بالرغم من مرور عامين على الطلاق بين زعيم تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» ـ «داعش» أبي بكر البغدادي وجنديه المتمرد زعيم «جبهة النصرة» أبي محمد الجولاني، فإن جذوة الخلاف بينهما، الذي تحول في ما بعد إلى حرب دموية، لم تنطفئ ولم تخفت، بل على العكس تدل العديد من الشواهد على أنها قد تشهد في عامها الثالث اتقادا غير مسبوق.
ولم يكن من قبيل الصدفة أن ترسل قيادة «داعش» عشية الذكرى الثانية، انتحاريَّين اثنين ليفجرا نفسَيهما في بلدتَي مارع وحور كلس شمال حلب، وسط من تعتبرهم قادة «الصحوات» الذين قادوا القتال ضدها. وسقط جراء التفجيرين ما يقارب الـ40 قتيلاً، بينهم قيادات كبيرة مثل أبو مريم العسكري من «جيش المجاهدين»، وحازم صالح من «الجبهة الشامية» وأبو ماريا البابي «أمير جبهة النصرة في مارع».
ولا يمكن ان تكون الرسالة اكثر وضوحاً من ذلك، لأن التفجيرين حصلا في المنطقة ذاتها التي شهدت إطلاق الرصاصة الأولى ضد «داعش» في بداية العام 2014، واضطر بسببها إلى الانسحاب من ريف حلب الشمالي، بعدما سقط العشرات من مقاتليه بين قتيل وجريح، وأبرزهم حجي بكر الذي كان بمثابة «رئيس الأركان العسكري»، وكأنّ «داعش» يريد القول: «لقد عدنا».
لكن الظروف، منذ بداية الخلاف، وإلى الآن، تغيرت على نحو جذري، وزادت تعقيدات المشهد السوري نتيجة تكاثر الأيدي القائمة على رسمه أو تلطيخه، كما بات حضور «التحالف الدولي» في سماء المنطقة عنصراً لا يمكن تغافله، بالإضافة إلى أن إعادة الفصائل المسلحة هيكلة نفسها، وصياغة تحالفات جديدة على أكثر من جبهة، كل ما ذُكِر أدّى إلى تعديل موازين القوى وحدوث تغييرات في خريطة السيطرة على الأرض.
وبالنسبة إلى «داعش» فإن أخطر هذه التغييرات يتمثل في سيطرة «جبهة النصرة» مع حلفائها على مركز مدينة إدلب قبل حوالي الأسبوعين، مضافاً إلى مناطق سيطرتها في الريف الجنوبي وجبل الزاوية، حيث من المفترض أن تشكل هذه المساحة نواة «إمارتها» الخاصة بدل «الإمارة» التي سلبها إياها «داعش» في المنطقة الشرقية منتصف العام الماضي.
ويشكّل هذا الانجاز «النصراوي» تهديداً وجودياً لـ «داعش»، الذي يرى في نفسه الفصيل الوحيد المؤهل لتأسيس «إمارات» و «ولايات»، وأن أي فصيل يخرج عن طاعته يستوجب الحرب، فكيف إذا فكر هذا الفصيل بإقامة «إمارة» له على حدود «خلافته» في حلب ودير الزور والرقة؟
ويبدو أن رسالة «جبهة النصرة»، التي تسعى إلى خوض تجربة «الإدارة» مستفيدة من أخطاء خصمها، قد وصلت إلى قيادة «التنظيم» التي سارعت إلى إرسال الجواب الانتحاري إلى العنوان الذي يمثل مهد «الفتنة».
ومع ذلك، فإن العلاقة بين «جبهة النصرة» و «الدولة الإسلامية» لا تخلو من عناصر أخرى قد تجعل الاصطدام بينهما محدوداً في مناطق معينة من دون مناطق أخرى. وهو ما تجسّد بشكل واضح في مخيم اليرموك قرب دمشق، حيث تعاون الطرفان في ما بينهما، بما يشبه التحالف، ضد «أكناف بيت المقدس» وما زالا يحاولان الاستيلاء على المخيم المنكوب.
وكان لافتاً أن هذه الأحداث كشفت عن تقارب كبير بين قيادات «النصرة» و «داعش» في جنوب دمشق، ووصل هذا التقارب إلى درجة التنسيق العالي المستوى في وضع مخططات القتال وتحديد الأولويات ورسم الأهداف المشتركة، وهو ما يندر حدوثه في أي منطقة أخرى، بل إنه فاق حالة الهدنة التي طبعت علاقة الطرفين في منطقة القلمون الغربي، والتي كانت تعتبر استثناء يشذ عن حالة القتال المستعر بينهما.
وما قد يعزز هذا التقارب في المستقبل أن كلا الطرفين بدأ يستشعر بالخطر الذي يشكله «جيش الإسلام» عليه في مختلف مناطق الريف الدمشقي، خاصةً في الجنوب وفي الغوطة الشرقية، حيث تشي تحركات «جيش الإسلام» بأنه بدأ بتنفيذ خطة معدة سلفاً للتخلص من «جبهة النصرة» في الغوطة، بعدما تمكن خلال الفترة الماضية من تصفية أبرز خصومه ومنافسيه وعلى رأسهم «جيش الأمة».
والأمر الذي ما زال يشكل سراً عصياً على الفهم، هو امتناع قادة «داعش»، أو إعلامييه أو أنصاره المقربين، من فضح هوية الجولاني، بالرغم من كل المعارك الدموية التي جرت بينهما، في حين كان التصويب على البغدادي وشخصيته وهويته أحد أهم الأدوات التي استخدمها قادة «النصرة» في حملتهم الإعلامية ضده. ويسود اعتقاد أن هذا الامتناع ليس من باب كرم الأخلاق وحسب، بل هو إشارة إلى أمرَين اثنين: الأول أن بقاء الجولاني الموصوم بخلع البيعة والغدر «بأمرائه» السابقين على رأس «جبهة النصرة» أفضل من أن تنتقل القيادة إلى شخص آخر لا عيوب في سجله. والثاني أن بعض قادة «داعش»، بحكم معرفتهم بشخصية الجولاني، يرون وجوب عدم قطع كل الخطوط معه، ويراهنون على أنه قد يقلب الطاولة من جديد في حال اضطرته التطورات إلى ذلك.
ويبقى أن الصراع المستمر بين الطرفين منذ عامين لم يعد حكراً على الساحة السورية وحسب، بل أخذ في الانتقال إلى أكثر من دولة، كما في القوقاز وأفغانستان وليبيا واليمن.
وقد تكون التطورات في اليمن هي الأكثر تأثيراً على مسار الصراع في سوريا، والعكس صحيح، لأن «فرع القاعدة في اليمن» هو من أقوى الفروع وأقدمها، وبالتالي إذا نجح «داعش» في تأمين حضور قوي هناك، عبر عمليات نوعية، أو تمكن من الحصول على بيعات كبيرة، أو مكنته الظروف من لعب دور مؤثر في الأحداث الجارية، فإن هذا سيشكل ضربة موجعة إلى تنظيم «القاعدة» ككل، لأنه يخسر على أرضه شبه التاريخية، بينما سيساعد انتعاش «داعش» في اليمن، أو في دول أخرى مثل ليبيا، على امتصاص صدمة الهزائم التي تلحق به في سوريا والعراق، وبالتالي الحفاظ جزئياً على مضمون شعار «باقية وتتمدد» الذي يعمل بناء عليه. أما في حال فشله، فلن يكون ذلك في مصلحة «جبهة النصرة» وحسب، بل إن وجوده هو على صورة «دولة» سيصبح على المحك.