دام برس :
كشف مسار ولادة «التحالف الدولي ضد داعش» ثم عمله في سوريا خصوصاً، تناقضات غير عابرة بين الولايات المتحدة وتركيا. ومن يتابع الأحداث السياسية والميدانية المتسارعة على الحدود السورية التركية في منطقة عين العرب (كوباني)، سيلحظ حتماً الهوة التي بدأت بالاتساع بين اثنين من أهم أعضاء حلف «شمالي الأطلسي».
وتصريحات نائب الرئيس الأميركي، جو بايدن، التي اتهم فيها تركيا ودول الخليج بدعم تنظيمات إرهابية، قائلاً «أصدقاؤنا في المنطقة هم مشكلتنا الكبرى في سوريا»، لم تكن مجرد «زلة لسان» من شخصٍ امتهن السياسة لعقود خلت. كلام بايدن، من جامعة هارفرد قبل أسابيع، يعكس ديناميكية في التكتل الدولي الناشئ، ويعرّي خلافات داخله، لا يستهان بها.
ورغم تأكيد المسؤولين الأتراك عند كل فرصة، على تطابق رؤيتهم مع تلك الأميركية إزاء محاربة «داعش»، إلا أن التطورات الأخيرة تثبت مدى التبيان مع واشنطن، حتى وإن اتفقوا على العنوان العريض الذي يجمع الحلفاء والأعداء في المنطقة.
وجدت تركيا في التنظيمات الإسلامية المتطرفة المقاتلة في سوريا، بدءاً من «الجيش الحرّ» إلى «جبهة النصرة» و«داعش»، الأدوات الأكثر ضمانةً لمنع قيام كيان كردي في سوريا، وذلك عبر محاربة المجموعات الكردية وحصار تجمعاتهم السكانية الممتدة على طول الحدود السورية التركية.
غاية أنقرة دفعت بها إلى المضي أكثر في «مقامرتها». هي لم تغض الطرف فقط عن استخدام «الجهاديين» لحدودها البرية «ترانزيت» للوصول إلى «أرض الجهاد» في سوريا، بل قدمت تسهيلات لتحركاتهم على طول الحدود، وتجاهلت تجنيد آلاف الشبان الأتراك داخل المساجد للانضمام إلى هذه المجموعات، في دولة تُعرف بزيادة نشاط أجهزتها الأمنية داخلياً وخارجياً.
وإن كان إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد يعتبر الهدف المشترك لتركيا مع الحليف الأميركي والغرب، إلا أنهما يختلفان في استراتيجية إنشاء الحكم الذاتي للأكراد. اقتصادياً، تريد واشنطن قيام كيانٍ كردي اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى، كمنطقة حرة لبيع النفط والغاز في أراضٍ عائمة على بحر من البترول. أما سياسياً، فتتطلع أميركا إلى هذا الكيان كمساحة عازلة بين إسرائيل ومناطق نفوذ إيران في الشرق الأوسط.
هذا التباين دفع أردوغان، أخيراً، إلى انتقاد الاهتمام الأميركي بعين العرب (كوباني)، عندما قال إن «المدينة استراتيجية لتركيا لا للولايات المتحدة الأميركية»، منتقداً ما وصفه بسياسة الكيل بمكيالين على حد تعبيره، قائلاً: «تشعرون بكل هذا القلق حيال كوباني، لكنكم لا تشعرون بأي قلق حيال المدن السورية الأخرى التي تشهد أحداثاً مماثلة». كذلك، شدّد الرئيس التركي، أول من أمس، على أن كوباني «خالية من سكانها المدنيين حالياً»، مجدداً رفضة لتوريد الأسلحة الدولة إلى المقاتلين الأكراد في «وحدات حماية الشعب»*. وأكد على ضرورة تسليح «المعارضة المعتدلة» وتدريبها في مواجهة الأسد و«داعش» في الوقت نفسه، مستشهداً بحادثة وقوع أجزاء من الإمدادات اللوجستية التي قامت الطائرات الأميركية بإلقائها للمقاتلين الأكراد في عين العرب بأيدي مسلحي «داعش».
ويبدو أن الحكومة التركية وجدت في قرار السماح لقوات البيشمركة، الحل المناسب لإضفاء «الشرعية» على عبور مقاتلين أكراد إلى عين العرب، مدعمةً بقرار البرلمان الكردي بإرسال 2000 مقاتل من حاملي العتاد المتوسط والثقيل لنجدة إخوة الدم وخصوم السياسة في الشمال السوري. شرعيةٌ تدعم موقف الحكومة التركية التي تعتبر حزب «الاتحاد الديموقراطي» السوري «منظمة إرهابية»، كحزب «العمال الكردستاني» المحظور في تركيا والملاحق قانونياً من قبل الولايات المتحدة.
لكن رفض أنقرة الالتزام عسكرياً في «التحالف الدولي» ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» بدايةً، والحديث عن 4 شروط «تعجيزية» لاحقاً، ليس مردّه فقط إلى العداوة المشتركة مع «داعش» ضد اليسار الكردي، وإنما الخوف أيضاً من «داعش» ذاته.
فتركيا اليوم، هي الأعلم بقوة التنظيم المتطرف، وبنفوذه وقدراته التي قد تمثل خطراً على الداخل التركي المتضعضع بين التيارين البارزين الديني والعلماني، ووسط نزاعاته الإثنية والطائفية والسياسية. ولعلّ حماية «داعش» لضريح سليمان شاه، الجدّ الأكبر للعثمانيين، رغم نسفها عشرات الأضرحة في مناطق سيطرتها، إضافةً إلى الصفقة الغامضة، التي استطاعت تركيا بواسطتها إطلاق سراح موظفي القنصلية التركية في الموصل المحتجزين لدى «داعش»، ليست الا مؤشرات على علاقة ضمنية بين حكومة أردوغان والتنظيم، قد تكون مبنية على المنفعة المتبادلة حيناً، والتحسب من نتائج العداء المتبادل أحياناً أخرى.
الكاتب التركي، مصطفى أكيول، رأى في مقالٍ نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية، أول من أمس، أن «مساعدة الحكومة التركية للمقاتلين الأكراد في كوباني جاء بعد استنفاد كل الحلول، ونتيجة لممارسة جميع الضغوط الممكنة ضد تركيا»، وأضاف إن تركيا «تجاهلت اشتعال المعركة على حدودها طوال أسابيع رفضت فيها ـ رغم الغارات الجوية الأميركية وحقيقة أن تركيا حليفٌ في «الأطلسي» ـ مساعدة المقاتلين الأكراد العلمانيين للدفاع عن أنفسهم ضد التعصب الديني الوحشي».
مواقف تركيا الحالية تثير تساؤلات بشأن موقعها المستقبلي إزاء المتغيرات الإقليمية: هل ستقبل الحكومة التركية بالنموذج الباكستاني إبان «الحرب الدولية على الإرهاب» في أفغانستان؟ أم أنها ستكون «كبش فداء» أي اتفاق بين إيران والغرب؟