دام برس:

هناك أسلوبين للتعامل مع كل الأزمات: ثقافة الشح و ثقافة الوفرة , الأولى هي انعكاس للحالة العاطفية بغرائزيتها , وهي تعامل رومانسي مع الوقائع وتعتمد ردة الفعل السريعة , وتتميّز بعشوائيتها وبطشها, وكثرة أخطائها, وتعكس الشح الثقافي والمعرفي وعدم القدرة على ضبط النفس , كمن يتغنّى بالمرتبة الأولى على صف الكسالى.
والثانية هي أسلوب القراءة الباردة التي تغلّب العقل مع تحييد للعواطف , وتتميّز بالرصانة والهدوء وتقليب الأمور في كل أوجهها ثم اختيار الأنسب , وهي انعكاس لأثر التربية والثقافة والغنى الفكري على السلوك واسلوب التعاطي مع الحياة.

شهدنا في العامين الماضيين بما ترافق معهما من ضغط وأزمات يكفي ليعلّمنا الكثير ولكن لا تدعوا ثقافة الشح تحكمكم , ولاتدخلوا ردّات الفعل في ميدان حساباتكم.
فالحياة كمبضع الجرّاح تجرح لتداوي" إذ بقراءة عامة للتاريخ سنجد أن التطوّر الحضاري الحاصل في أوروبا احتاج مئات السنين حتى تبلور ويجب أن نستفاد من هذه التجربة حيث:
- خاضت 200 سنة من الاقتتال الطائفي حتّى  أدركت معنى "التسامح وقبول الآخر".
- وخاضت فترة من الحروب القوميّة حتّى تعلّمت مفهوم "المواطنة".
- واحتاجت 500 سنة تحت حكم الكنيسة حتّى تعلّمت "الانضباط".
- و 150 سنة من الثورة الصناعية والاستعمار حتى حقّقت " الوفرة "
- وحربين عالميتين حتى بلورت مفهوم "الدولة الحديثة".

مانعيشه اليوم في هذا الشحن الغرائزي والقذف المتبادل لوابل من الاتهامات المتبادلة , يذكرني بقول لحافظ ابراهيم وجّهه لزوج والدته الذي عذّبه كثيراً :
(وتسألني إلى أين ذاهبٌ .... أنا ذاهبٌ إلى داهية)

أفق الحل تنطلق من تحمّل كل شخص  مسؤوليته , وإدراك طبيعة البنية الاجتماعية التاريخية لهذا الشعب بعيداً عن لعبة " استمناء العقل بالغرائز" , فنحن أمام مرحلة تاريخية تشكّل مخاضاً عسيراً سيعلن ولادة واقع جديد في التوازنات الدولية ومايعقبه من نتائج اقتصادية وسياسية وسيسيوثقافية يشكّل قطعاً ابستمولوجياً "معرفياً" للواقع الحالي سيغيّر من طبيعة العقل العربي الذي يخوض حالياً تنافساً حضارياً سيحدّد الصبغة الحضارية للمرحلة القادمة , فمن يفرض حضوره هو من يطرح ثقافته وفكره ولغته ضمن مفردات الحقبة القادمة.
لذا فإن هذه المرحلة تحتاج إلى لغة العقل البارد والقراءة البعيدة المدى والترفّع عن الدخول في السجالات العقيمة والاستقراءات التي لا طائل منها للانتقال إلى الميدان البنّاء المتمثل في "الحوار" وأدواته القائمة على ثقافة "النقد" أي البناء على البناء بعيداً عن سجالات " الانتقاد " , وهذا لن يتحقق بالصراخ في عالم أصمّ , إذ تكلّف الشعب السوري من الدماء مايكفيه في إطار هذه الشواهد التاريخية ليتعلّم الانتقال من التنظير إلى الرؤية ,فلقد دفعت شعوب هذه المنطقة ثمن الرأسمالية والاشتراكية ونحن اليوم ندفع ثمن الانقلاب عليهما بفلسفة ليوشتراوس وأتباعه التي عبّر عنها كتّابهم ومنظّريهم من برنارد لويس إلى فؤاد عجمي إلى إيال زيسر وغيرهم الكثير ممّن سعوا للتلاعب بمقدّرات هذه الشعوب من خلال نظرية "العماه الخلّاق Creative chaos" التي تعتمد جوهرياً على تحريض الأخ على الأخ واستغلال الاختلافات "وليس الخلافات" بين ابناء الشعب القائم تاريخياً وفق بنية موزاييكية.
(عمار فاضل)