دام برس - حاوره - بلال سليطين :
هو شاعر وناقد سوري قام برصد الحركة الشعرية السورية خلال العقود الماضية وكان دوره مؤسساتيا في النقد لدرجة أن الشعراء ينظرون له على أنه ملئ فراغ النقد في سورية، فيما ينظرون لأعماله الشعرية التي غلب عليها قصيدة التفعيلة على أنها منجز شبه مكتمل.
الشاعر والناقد "ياسر اسكيف" حل ضيفاً على دام برس وكان الحوار التالي:
* أين البحر من قصائدك النثرية، وأنت ابن هذه البيئة البحرية الجميلة؟
** هنالك فرق , أظنه واضحا, بين بيئة ساحليّة , وبيئة بحرية. إذ تميل العلاقة مع البحر في البيئة الساحلية , كما أرى , إلى المعنى البصري الإشاري. ما يفسح بالمجال للتسامي الرمزي التخييلي للبحر, على حساب المعنى الواقعي الذي يقلل من فرص الميتافيزيقا والأيقونية . إذ أن العلاقة مع البحر لإنسان البيئة البحرية فهي تخص العيش اليومي , أي التعاطي مع البحر ككائن , وليس كمجاز .
وبالنسبة لي أجد نفسي ابن بيئة ساحلية , وليس بحريّة . وعلاقتي بالبحر لا تتعدى العلاقة البصرية, ورؤيتي اليومية له , من موقعي الجغرافي , تجعله ممتزجا ومختلطا بالأفق . وهذا , كما أظن , هو ما يفسّر غياب البحر , كموضوع رئيسي , أو كحالة ضاغطة , عن نصوصي .
* يهاجم كثيرون قصيدة النثر وقد لا يعترف البعض بها أنها شعر، برأيك ما سر هذا الهجوم، ولماذا لايزال الجمهور غير متآلف معها؟
** انطلق الهجوم , تاريخيا , على قصيدة النثر من نزعة التقديس , ومن خرافة الحفاظ على الثوابت , وهذا أمر طبيعي يوّلده الخوف من الجديد , والارتياب بتهديده للراسخ المستقر . وهذا أمر شائع في كافة الأزمنة , وكافة الثقافات , ليس في الأدب وحده , انما في الدين والعلم والفنون أيضا . ولأن للشعر موقعه الخاص , حتى وقت قريب , في الوجدان العربي , وله دوره المميّز في معنى الثقافة العربية فقد كان المساس بثوابته أمرا يرتقي إلى مستوى المساس بالهوية ذاتها .
والهجوم الذي واجهته قصيدة النثر في تاريخنا الأدبي لم يكن هجوما أدبيا بريئا , أي لم يكن هجوما مُنطلقه الاختصاص . بل كان هجوما مُركّبا ( سياسي – اجتماعي – أدبي ) أي أيديولوجي بامتياز , ولكنه , أي الهجوم , اتخذ من الأدب قناعا وجده مناسبا . إذ أن الهجوم لم يقصد في الحقيقة قصيدة النثر وحدها , التي مثّلت ذروة الحداثة الأدبية آن ظهورها , ولكنه قصد الحداثة برمّتها . واليوم أعتقد بأن هذا الهجوم بات من الماضي , ليس لأنه لم يعد موجودا , إلى هذا الحدّ أو ذاك , بل لأن قصيدة النثر باتت تعبيرا عن حساسية استوطنت , ولم تعد مجرّد اعلان عن محاولة اختراق ثقافي قصدي ومنظم .
وأما عن استمرار الجمهور بعدم التآلف معها فهذا يعود إلى أسباب عدّة , في مقدمها الموقف الرسمي , الذي تجسّد في إبعاد هذا الشكل الشعري عن المناهج الدراسية على كافة المستويات , كما ساهمت المؤسسات الإعلامية الرسمية في محاولة تغييبه قدر الإمكان . وبالتالي بقي هذا الشكل , في تماسه مع المتلقي , مرهونا بنوعية محدّدة من المتلقين الخاصين , هم القرّاء الأكثر انفتاحا والأقل إيمانا بالنص التقليدي المُعمّم .
* هناك منافسة شديدة بين النثر والتفعيلة في أيامنا هذه، هل هذه المنافسة عامل ايجاب أو سلب؟
** نعم . ان منافسة كالتي تتحدث عنها قائمة , وستبقى , مادامت شروط قيامها متوفّرة وحاصلة , وهذه الشروط يوفرها تجاور الحساسيات , القديمة منها والجديدة . لكنني لا أرى أن هذه المنافسة شديدة كما تفترض , لأنها ليست منافسة بالأصل بقدر ما هي محاولة حساسية آفلة بالتضييق على حساسية وليدة . إذ أن المنافسة تقتضي تطويرا إبداعيا لأدوات الإنتاج , وهذا ما لا يحدث أبدا , وتحديدا من جهة الحساسية القديمة , أقصد الحساسية الصوتية الإيقاعية , بل الذي يحدث هو محاولة هذه الحساسية التضييق إعلاميا على الحساسية الأخرى , من واقع أنها , أي الأولى , ما زالت تمسك بزمام المنبر , وتتحكم بمكبّر الصوت . وبالتالي لا يمكن تعليق أهمية كبيرة على النتائج ( سلبا , أو إيجابا ) ما دام التنافس , الذي نسميه تنافسا , لا يتّصف بالفني , أي أن الأدوات المستخدمة فيه لا تنتمي إلى الحقل الأدبي الفني , بل إلى حقل مختلف تماما , يمكن تسميته حقل الامتيازات اللافنيّة .
* تكثف كثيرا من الصور الشعرية في نصوصك لدرجة تظهر فيها وكأنك تريد أن تقدّم قصيدة النثر على أنها ليست كما يظن البعض سهلة بسيطة فهل ترى أنك نجحت في ذلك ؟
** لست من يكثّف في الحقيقة . فأنا لا أصنع . الأمر هنا يتعلق بآلية عيش التجربة وإعادة إنتاجها , أي تعميمها . إذ أن النص الشعري المقروء , كإعادة إنتاج للتجربة المعاشة, هو انتقال من مُفردات الخصوصية في العيش والإحساس , إلى مُفردات العمومية في الإخبار . والصور التي تشكّل النص هي محاولة العيش ثانية في العلن. وبالتالي فالأمر لا يتعلق بإرادة تقديم , أو بغيرها , فما أن تحضر هذه الإرادة حتى يتحوّل النص المكتوب إلى افتراض تجربة , وافتراض عيش . وهذا ما يميّز الشعر الرديء عموما . وأما عن القصيدة كمحاولة لإظهار أن قصيدة النثر ليست بسيطة كما يظن البعض وإن كنت قد نجحت في ذلك فهذا ما يجيب عن النقد . ذلك أنني لم أجد نفسي يوما حامي حمى لأي من الأشكال الشعرية كي أجهد نفسي في جعل الكتابة شكلا من أشكال الانتصار له .
* في ظل كلّ هذا الرصاص هل ما زال هناك مكان لصوت الكلمة ؟
** إذا كانت صوتا فحسب فلا مكان لها, إذا أنها ستضيع في اختلاط الأصوات وصراعها . وأما إذا كانت كلمة فسيبقى مكانها محفوظا ما دامت اللغة . أنا أتحدث هنا عن المدينة , وعن العقل . ولا أتحدث أبدا عن الغرائز والأصوات .
* ألم يكن من واجب الشعراء توثيق الأزمة السورية شعرا كما وثق أسلافهم لأحداثهم التاريخية بالماضي شعرا ؟
** الوقت لم يفت بعد على الحكم بأن توثيقا كهذا قد تمّ أم لا . وأما عن الأسلاف فقد كانت تنقصهم كلّ هذه الميديا التي تتوفر للأحفاد.
- ياسر اسكيف – مواليد حمانا 1959 – إجازة في العلوم الطبيعية اختصاص " شعبة كيميائية حيوية " من جامعة تشرين – نشر شعرا ً : 1 – خطوة ويضيق الفضاء – اتحاد الكتاب العرب – دمشق 1990
2 - حجر يستند إلى بنفسجة – اتحاد الكتاب – دمشق 2001 3 – فراغ تفاحة لا أكثر – إصدار خاص 2005 4 – وهذا من أخطائي أيضا ً – دار ليندا –السويداء 2011
وفي مجال الدراسة الأدبية : 1 – الحداثة المعطوبة والسلالات القلقة – دار الطليعة الجديدة – دمشق 2006 2 – الوجود القلِق والذات التائهة – دار ليندا 2011
إضافة إلى مجموعة من الدراسات والمقالات المنشورة في بعض الصحف السورية والعربية