دام برس :
لم يشأ أيلول الأسود أن يمر دون ترك ندبة جديدة داخل القلب، في مساء يوم الجمعة ٢٧ أيلول، وبعد الانتهاء من صلاة المغرب تلقيت سيلا من الاتصالات الهاتفية، وسيلا آخر من الاتصالات والرسائل عبر تطبيقات الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، كلها لأصدقاء يستفسرون مني عن النبأ المشؤوم الذي انتشر كالنار في الهشيم، عبر الآلة الإعلامية الجهنمية الجبارة التي يمتلكها ويسيطر عليها العدو الصهيوني حول العالم..
والخبر يقول باختصار نجاح العدو الصهيوني في تنفيذ عملية اغتيال حقيرة وجبانة استهدفت سماحة السيد حسن نصر الله وارتقائه شهيدًا، وبالطبع هزت الصدمة كياني وأفقدتني الوعي للحظات وأصابني الذهول، ولم أصدق الخبر رغم دخولي على العديد من المواقع الإخبارية التي أكدت الخبر، وذهبت للمواقع والمنابر الإعلامية المقاومة ولم أجد عليها شيئا يوكد النبأ المشؤوم..
وفي ظل الحيرة تواصلت مع عدد كبير من الأصدقاء المقربين من سماحة السيد وللأسف الشديد لم يرد أحدهم، وهو ما زاد من القلق والتوتر والخوف لكن عقلي لم يكن يستوعب كل ما يحدث، ورغم تساقط الدموع من عيني بشكل تلقائي إلا أنني كنت أحدث نفسي وأطمئنها بكلمة واحدة السيد بخير، السيد في حماية الله، لن يتركنا سماحته في آتون المعركة، لن يأخذه الله إلى جواره ونحن في أشد الحاجة إليه..
ثم جاءتني رسالة مختصرة عبر تطبيق الواتس آب من صديقي الإعلامي المقاوم عمرو ناصف، ردًا على رسالتي "طمني على سماحة السيد حسن نصر الله يا صديقي الحبيب الغالي"، وجاء الرد يزيد حالة التوتر والقلق والخوف "لسه مفيش أي معلومات"، كان الرد قاسيًا وتمهيدًا لما هو قادم، ظللت أحدث كل من حولي معقولة عمرو ناصف وهو من هو في إعلام المقاومة لا يعرف ماذا حدث؟!
أعظم وصية
ومرت الساعات ثقيلة ونحن جالسون أمام شاشة قناة الميادين لم نستطع النوم فقط نصلي ونبتهل لله بالدعاء، وجاء يوم 28 أيلول يوم ذكرى رحيل الزعيم جمال عبد الناصر والذي دائمًا ما أزور فيه ضريحه وألتقي بالرفاق من كل الوطن العربي، ولم أستطع التحرك من أمام شاشة الميادين، وعند منتصف اليوم جاء الخبر المشؤوم بعد أن حبسنا أنفاسنا لمدة 20 ساعة..
ومن طلة المذيعة وصوتها المخنوق بالدموع، وأنفاسها المتقطعة، وكلماتها المترددة، تلقينا النبأ الصاعقة، وفقدت الوعي للحظات، وانتابتني حالة من البكاء الشديد، ومرت ساعات وساعات وأنا لا أشعر بما يدور حولي، فقط أردد الأدعية، وأجلس على سجادة الصلاة وأصلي لله كلما تمكنت من الوقوف والإدراك.
ومر اليوم ثقيلًا وبدأت في استعادة توازني رويدًا رويدًا، وبدأت في تأمل كلمات سماحته والبحث عنها عبر تطبيقات الإنترنت وكانت من بين آخر كلمات الوعد الصادق قبيل استشهاده، والتي جاءت بصوته الهادر الذي يهز الأعماق والتي كانت بالنسبة لي طوق النجاة:
“نحن لا نهزم، عندما ننتصر ننتصر، وعندما نستشهد ننتصر، نحن على مشارف انتصار كبير، لا يجوز أن ننهزم نتيجة سقوط قائد عظيم من قادتنا، بل يجب أن نحمل دمه، ويجب أن نحمل رايته، ويجب أن نحمل أهدافه، ونمضي إلى الأمام، بعزم راسخ وإرادة وإيمان وعشق للقاء الله”..
وقلت لنفسي وأنا أكرر الاستماع لهذه الرسالة لمرات ومرات، يا الله ما كل هذا الصدق مع الله، كلمات سماحته كأنه يتحدث عن نفسه فمن يكون القائد العظيم الذي ارتقى إلى جوار ربه، ولم يتركنا قبل أن يوصينا بأعظم وصية، يرسم لنا من خلالها المنهج الذي يجب أن نتبعه كدليل ينير لنا الطريق، ويشدد علينا بلغة الواثق والمؤمن بربه أننا لا نهزم، وظللت أردد كلمات سماحته لآلاف المرات نحن لا نهزم، المقاومة لا تهزم.
واستعدت أيضًا حديثًا قديمًا لسماحته وهو في ريعان الشباب في لقاء متلفز يسأله المذيع عن حلمه الشخصي الذي يتمنى أن يحققه فيقول "يمكن إذا قلت لك من أحلامي الأساسية، هو أن يكون موتي قتلًا في سبيل الله، يمكن أن تعتبر إني أطحش شوي (إني أبالغ كثيرًا)، بس واقعًا هذا من أحلامي الشخصية"..
المقاومة ولدت لتبقى
وعدت لأكرر يا الله ما كل هذا الصدق مع الله، لقد عاش سماحته طوال حياته يحلم بالشهادة وها هو المولى عز وجل يستجيب له ويحقق حلمه، بعد سنوات وسنوات وهو الذي قدم إبنه شهيدًا في سبيل الله، وهو الذي لم يرافق إلا الشهداء وكان يقول لهم في كل مناسبة..
“لن نقول وداعًا بل نقول إلى اللقاء، إلى اللقاء مع انتصار الدم على السيف، إلى اللقاء في الشهادة، إلى اللقاء في جوار الأحبة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته”..
ومع استعادتي لكلمات سماحته كنت أهدأ رويدًا رويدًا وأقول هنيئًا لك الشهادة سماحة السيد حسن نصر الله، هنيئًا لك الشهادة يا صادق الوعد، هنيئًا لك الشهادة ولتسكن روحك الطاهرة بجور جدك الحسين سيد شهداء أهل الجنة كما بشرنا الحبيب المصطفى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
ومن كلمات سماحة السيد الخالدة ورسائله الهامة التي يجب تذكرها في تلك اللحظة كي نتأكد أن المقاومة لا تهزم وأنها ولدت لتبقى وتنتصر رسالته للمقاومين في حرب تموز 2006 والتي تقول:
"وصلتني رسالتكم، وسمعت مقالتكم، وأنتم والله كما قلتم، نعم أنتم الوعد الصادق، وأنتم النصر الآتي بإذن الله، يا إخواني، أنتم أصالة تاريخ هذه الأمة، وأنتم خلاصة روحها، أنتم حضارتها وثقافتها وقيمها وعرفانها، أنتم عنوان رجولتنا وشموخ الأرز في قممنا وتواضع سنابل القمح في ودياننا..
أنتم الشموخ كجبال لبنان الشامخة عاتية على العاتي، عالية على المستعلي، أنتم بعد الله تعالى الأمل والرهان، كنتم وما زلتم وستبقون الأمل والرهان، أقبل رؤوسكم التي أعلت كل رأس، وأقبل أياديكم القابضة على الزناد، يرمي بها الله تعالى قتلة أنبيائه وعباده والمفسدين في الأرض، وأقبل أقدامكم المنغرسة في الأرض فلا ترتجف ولا تزول من مقامها ولو زالت الجبال..
يا إخواني، يا من أعرتم لله جماجمكم، ونظرتم إلى أقصى القوم، جوابي لكم هو شكر لكم، إذا قبلتموني واحد منكم، وأخًا لكم، لأنكم أنتم القادة، وأنتم السادة، أنتم تاج رؤوس ومفخرة الأمة، ورجال الله الذين بهم ننتصر"..
ومع تأمل هذه الرسالة الصالحة لكل زمان نعود ونكرر ثقتنا، لا يساورها شك في المقاومة، رجال الله الذين يمتلكون الحكمة والذكاء والحنكة لإدارة المعركة مع العدو الصهيوني باقتدار وبراعة وكفاءة عالية، تعلمنا من كلمات سماحة السيد الشهيد حسن نصر الله أنه "لا يمكن أن نسمح لليأس أن يتسلل إلى قلوبنا أو عقولنا"، وأن "المقاومة لا تهزم"، "ونحن على مشارف انتصار كبير"، اللهم بلغت اللهم فاشهد.