دام برس:
محمد سليمان الأحمد المعروف بـ "بدوي الجبل" شاعر سوري حباه الله موهبة اخاذة جمع فيها بين أصالة الماضي وعراقته وبين معطيات الحاضر ووجعه وألقه فواكب الهموم الاجتماعية والوطنية في عصره وكتب أروع القصائد عن الحب والمرأة واستطاع أن يجعل من هذه الموضوعات حالات إنسانية ستبقى إلى الأزل لما امتلكه من أسلوب شعري فيه ما يجعله يرتقي إلى مرتبة الشعر الخالد العابر للأزمنة.
اختلفت رؤية الشاعر بدوي الجبل في تفسير ظاهرة الشهادة عن كثير من الشعراء فدخل في الأبعاد الفلسفية والنفسية والاجتماعية للشهادة إضافة للصور والاستعارات التي تدل على شيئين هما مدى تجذر قيمة الشهادة وسموها عند الشاعر والثانية هي القدرة الفنية الفائقة التي يمتلكها في تأدية هذه الحالة حيث تقمص شخصية الشهيد وتكلم عنه في قوله:
وما حاجتي للنور والنور كامن
بنفسي لا ظل عليه ولا ستر
وما حاجتي للأفق ضحيان مشرقا
ونفسي الضحى والأفق والشمس والبدر
حاول بدوي الجبل أن يخرج عن الظاهرة التقليدية في مقدماته الشعرية التي كان يعتبرها أهم ما تفتتح بها القصائد وذلك لخلق موضوع شعري متماسك يبتدئ بالحدث ويستمر متصاعداً من خلال عاطفة شعرية تكاد لا تتراجع في أغلب قصائده وهي تمثل حالات اجتماعية عاشها الشاعر كما أنه عمد إلى عدم الالتزام أحياناً في توحيد حرف الروي بين شطري البيت الأول كقوله في مطلع قصيدة أتسألين عن الخمسين
أتسألين عن الخمسين ما فعلت .. يبلى الشباب ولا تبلى سجاياه
القلب كنز شباب لا نفاد له .. يعطي ويزداد ما ازدادت عطاياه
وكان للرثاء في شعر بدوي الجبل نصيب ليس بقليل نظراً للنزعة الوطنية التي كانت تتقد في أعماقه لاسيما أن الفترة التي عاشها تميزت بوجود المناضلين وكبار الشخصيات السياسية والثقافية والاجتماعية التي تصدت بشكل أو بآخر للاستراتيجية الاستعمارية فكثيراً ما اشتعلت عواطفه في رثاء هؤلاء كلما قطفت يد المنون واحدا منهم ومن أهم هؤلاء فارس الخوري رئيس وزراء سورية الأسبق الذي رثاه في قصيدة غربة الروح ومنها:
يا شآمي يا قبلة الله في الدنيا .. ويا راحها المصفى العتيقا
أترع الكأس من هواك لتروى .. كبدي من هواك لا لتذوقا
أنت نشأت على الصبر والعز .. كما ترهف الحسام الذليقا.
وتميز شعر الغزل عند بدوي الجبل بالرقة والشفافية واختيار الألفاظ التي تتمكن من عبور التاريخ ضمن العاطفة الشعرية والتعابير التي نالت حظاً وافراً في البنية التركيبية للأسلوب التعبيري دون أن يحدث أمام الشاعر أي خلل في استخدام الحروف ومعانيها أو لجوء لزحاف أو علة ما سبب لوجود نص شعري انسيابي بعيد عن التكلف كقوله في قصيدة خالقة
وزار طيفك أجفاني فعطرها .. يا للطيوف الغريرات المعاطير
كأن همسك في رياه وشوشة .. دار النسيم بها بين الأزاهير
تندى البراءة فيه فهو منسكب .. من لغو طفل ومن تغريد عصفور
وأثرت الغربة كثيراً في حياة شاعرنا بعد أن فرضها عليه الطغاة والمستعمرون وألهبت قلبه وكبده وراح الشوق يشعل عواطفه فتتحد كل هذه الأشياء وتدفع بعواطف الشاعر لتتشكل على الورق قصيدة شوق تمر عبر الأزمنة وتصل بين جسور التاريخ بما تمتلكه من رجع روح مرت عبر خياله فتكونت من العبارات والألق لتعبر عن وجدان كل الغرباء كقوله في قصيدة عاد الغريب التي تجلت فيها الشام بأجمل صفاتها..
عاد الغريب ولم تظمأ سريرته .. فقد حملت بها في غربتي بردى
من روع البلبل الهاني وأجفله .. عن أيكه وسقاه الحتف لو وردا
قلبي الذي نضر الدنيا بنعمته .. رأى من الحقد أقساه وما حقدا
إني لأرحم خصمي حين يشتمني .. وكنت أكبره لو عفا منتقدا
ورأى الشاعر بدوي الجبل أن سلوك أبي العلاء المعري وفلسفته في خصومة المرأة ليس صحيحاً برغم احترامه وإجلاله لقامة المعري الشعرية والتاريخية بما تحتويه من أدب وفطنة وثقافة متباينة ومتنوعة فعاتبه برقة وهو يقر بأنه حكيم الدهر وأنه لو قدم للمرأة شيئاً مما لديه لقدمت له الكثير كقوله في قصيدته أمام ضريح أبي العلاء المعري في واحد من مهرجاناته.
إيه حكيم الدهر أي مليحة .. ضنت عليك بعطرها الفواح
أسكنتها القلب الرحيم فرابها .. ما فيه من شكوى ورجع نواح
لو أنصفت أسقتك خمرة ريقها .. سكر العقول وفتنة الأرواح
محمد الخضر- سانا