دام برس:

سيأتي اليوم الذي ينهض فيه العالم الإسلامي مؤديّا دوره في توجيه الحضارة الإنسانيّة , هذه الحضارة التي تعيش أزمات في مختلف الصعد والمجالات , وقد بدأ غير واحد من المفكرين يتحدث عن الأدوار الحضارية المستقبليّة للصين واليابان والعالم الإسلامي , لكن هذه التنبؤات الجميلة لا يجب أن تنسينا واجب إعداد المشروع النهضوي والحضاري الذي سنتقدّم به للعالم .
وقد مرّت بالعالم الإسلامي حقبات مظلمة أودت به إلى الهاوية في شتى المجالات الإقتصادية والسياسية والثقافية والعسكرية وبسبب هذا التخلّف مازال العالم الإسلامي يعيش ذروة الانحطاط . وقد نظر كل مفكرّ إلى وضع الانحطاط من زاويته الخاصة فمنهم من أشار إلى تخلف المشروع التربوي والذي أدّى إلى التخلف العام , وأخر نسب التخلف إلى الحركة الاستعمارية وما إلى ذلك من الطروحات غير أنّ كل المفكرين يتحدثون عن ضرورة النهضة واليقظة .
وعندما نتكلم عن النهضة لا يجب أن يأخذنا الحماس ونلقي الكلام على عواهنه ونقول أنّ النهضة في العالم العربي والإسلامي سهلة المنال وهي قريبة التحقيق , دون أن نأخذ في الحسبان الشروط الموضوعية للنهضة . والمفكّر الجزائري مالك بن نبي عندما حددّ معادلة النهضة والحضارة قال : أنّ الحضارة عبارة عن إنسان + وقت + تراب .
وكل نهضة دخلت متحف الحضارات إنّما احتاجت إلى وقت وربمّا كان طويلا حتى أرست دعائمها وركائزها . ونهضة العالم الإسلامي على وجه التحديد ليست من صنع رجالات الفكر والثقافة والإبداع وحدهم بل هي مهمة شاقة ملقاة على عواتق الجميع , واليقظة التي بدأ عالمنا العربي والإسلامي يشهدها لهي أكبر دليل على أنّ أجيالنا بدأت تنفض عنها السبات العميق الذي ألمّ بها , وهي خطوة جديرة بالإنتاج إذا ما وضعت هذه اليقظة في المسار الصحيح .
" لقد ظلّ العالم الإسلامي خارج التاريخ دهرا طويلا , كما لم يكن له هدف , استسلم المريض للمرض وفقد شعوره بالألم حتى كأنّه يؤلّف جزءا من كيانه . وقبيل ميلاد هذا القرن سمع من يذكّره بمرضه , ومن يحدثّه عن العناية الإلهيّة التي استقرّت على وسادته , فلم يلبث أن خرج من سباته العميق ولديه الشعور بالألم , وبهذه الصحوة الخافتة تبدأ بالنسبة للعالم الإسلامي حقبة تاريخية جديدة يطلق عليها النهضة " . (1)
ولا يمكن لهذه النهضة المرتقبة أن تكون سريعة التحقيق لأنّ تراكمات التخلف باتت متجذرّة في واقعنا العربي والإسلامي , وما جرى لحدّ الآن في إتجاه النهضة هو محاولات فكرية لرسم استراتيجية النهضة وطرقها .
والأمراض بتعبير الأستاذ مالك بن نبي غائرة نخرت العمق الجسدي والروحي للعالم العربي والإسلامي والمصلحون كانوا يقومون على إمتداد قرن بكامله على معالجة أعراض المرض دون المرض , ولذلك كانت الأمراض تختفي حينا ثمّ تعاود الظهور بعد حين .
ولا يمكن للنهضة أن تتحققّ في العالمين العربي والإسلامي إلاّ إذا أعدنا بناء الإنسان الذي هو الأساس لحركة التاريخ , والإنسان من خلال قدراته الذاتية والذهنية وتفاعله مع الطبيعة يملك كل القدرات للتخطيط وتنفيذ ها التخطيط , فالمستقبل كما هو معلوم مجرّد عدم لكنّه من ناحية أخرى موجود في ذهن الإنسان – عبارة عن تصورات ذهنية أو ما يعرف عند علماء المنطق بالوجود الذهني – وهو حافز على المضيّ قدما .
" إنّ المحتوى الداخلي للإنسان هو الأساس لحركة التاريخ والبناء الاجتماعي العلوي وإذا بقيّ الإنسان ثابتا يبقى البناء العلوي ثابتا " . (2)
ويجمع العديد من المفكرّين على أنّ أساس النهضة هو الإنسان الذي يملك زمام التغيير الإجتماعي والبناء النهضوي , ولا يمكن تصوّر مشروع نهضوي دون رسم استراتيجية لإعداد الإنسان الذي يجب أن يحمل على عاتقه بناء النهضة .
وقبل هذا يجب رسم رؤية واضحة عن مفهوم النهضة وكيفية تحقيقها بعيدا عن حروب المصطلحات وتناقضاتها أحيانا , فالبعض دعا إلى نبذ التراث والموروث الحضاري لبناء نهضة جديدة , وهذه الإشكاليّة لم تنشأ في واقعنا العربي والإسلامي بل نشأت في الغرب عندما بدأت الحركة العقلية تتصارع مع الكنيسة التي طوقّت انطلاقة العقلانيّة .
(1) شروط النهضة للمفكر الجزائري مالك بن نبي .
(2) المجتمع والتاريخ للشهيد مرتضى مطهّري .

ولسنا هنا بصدد ما حققته المدرسة الانفصاليّة في عالمنا العربي والإسلامي , فقد كتبت دراسات عديدة لبحث إفلاس الحركات العلمانية والنظم العلمانية في الوطن العربي .
أمّا المدرسة الأصالية فيدعو أصحابها إلى الاعتكاف على التراث وجعله منطلقا لبناء النهضة, والأصحّ أننّا نستفيد من التراث وتحديدا الجانب الناصع فيه ونطرح عنه ما علق به من أشواب وزوائد مع إرخاء العنان للعقل كي يبدع إستنادا إلى القواعد المرسومة سلفا . ويمكن القول أنّ النهضة في العالم العربي والإسلامي لن تتحققّ إلاّ بالاستفادة الصحيحة من التراث وبالإستفادة من الجنبة المدنيّة في الحضارة الغربية , لأن ما تحققّ للغرب على صعيد التقدم الصناعي والتقني والطبي وغيره هو إرث للإنسانية جميعا …

بقلم / يحي أبوزكريا