بل حددوا سمات الدولة التي يريدونها لمصر، باعتبارها دولة مدنية ديموقراطية، أي تلك التي لا تكون دولة دينية أو عسكرية، وحددوا سمات النظام السياسي المنشود، وهو بالتحديد نظام الجمهورية الديموقراطية البرلمانية، أي الذي لا يكون رئاسياً فردياً استبدادياً، ووضعوا هذين الشعارين في إطار من التوجه الرئيسي نحو العدالة الاجتماعية، ولذلك كان شعار الثورة المتكرر: تغيير، حرية، عدالة اجتماعية، أي التغيير نحو الحرية والعدالة الاجتماعية. ومن المؤكد أن هذه الشعارات الرئيسية وتوجهاتها نحو تغيير النظام السياسي تواجهها تحديات حقيقية ، تصل إلي حد المخاطر، التي تنبع جلها من السمات التي أحاطت بالثورة، والتي أنتجت السمات الخاصة بالمرحلة الانتقالية لعملية ثورية تنطوي علي عناصر من النظام القديم وبقاياه، والتي من الممكن أن تتجمع مكونة ما يعرف بالقوي المضادة للثورة، التي قد تسعي إلي إعادة إنتاج النظام السياسي القديم، أو عرقلة استكمال المرحلة الانتقالية وعرقلة ظهور النظام السياسي الجديد، أو الالتفاف علي الثورة وركوبها وإفراغها من مضمونها الثوري ومن أهدافها الثورية. ثانيا: ثورة تغيير نظام القيم: ونجحت ثورة 25 يناير بشبابها وشيوخها وفئاتها المتنوعة في توجيه معولها النبيل نحو نظام القيم الذي ساد في المجتمع المصري لزمن طويل، وكان كثيرون من أفراد النخبة والفئات الشعبية قد ظنوا أن تلك الأنساق من القيم السلبية والتدميرية قد سادت وتمكنت إلي الأبد، وظن بعضنا ألا راد لها بعد تسيدها في المجتمع المصري بأغلب مؤسساته، وبسبب الارتباط وثيق الصلة لهذه القيم برموز النظام السياسي البائد. فقبل الثورة بسنوات كان الفساد قد ضرب في البر والبحر، وتغلغل وتغول وأصبح نظاماً عاماً في المجتمع، وتراجعت أمامه قيم النزاهة والشفافية، وكان الفساد قد حمي نفسه بشبكات من الفاسدين المسلحين بالعنف والبلطجة وتزوير الأوراق والمستندات والغش والتلاعب بالقانون والمال والثروات المنهوبة والسلطة، وارتفعت قيم الثروة وقيم الحصول عليها بأي طريقة، وظهرت عادات وتقاليد سلوكية جديدة تنظر للطرق الملتوية للحصول علي المال ونهب الثروات بالتحايل والغش باعتبارها مهارة وقدرة علي التصرف وشطارة. وظهرت الفردية مكرسة قيم الانكفاء علي الذات والأنامالية، وضعف الانتماء للأسرة أو الجماعة أو الوطن، وتراجعت قيم الجماعية والتضامن الاجتماعي وقيم الحوار، ودعمت الفردية قيم التسلق والفهلوة والضعف المهني علي حساب قيم الكفاءة والتنافس الشريف والاعتراف بالحق وروح الفريق. وتراجعت قيم العلم والبحث العلمي والجدية والمهنية والعقلانية أمام تصاعد قيم الغش والخرافة والتقليد والنقل، ولم يعد الترقي والصعود المهني والوظيفي نتيجة للتحصيل العلمي والكفاءة والخبرة، بل نتيجة للوساطة والمحسوبية والقرابة والشراكة في الفساد والإفساد وتصريف الأمور وتسليك المنافع والرشوة.

وقادت أنساق القيم السلبية الجديدة وحمايتها ودعمها من شبكات الثروة والمال والبلطجة والاستبداد السلطوي إلي تفتيت المجتمع، وإهدار جهود الكفاءات، وتبديد أرصدة القوة الفكرية والعلمية، وبث روح اليأس واللا جدوي، لصالح صعود أنساق من القيم السلبية كالشكلية والسطحية والتواكلية، ولصالح مشاعر الخوف والكراهية والاستبعاد والعنف الاجتماعي والسياسي والطائفي. وبدت أنساق القيم السلبية المدعومة بقيم الفردية والفساد والعنف والطائفية وكأنها قد سيطرت علي المجتمع المصري، وكأنها قد تمكنت من تبديد أرصدة قوته، ومن إنهاء قدرته علي المبادرة أو المقاومة أو التغيير أو الثورة ، فجاءت ثورة الشباب لتوجه ضربة قاصمة لهذا النظام القيمي الذي ساد في ظل النظام السياسي لحكم مبارك. فلم تكن ثورة 25 يناير بذلك مجرد ثورة علي النظام السياسي، بل كذلك ثورة علي نظام القيم السائدة، ثورة علي الفساد وقيمه وأدواته ورموزه والثقافة التي سيدها لثلاثة عقود، وقدمت هذه الثورة قيماً مغايرة وسلوكاً مغايراً أذهل العالم ، بما انطوي عليه هذا السلوك من قيم حضارية وقدرة علي المبادرة والصمود والتصميم والتنظيم والحوار. فقد كان ميدان التحرير والميادين الكبري في المدن المصرية مسرحاً عبقرياً للتغيير السياسي والثقافي، للهدم والبناء، ظهر فيه الجوهر الديموقراطي الحضاري للشعب المصري، حيث يتسم هذا الجوهر بالقدرة علي المبادرة والصمود والتضحية والجماعية وممارسة الحرية، ففي ظل هذه الأنساق من القيم الجديدة مارس الشعب حريته، ناضل وقدم التضحيات من الجرحي والشهداء ورقص وغني أغاني الثورة والحرية، ومارس حبه للوطن، وأعاد اكتشاف معني الوطن، ومعني العلم، ومعني مصر، ومعني أن تكون مصرياً فترفع رأسك وتفتخر بمصريتك، وفي ظل هذا التألق والتوحد الإنساني ذابت فروق كثيرة أريد لها أن تظهر لزمن طويل سابق، وذابت فوارق كثيرة أريد لها أن تتعمق في ظل النظام السابق، توحد المصريون مسلمين ومسيحيين، وتوحدوا معاً من كل ألوان الطيف السياسي والاجتماعي، وساروا معاً وهتفوا معاً وغنوا معاً: تغيير، حرية عدالة اجتماعية، هتفوا معا بكلمة الشعب الذي يريد إسقاط النظام، وهتفوا معاً للدولة المدنية الديموقراطية التي يريدونها بديلاً لدولة القهر والفساد والاستبداد والظلم الاجتماعي. ولعل هذه الثورة الثقافية / الاجتماعية ضد أنساق القيم القديمة كانت أهم تداعيات ثورة 25 يناير التي ينبغي حمايتها ودعمها وتطويرها، ولعلها أحد أهم التحديات التي تواجه الثورة في المرحلة الانتقالية، وفي المستقبل القريب والبعيد، كيف؟ تنتمي القيم الجديدة لقوي ثورة 25 يناير للقوي الشبابية والشعبية الجديدة الصاعدة، وتنتمي القيم القديمة لقوي الثورة المضادة للقوي القديمة من بقايا النظام القديم، ولذلك فإن كل دعم وتطوير لقيم الحرية والعدالة والمساواة، لقيم المبادرة والثقة في النفس والقدرة علي التغيير والثورة، لقيم الشفافية والنزاهة والتعددية والحوار والمواطنة، كل دعم لهذه القيم التي صعدت مع الثورة هو دعم لقوي الثورة سياسياً واجتماعياً وثقافياً، وتأسيس لبيئة ثقافية جديدة حاضنة للتحول الديموقراطي علي أسس جديدة، تقوم علي مناهضة لقيم الفساد والاستبداد والظلم الاجتماعي والطائفية. كما أن كل تعطيل أو تهاون في مواجهة الفساد ورموزه وشبكاته، والاستبداد وجرائمه وممارساته القمعية، هو تمكين لبقايا النظام القديم من العودة المباشرة أو غير المباشرة، وتمكين لإعادة نشر أنساق القيم القديمة وتسريبها من مسام المجتمع وعودتها به لأوضاع ما قبل ثورة 25 يناير الديموقراطية الشعبية وقيمها الثقافية والاجتماعية الجديدة. ثالثا: ثورة تغيير نظام التفكير: ونجحت ثورة 25 يناير الديموقراطية في توجيه ضربات مؤثرة لنظم التفكير التقليدية، التي كانت سائدة منذ عقود طويلة في صفوف أغلب النخب السياسية والثقافية والفئات الشعبية المختلفة، فالثورة باعتبارها نقلة نوعية وتغيّر كيفي تسعي لهدم النمط القديم وبناء أنماط جديدة في مجالات مختلفة، بل إن كل ثورة تمثل عملية قطع وتجاوز لأنماط التفكير التقليدية السابقة عليها، فهل كانت ثورة 25يناير كذلك؟ وجهت حركة الشباب الثورية بمطالبها وقيمها الجديدة وصمودها ضربات كبيرة لمناهج التفكير القديمة، لكنها كما نعلم نقلت البلاد إلي مرحلة انتقالية يقوم المجلس الأعلي للقوات المسلحة بقيادتها، وهي من هذه الزاوية لم تتمكن من إنجاز عملية القطع مع كل قديم، بل أدخلتنا في مرحلة تتميز بوجود عناصر جديدة ثورية صاعدة وعناصر قديمة محافظة، وهي كذلك في كل المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية، لكن يضاف إلي ذلك أن عملية القطع مع مناهج التفكير القديمة وأنماطها يكون أكثر تعقيداً. وعلي الرغم من هذا التعقيد فقد اتسمت الثورة المصرية الجديدة بغلبة عنصر الشباب في معظم مراحلها، واتسمت الدعوة إليها بالجسارة من جهة والإبداع في استخدام أدوات التواصل الإلكترونية من جهة ثانية، وبناء الشبكات والمجموعات الافتراضية والواقعية عبر الشبكة العنكبوتية للإنترنت وعبر رسائل المحمول من جهة ثالثة، وهي بهذه الأدوات والأساليب فضلاً عن القدرات التي ظهرت في عمليات الحشد والتعبئة وإدارة الحملات الجماهيرية وعمليات الكر والفر ومواجهة الضغوط الأمنية والصمود وإدارة الوقت من جهة أخيرة، قد انتقلت من قيود أنماط التفكير التقليدية إلي رحابة أنماط التفكير العلمي الإبداعي. في المقابل، كانت أنماط تفكير أجهزة النظام الحاكم وبقاياه تنطلق من الفكر السلطوي القمعي السائد، وهو تفكير يتسم بفساد المنطق لفرق صدقت نفسها ورسمت للشعب صورة كاريكاتورية ساذجة وصدقتها وتعاملت وفكرت علي أساس منها. كانت السمات الأساسية لصورة الشعب المصري في هذا التفكير السلطوي أنه شعب ساذج يرضي بالقليل ويمكن تضليله وإلهاؤه والضحك عليه، فهو في هذا التفكير لا يمكن أن يثور، فهو في تكوينه ليس ثورياً، وإذا ثار لا يثور إلا ضد الأجنبي، لكنه أحياناً يغضب، فإذا حدث يمكن معالجة هذا الغضب ببعض الاستجابات الجزئية، أو بإظهار العين الحمراء، أي بقمعه، أو تخويفه. لكن ماذا لو غضب الشعب المصري وكانت الغضبة كبيرة، في هذا التفكير السلطوي القمعي التقليدي الساذج لو حدث هذا لابد من وجود مؤامرة خارجية أو داخلية، فالشعب لا يمكن أن يغضب غضباً منظماً وحده، فإذا خرجت الجماهير في أكثر من مدينة كما حدث، ورفعت شعارات إسقاط النظام، أو غيرها من الشعارات، كيف يواجها أصحاب التفكير السلطوي التقليدي؟ تكون المواجهة من نفس نوع التفكير التقليدي، أي بالتخويف عن طريق الحديث عن وجود المؤامرة الخارجية، والتخويف بالقمع الأمني، ولا مانع من التخويف بقتل البعض من المتظاهرين، واتهام الباقي بالتدريب في الخارج وتلقي الأموال ووجبات الكنتاكي، واستخدام أساليب الحرب النفسية التقليدية المعروفة منذ الحرب العالمية الثانية، أي بترويج الإشاعات وتخويف الكل من البعض، والحديث عن القلة المندسة، مع الضغط بأساليب الحصار، وضرب المربوط لكي يخاف الحر. ولقد وصل هذا التفكير السلطوي التقليدي الساذج إلي مداه فأصبح هزليا، في معركة الخيول والبغال والجمال كما أن تلك المعركة التي أصبحت معروفة بمعركة الجمل كانت رمزية أيضاً، ففي مواجهة الإبداع الثوري باستخدام أدوات التواصل عبر النت والفيسبوك والمحمول تقدم التفكير السلطوي للقضاء علي الثورة بالسيوف والخيول والجمال. ولا يكفي لمعرفة دور ثورة 25 يناير في تغيير أنماط التفكير أن نقارن نمط التفكير الجديد الذي أسست له بنمط التفكير السلطوي التقليدي الساذج الذي استخدمته أجهزة النظام الحاكم، بل كذلك بالمقارنة بما كان سائداً قبل اندلاع الثورة من أنماط للتفكير التي تتسم بالعشوائية وقامت الثورة بتوجيه ضربات قاصمة إليها، فقد اتسمت أنماط التفكير قبل 25يناير بسمات كل من التفكير العاطفي، والتفكير الخرافي، والتفكير الأسطوري، والتفكير التعصبي، والتفكير العدمي، والتفكير الميكيافيللي. لقد كان التفكير العشوائي السائد قبل 25 يناير عند أغلب النخب المصرية، وعند أغلب فئات الشعب المصري يتسم بالسمات التالية: 1ـ غلبة العاطفية علي التفكير. 2ـ سيادة المنطق الأسطوري. 3ـ سيطرة الخرافة في عملية بحث الأسباب. 4ـ اختلاط الأفكار وعدم تسلسلها. 5ـ عشوائية الأفكار. 6ــ غياب الأسئلة المنطقية. 7ـ سيطرة النزعة التعصبية. 8ـ العدمية وغياب الهدف. 9ـ التبريرية الميكيافيللية. 10- اليأس من إمكانت التغيي . 11ـ الشك في إمكانية أن يقوم قانون التراكم بدوره. 12ـ انسداد الأفق. ولم تكن هذه السمات التي تغلف مناهج التفكير السائدة سوي الانعكاس الثقافي لهيمنة قوي القهر السياسي والفساد المعمم والظلم الاجتماعي، وتحولها إلي قوي جبارة، بل كلية الجبروت، فجاءت الثورةر لتجعل من المنهج العلمي في التفكير وقدراته الإبداعية إمكانية للتغيير، إمكانية لمواجهة انسداد الأفق واليأس من ممكنات التغيير والثورة، وإمكانية للتفكير خارج الصندوق، خارج التفكير التقليدي أو النمطي، إومكانية للكشف عن استمرار الفعل الخفي لقانون التراكم، واستمرار الفعل الفاعل لقانون التناقض ونفي النفي، وإعادة الاعتبار للإرادة الشعبية، وإعادة الاعتبار للعقل، وإعادة الاعتبار للثورة. ولكن هل يعني ما قامت به الثورة علي صعيد نقض نظام التفكير السائد أنها تمكنت من قطع الطريق علي أنماط التفكير العشوائية والخرافية والتعصبية والتقليدية وقضت عليها؟ بالطبع لا، إنها فقط وجهت لها ضربات مؤثرة، وقدمت أنماط التفكير العلمي والإبداعي بديلاً لها، لكن هذه الأنماط الجديدة لم تتمكن بعد من السيادة في المجتمع، فهي لم تتمكن بعد من هدم شبكات نمط التفكير التقليدي القديم، ذلك الذي يجد له قواعد انطلاق في بقايا النظام القديم وأجهزته التي تعيد إنتاج نفسها، ومناهجه المتغلغلة في برامجه وأجهزته الأيديولوجية، التعليمية والإعلامية والثقافية والدينية، وأجهزته السياسية المركزية والمحلية، ويجد له قواعد استمرار في العادات والتقاليد الشعبية المتراكمة عبر الزمن، والتي لا يمكن أن تتغير بين ليلة وضحاها. لكن ما حدث يعني أن ثورة 25يناير قد دخلت بنا في عملية معقدة من الهدم والبناء في مجال التفكير أيضاً، كما دخلت بنا في نفس العملية في مجالي التغيير السياسي والتغيير الثقافي ، كما أن ما حدث يعني أيضاً أن التغيير الثقافي في القيم، وفي مناهج التفكير في لحظات الانتقال النوعي الثورية يتم بمعدلات ثورية ويأخذ شكل القفزات، حيث تكون العقول متفتحة والمسام مفتوحة للتفاعل مع الجديد الثوري علي حساب القديم المحافظ. خاتمة: تبين الفقرات السابقة أن أوضاع ما بعد ثورة 25 يناير لا يمكن أن تظل كما كانت قبلها، إننا بصدد ثورة ديموقراطية أطلقها الشباب وصنعها الشعب بفئاته المتنوعة وأعلن الجيش حمايتها وتبني مطالبها، وهي ثورة شاملة: سياسية واجتماعية وثقافية، استهدفت ـ وما تزال ـ تغيير النظام السياسي، وتغيير نظام القيم، وتغيير نظام التفكير، وهي ثورة مستمرة لبناء الديموقراطية في مصر عبر مرحلة انتقالية ذات سمات خاصة من الحوار والصراع والتفاعل بين عناصر من القديم الذي لم ينته والجديد الذي ينمو، وهي بذلك ثورة سياسية ذات تداعيات فكرية وثقافية، وتواجهها تحديات ـ ومخاطر ـ تنبع وتنطلق من الدخول في عملية انتقالية معقدة. وتنطوي هذه العملية الانتقالية علي أحلام كبري فجرتها الثورة ولا يجب أن تتبدد، هي أحلام ومطالب الحرية والعدل الاجتماعي، والدولة المدنية الديموقراطية، والجمهورية البرلمانية، والدستور الديموقراطي والتشريعات الداعمة للعدل والحرية والتعددية والمواطنة والحوار، وأحلام ومطالب التفكير الحر، والعقل الحر، وسيادة مناهج التفكير العلمي والتفكير الإبداعي علي حساب مناهج التفكير التقليدي والتفكير الخرافي والتفكير العشوائي والتعصبي والطائفي، ومطالب وأحلام الشفافية والنزاهة، والقضاء علي الفساد والاستبداد وشبكاته وقيمه. لكن هذه الأحلام لا ينبغي لها أن تظل مجرد أحلام ومطالب ، بل عليها أن تتحول إلي عملية ثورية منظمة، إلي مواد جديدة في دستور جديد وتشريعات وقوانين جديدة، إلي تعددية سياسية حزبية ونقابية حقيقية، إلي حوار مجتمعي حقيقي، إلي برامج اقتصادية واجتماعية وثقافية جديدة، إلي توجهات إعلامية وثقافية جديدة، إلي مناهج تربوية وتعليمية وبحثية وبرامج إعلامية جديدة، تكون قادرة علي استكمال هدم النظام القديم وأفكاره وقيمه ومناهجه التقليدية، وبناء نظام ديموقراطي جديد بأفكار جديدة وقيم جديدة، تحول الأحلام التي أطلقتها ثورة 25 يناير إلي حقائق جديدة في واقع جديد ومجتمع ثوري جديد.
 

Copyrights © dampress.net

المصدر:   http://www.dampress.net/?page=show_det&category_id=48&id=43224