دام برس:
تواجه واشنطن تحديات كبيرة في سورية حيث تجري منذ قرابة أربع سنوات حرب متعددة الأطراف، فهي مترددة في القيام بتدخل عسكري مباشر لإسقاط النظام القائم بسبب التحذيرات الروسية والإيرانية وخشية السقوط في مستنقع مواجهة جديدة كالذي تعرفه في العراق منذ سنة 2003 وفي أفغانستان منذ سنة 2001 ولكن بين الفينة والأخرى تراود مخططي البيت الأبيض آمال حدوث إختراق يسمح بالوصول إلى الهدف بأقل المخاطر، والحقيقة إن رهان أمريكا على إسقاط النظام السوري هو جزء من رحلة الرهانات الأمريكية الخاسرة منذ بداية الأزمة السورية، بدأتها بدعم المجاهدين والمتطرفين فى سورية وعندما إزدادت مخاوفها من تمددهم عادت وأعلنت الحرب على الإرهاب من جديد. واليوم إستدرج الملف النووي الإيراني الإدارة الأميركية بذكاء وحنكة سياسية إلى منظومة السلة الواحدة "النووي والملف السياسي".
فإيران حمت وإحتفظت بقدراتها النووية، وبدل أن تقايض ملفها بالتنازل السياسي في المنطقة عملت عكسياً، وظّفت ملفها النووي في خدمة المفاوضات السياسية، مستندة إلى الميدان السوري الذي فرض نتائجه لصالح النظام ومحور المقاومة، وهذا ما ظهر بعد دقائق من إنتهاء مفاوضات فيينا، فتمّت إقالة وزير الدفاع الأميركي تشاك هيغل، الذي يعارض الحل السياسي في سورية، وبقي الرئيس الأسد والنظام.
وهذه أولى نتائج التفاهم السياسي، وبداية الفشل الأميركي وهزيمة المشروع التكفيري على الأرض السورية، وبالتالي فإن الأميركيين كعادتهم التضحية بالآخرين من حلفاء وأدوات، للإبقاء على مصالحهم، وقد بدأ ظاهراً بالتخلي عن داعش عبر التحالف الدولي، والتخلى عن الإخوان المسلمين في مصر وتونس وقطر، وقريباً في تركيا، وبعدها سيلجأ للتخلي عن العائلة المالكة السعودية بـ"ربيع سعودي" بدأت ملامحه بتصريحات جو بايدن، وتبعتها تصريحات الوليد بن طلال، الذي سيعززها بافتتاح "قناة العرب"، والموجَّهة إلى الداخل السعودي. ومن هذا المنطلق تعد سورية نقطة خلافية واضحة بين واشنطن وأنقرة لأن تركيا تريد إزاحة الأسد، فى إطار رغبتها فى التوسع الإقليمي والظهور بمظهر من يدير المنطقة ويأتي بالحكام، أما الولايات المتحدة وربما فى إطار الإتفاق المتوقع مع إيران لا ترى فى ذلك أولوية، ويلاحظ أن أمريكا التى وافقت على إقامة منطقة عازلة شمال العراق قبل حرب 2003 تعارض حالياً رغبة تركيا فى إقامة منطقة عازلة مماثلة شمال سورية، وهو ما يعد دليلاً آخراً على معارضة واشنطن للتوسع التركي فى المنطقة.
ومن هنا فإن الإضطرابات التى شهدتها تركيا داخلياً منذ فترة تعد رسالة من الولايات المتحدة للحد من تطلعاتها الإقليمية، وبالمقابل هاجم الرئيس التركي أردوغان ما وصفه "بوقاحة" الولايات المتحدة فيما يخص الأزمة في سورية، وذلك بسبب الضغوط التي تمارسها واشنطن على أنقره لإجبارها على المشاركة في الجهود الهادفة لإنقاذ بلدة عين العرب السورية التي تحاصرها داعش، وترى تركيا أن الخروج بمقترحات سياسية تحت عناوين مختلفة كتجميد مناطق القتال، وحلب أولاً ليست كافية لوضع حد لتقدم الجيش السوري، إلا أن واشنطن ما تزال غير مقتنعة بالترتيب التركي للأولويات للحرب على الإرهاب، فواشنطن ترى أن الأولوية هي محاربة داعش وبعض التنظيمات الصغيرة التي تهدد مصالح وأستقرار حلفاءها الذين يدعمون الحلف الأمريكي وبرامج الولايات المتحدة بالمال والمشاركة الفعلية.
واليوم تجد تركيا نفسها في موقف العداء مع روسيا وإيران بسبب وقوف تركيا بشكل علني ضد النظام السوري، حيث بدأت إيران بإنتقاد السياسات التركية، وبدعم المقاتلين الأكراد في الأراضي التركية والسورية لتشكيل مزيد من الضغوط، وعندما إزداد تمدد تنظيم داعش بصورة سريعة، والتهديد الكبير الذي بات يشكله، فضلاً عن إستمرار نظام الأسد في الحكم، وهي التي راهنت بعد فترة وجيزة من إندلاع الأزمة السورية على الإطاحة به، فأعلنت مراراً عن إستعدادها لإقامة منطقة عازلة، وهو ما لم يحدث، لذلك حاولت تركيا عكس الضغوط الواقعة عليها، فهددت كلاً من أميركا من جهة، وإيران وروسيا من جهة أخرى، بإحتمال تدخل منفرد في سورية، وذلك عندما أقر البرلمان التركي مشروع قانون يهدف إلى توسيع الصلاحيات لأنقرة، بما يمكنها من القيام بتوغلات عسكرية عبر الحدود في سورية والعراق، لتوحي بأنها إقتربت عدة خطوات من إنخراط مباشر في الحرب السورية.
بالتزامن مع هذه التطورات عادت ماكينة الدبلوماسية الأمريكة للعمل باتجاه بناء قواعد للحل السياسي للأزمة والمبنية على تفاهمات سورية سورية .
فأصبح هناك تنسيقياً أمنياً بين السلطات السورية والولايات المتحدة، حول مواقع تنظيم داعش على الرغم من أن عدداً من اللاعبين، بينهم تركيا ودول الخليج، تفضل أن توسع الولايات المتحدة مهمتها ضد الدولة الإسلامية لإسقاط نظام الأسد، لذلك فإن الإدارة الأميركية تتقي مثل هذا الخطر وتتمسك بمهمتها الرئيسية بإستهداف المجموعة المسلحة، وفي الوقت ذاته الإحتفاظ بعلاقتها مع إيران، بذلك قرأت الحكومة السورية الأولويات الأميركية في هذا الصراع بشكل صحيح، وهي تتحين الفرصة من أجل التقارب أكثر مع الولايات المتحدة، من خلال تبادل المعلومات الإستخبارية،خاصة حول مخازن سلاح داعش، ومراكز التدريب ومقار القيادة في محافظات حلب ودير الزور والرقة، كما تقدم الاستخبارات السورية معلومات حول مجموعة خراسان، التي استهدفتها الغارات الجوية الأميركية، التي تعتبرها فرعاً من تنظيم القاعدة، وحليفاً رئيسياً لجبهة النصرة.
وبالرغم من كل هذه المعطيات فإن هذا لا يعني أن الإدارة الأمريكية باتت تمسك ببقاء القيادة والدولة السورية، بل على العكس تماماً، فالموقف الأمريكي لم يتغير، وهو يرغب في أن يرى سقوط الدولة السورية اليوم لكن هناك تكتيك أمريكي يفرض على واشنطن القيام بالمساومة في موضوع النظام القائم في دمشق وفي مختلف الإتجاهات، سواء باتجاه الحلفاء والأصدقاء، أو باتجاه الأعداء والخصوم في الخارج كروسيا وايران، وهذا يعني أن الرغبة في اسقاط القيادة السورية ما زالت موجودة على طاولة الادارة الأمريكية، وهذا لا يعني أن لا تتسبب ببعض التحالفات والتبدلات والمستجدات في هذا الملعب السياسي أو ذاك في إحداث تحول في الموقف الأمريكي، وفي هذا الشأن فإن موضوع إسقاط القيادة السورية شكل عاملاً مهماً في تجنيد الأموال وتمويل الحملات الأمريكية في المنطقة وضد داعش، حيث عمدت واشنطن الى القاء "الجزرة" أمام حلفائها في الخليج على شكل الدعوة لإطلاق عمليات التدريب ما يسمى بالمعارضة السورية المعتدلة، فتلقفتها السعودية سريعا وفتحت أبواب معسكراتها للتدريب في محاولة لطمأنة حلفاؤها بأن إسقاط النظام السوري هو في قمة أجندة العمل الأمريكي في المنطقة لكن هذا لا يعني أنها وصلت الى رأس الأولويات.
وأخيراً أختم بالقول إن كثير من السوريين يتطلعون إلى موسكو وطهران، والمباحثات القادمة، في ضوء تسارع الأحداث التي تحمل في طياتها أملاً لكل شعوب المنطقة التي عانت من دمار وخراب وتدمير لم تعهده في تاريخها المعاصر، مؤكدين بأن سورية تخوض الحرب ضد الإرهاب دفاعاً عن شعوب العالم، وفي الوقت نفسه للدفاع عن أمنها وسيادتها واستقرارها،وبإختصار شديد إن مستقبل سورية يبقى مرهون بنتائج الميدان وتقدم الجيش السوري وقدرته على تغيير معادلات الخارج، وفرض الحل الأنسب لهذه الازمة .
khaym1979@yahoo.com