دام برس:
بمعزل عن كل ما وجه للإعلام السوري من انتقادات حول طريقة تعاطيه مع الأزمة إلا أنه لا يمكننا التغاضي عن تجارب إعلامية لافتة استطاعت إثبات حضورها بمهنيتها وموضوعيتها العالية،ومن أهمها تجربة الإعلامي رفيق لطف الذي قدم في سلسلة تقاريره عن "خفايا بابا عمرو" و"حلب القلعة" نموذجاً جديداً ومبتكراً من الإعلام كاشفاً الوجه القبيح للحرب الإعلامية الشرسة وآلياتها التي تقف خلفها دول عربية وإقليمية وغربية ووضع المشاهد في صورة ما يجري.
لا شك أن التجربة تستحق الاهتمام والتقدير نظراً لاعتمادها على جهد فردي جبار وخلّاق تمكن من اختراق أشدّ سدود التضليل الإعلامي،وكان لهذا الاختراق دوراً بالغاً في تحجيم "فضائيات الرأي والرأي الآخر وأن تعرف أكثر" وكشف التزييف الهائل الذي تمارسه على عقول المشاهدين وقلوبهم بزعم انحيازها للحقيقة.
فرفيق لطف هو أحد شهود العيان الحقيقيين الذين استطاعوا اكتشاف المجموعة المتآمرة على سورية في وقت مبكر من عمر الأزمة،فالرجل عاش في الولايات المتحدة الأمريكية لأكثر من عشرين عاماً وتعرف عن كثب على الغرف السوداء "البالتوك" وطريقة عملها ولديه خبرة كافية عن أساليبها "الجهنمية" المستندة إلى عناصر التحريض والكذب والتزوير.
وإذا ما حاولنا قراءة هذه التجربة بشيء من التفصيل والعمق سنجد أنها تتمتع بخصوصية اكتسبتها من عدة جوانب منها:
أولاً- أنها انطلقت من قناعات أخلاقية ومبادئ إنسانية ونبل وإحساس عال بالمسئولية المهنية والواجب الوطني .
ثانياً-تميزت بالدقة والموضوعية بحيث قدمت بأسلوب مميز أدلة قاطعة لا تقبل الشك عن الأداء غير الحيادي لوسائل إعلامية لطالما ادعت زوراً وبهتاناً أنها تعكس نبض الشارع العربي وتنحاز إلى همومه وقضاياه .
ثالثاً- نجاحها في إحراج قنوات التضليل وإحراق أوراقها في أكثر وكشف دورها القذر في تضليل الرأي العام واستعدادها لنقل الأكاذيب وتبني روايات مفبركة أدلى بها من تسميهم تلك القنوات "نشطاء حقوقيون-شهود عيان" ومن أبرز النماذج "الفجة" التي تذكر في هذا الإطار هو مراسل "الجزيرة" في حمص المدعو /خالد أبو صلاح/ حيث أظهرت تقارير "خفايا بابا عمرو" الوثائقية كيف كان يقوم بفبركة رسائله المباشرة على الهواء بالتنسيق مع مسلحين يؤمنون لمسرحياته المؤثرات الصوتية عبر إطلاق الرصاص في الهواء أثناء اتصاله مع مذيعة القناة التي بدورها تكمل المسرحية الهزلية بقلق مبالغ فيه فتقول: "أسمع أصوات إطلاق رصاص لا أستطيع أن أسمعك جيداً" ثم تسأله بخشية عمّا إذا كان موجوداً في مكان آمن!!
رابعاً- لاقت تقارير رفيق لطف صدى إيجابياً عكس نفسه على الشارع السوري بالخصوص في المناطق الساخنة حيث قام عدد كبير ممن تورط في حمل السلاح وأعمال التخريب بتسليم نفسه للسلطات المختصة بعد مشاهدة الحقيقة.
وكما هو معروف عنه قام لطف "عن طيب خاطر" بتقديم أكثر مما هو مطلوب منه كإعلامي حين رافق العشرات ممن غرر بهم إلى المراكز الأمنية لتشجيعهم على العودة إلى حضن الوطن فضلاً عن مشاركته الدائمة بندوات وملتقيات حوارية ومصالحات وطنية تصب بذات الاتجاه.
خامساً- ما قدمه رفيق لطف في تقاريره كان قنبلة إعلامية أثبت قدرة الإعلام السوري على ربح معركة الفضاء مع الآخر.
سادساً-أهمية تجربة رفيق لطف أيضاً أنها متفردة ووحيدة حيث لم نر تجارب مشابهة حتى في إعلام البلدان العربية التي اجتاحتها عاصفة "الربيع العربي" كتونس ومصر وليبيا واليمن،ولاحظنا كيف ظل إعلام تلك الدول منصاعاً لضخ إعلامي كثيف مصدره قنوات النفط منساقاً وراء ما تردده وتعممه من شعارات وروايات مضللة ومنخرطاً في المعركة التي تشن على سورية بهدف خلط الأوراق في المنطقة وتسعير الاقتتال المذهبي والعنف الطائفي وحرف الأنظار عن "إسرائيل" وتصويبها باتجاه إيران خدمة لمصالح الدول الاستعمارية المنخرطة في مشروع "الفوضى الخلاقة" الذي ابتكره الفكر الصهيوني.
في الواقع ..لقد أثمرت جهود رفيق لطف الفردية الكثير من الجوانب الإيجابية خصوصاً وأنها أعطت دليلاً ملموساً حول حجم التزوير المفضوح الذي يمارسه بعض الإعلام العربي والأجنبي في مؤشر عن مدى الإسفاف الذي وصل إليه ذلك النوع من الإعلام في إطار معركة التأثير على الشعب السوري لدفعه نحو اتخاذ خيارات خاطئة آخذاً بعين الاعتبار أن الإعلام الفضائي يأخذ حيزاً كبيراً من حياة المواطن العربي الذي لا يملك سبيلاً للوصول إلى الحقيقة إلا ما تبثه وسائل الإعلام التي بدورها تعمم وجهات نظر "مسبقة الصنع" لتحقيق غايات سياسية.
من هنا كان لا بد من التنويه بهذه التجربة الوطنية الهامة ببعديها المهني والإنساني والبناء عليها وتطويرها وتوسيعها واتخاذها أسلوب عمل جديد في المنظومة الإعلامية التي لم يعد دورها يقتصر على نقل الخبر بل يجب أن تسعى لتوظيف المعلومة وتصحيحها ووضعها في إطارها السليم بما يخدم الصالح العام على المستوى الوطني.