دام برس :
بلغت خطورة نشوب حرب أمريكية على سوريا، الشهرِ الماضي، درجة الاتقاد أمام المزاعم ِالغربية في عبورِ سوريا الخط الأحمر الذي حدَّدتهُ لها واشنطن منذ عامين واتِّهامها باستعمالِ السلاح الكيمياوي في قصفِ مواطنيها في غوطة دمشق (آب 21). ومن أجلِ أطفال سوريا، كما أفادَ الرئيس أوباما، تأهبت القوات الأمريكية في قواعدها في الأردن وتركيا والخليج لضربة تأديبية وشيكة تستهدف مواقع القوَّة السورية وبذات الوقت ازدحم المتوسط بالأساطيل الأمريكية والإسرائيلية وهي تمتشقُ صواريخ «توم هوك» مُلوِّحةً باللحظة الوشيكة لضغطِ أزرارِ الجحيم ليمطِرَ سوريا دولةَ وشعبا بحُجَّةِِ تلقينها درسا هجومياً حربياً يتناسب والسمعةِِ الأمريكيةِ عالميّاً، مدعوما من أنظمة ِالرضوخ والتذرُّع العربية. وسوريا العروبة يكتنفها الدمار وجراحاتِ القتال الضاري من كُلّ حدبٍ وصوب. وفي هذا الخِضَمِّ الهائجِ المائجِ بالخطوبِ تفقدُ الشعوب قابليتها على الإدراك السليم ويسقط الوعيِ الجماهيري لأدنى مُستوياتِهِ تِباعاً، فلا أحد يَعني بفهمِ حجمِ المؤامرة ولربما لا أحد يكترث . فحين تختلِطُ دماء الباطِلِ بِالحق ويفقد المواطنُ الملاذ بسلطتهِ كدرعٍ لسلامتهِ وأمانِه، يتساوى العاقل والجاهل أحياناً في استحالَةِ تلمُّسِ أصلِ الأحداث والتيقن من حجمِ التآمر. وما قيمة الوعي ساعة الموت والجوع والمُعاناة! وحينما تتخَضبِّ الدولة تماما كما المواطن بذات الدمِ الطاهِرِ فلا المواطِن يعذرها كونها لم تعد الدرع الحامية لسلامتهِ، ولاهِيَ تستطيع تبرير اضطرارِها لِما تقوم به دفاعا عن كينونةِ وجودها كدولة... كلاهما يرتعشُ في مداواة جراحِهِ: فالدولة تتشبَّث في مُقاومةِ ما تراهُ حقَّاً المؤامرَةِ الكُبرى التي تستهدف الوطن ومستقبل الأجيال.
المُستقبل الذي يعتمدُ عليه بقاء الأُمَّةِ العربية حضارةً ولُغَةً وكياناً وكرامَةً، والمواطِنُ يتشبَّثُ بالحياة سواء داخِلِ دولتهِ المُحترِقة أم في المنافي هرباً . لكنِّي أرى إنَّ ديمومتنا كأمَّة عربية في حوض الحضارة العربية بالذات تكمن في معرفةِ الأخطارِ وتفاديها والتثقيف الفكري والتحليلي كجمهور يجدُ نفسهُ أمام استهداف لوجودِهِ ومستقبلهِ، وأنَّ درع حِمايتِه الوحيد هو معرفةِ استهدافِهِ الخارِجي حجماً وكمَّاً وتخطَيطاً وسِلاحاً.
وسواءٌ أكان الحاكِمُ لِسوريا بشَّار الأسد أم غيرهِ، وما دامَ الحُكمُ أي حُكم لا يرتضي بالإملاءاتِ الغربية ولايفتح بلادَهُ لِقواعِدَ لاحتِلالِهِ وتصفيَةِ مشروعِهِ العربي السيادي التحرري فإنَّهُ سيُعاني مِن نفسِ المخاطِرِ، ويكون تحت طائِلَةِ الصواريخِ الموَّجَهة إلكترونيا من الأساطيل جوّا وأرضا من قواعِدِ الدوَل المُجاوِرة حتما. فالحرب على سوريا قائمة مُنذُ عام 1949 والأدواتِ التي استُخدِمت للتبرير السياسي وانتهاكات القانون الدولي هي ذاتِ الأدوات، والاختلافِ الوحيد هوَ في إسقاطِ الغربِ ليافطةِ «حقوق الإنسان» التي لم تعُد مُجدية أمام حملاتٍ عسكرية يذهب ضحيتها عشراتِ الألوف لِقَلبِ أنظِمَةِ الحُكم المارِق في عُرفِها... والمروق هُنا لم يعُد التهديد باعتناقِ الشيوعية ولا العمل على قلبِ الأنظمة العربَّيةِ الرجعية المُؤتمرة بالإرادة الغربية، ولكن بمُجرَّد أن يقف أي شعب عربي خلف حكومتِهِ في مواجهة الطُغيان الإسرائيلي فهو ضِدَّ الإرادةِ الغربية. إذن لابُدَّ مِن تقليمِ الأظافِرِ والتركيع تعليما وتهذيبا.
وحين التَهَبَت مشاعِرَ الشعب العربي السوري وقيادتهِ مُقاوَمَة لقيامِ دولة إسرائيل 1948 وتشبَّعَت العناصِرِ العسكرية السورية بروحِ الثورة والإباءِ العربي والشعور بغدرِ الأُمَّة العربية عِندَ تشريد الشعبِ الفلسطيني، بدأَت عناصر «السي آي آي» الأمريكية والمخابرات البريطانية «أم أي 6» العمل على إسقاطِ الحُكمِ الوطني السوري في أولِّ انقلابِ عسكري تمَّ إنجازه عن طريقِ تجنيدِ العقيدِ حُسني الزعيم من قِبَل مسئول المخابرات الأمريكي مايلز كوبلاند في دمشق. وحسب مايلز، تمَّ تسليم مبالغ قدرها 150 ألف دولار لحسني الزعيم لِقاء تنفيذِهِ الانقلاب العسكري.
وبرغم قناعةِ المخابرات الغربية بمحدودية ذكاء حُسني الزعيم وهلاميتهِ السياسيَّة لكنَّها اعتُبِرَتهُ مؤهلاً كونهُ ناصبَ الشيوعيين واليساريين السوريين أشدَّ العداء، ووقَّعَ اتفاقيَّةِ مد خطِ النفطِ السعودي لشركة آرامكو عبر الأراضي السورية والتي تلكأَ البرلمانِ السوري قبل الانقلابِ من المُصادقة عليها، وكذلِكَ تمَّ لهُ عقد الهُدنة مع إسرائيل وإيقافِ القتال. وبعدها، لم يدم حُكم حُسني الزعيم سوى خمسةِ أشهُر انتهت بِقَتلِهِ، وتوالت الانقلابات حتى تمَّ وبنفسِ الطريقة تجنيدِ أديبِ الشيشكلي في لِقاء مع المخابرات في بيروت للقيام بانقلاب عسكري وما إن تولى أديب الشيشكلي لسنة حتى أُطيحَ بِهِ، وتظافرت جهود بريطانيا وأمريكا على زعزعة الحكم في سوريا كما ينُصُّ تقرير Anglo-American working group on Syria1957 في وصفِ العملية الإنجليزية السرية تحت رمز straggle أي تتبع الأثر، وقد نصَّت التوصيات المُرفقة لوزير الدفاع البريطاني دانكن ساندي على ضرورة التخلص من شخصيات وطنية سورية بتصفيتهم، وقد اجتهدَ عُملاءِ المُخابراتِ في قلبِ نِظام الحُكمِ المُنتخب ديمقراطيا للرئيس شكري القوتلى عام 1955 بحُجَّةِ الخوف من استفحال الشيوعية في سوريا، وفي عام 1956 فشلت العملية الانقلابية التي كانَ يعِدُّ لها الإنجليز، حيثُ راوغت الحكومةِ الإنجليزية مع فوستر دالس في أكتوبر وطلبت تأجيل العملية الانقلابية لعدة أيام وفاجأت بريطانيا دالس بدخولها مع إسرائيل في عملية غزو سيناء المصرية في حرب القناة الخالدة، وتفاجأ الطرفان (الأمريكي والإنجليزي) باكتشافِ مؤامرتهم الانقلابية من قِبلِ المُخابرات السورية، حيث وشى الضُبّاَطِ الوطنيون وأفشلوا الانقلاب وبذلِكَ احتضرَت عملية «ستراغل» الإنجليزية. وتوجَّهَت سوريا نحو روسيا لتزويدها بالسلاح، مِمَّا اعتبر الرئيس الأمريكي أيزنهاور أنَّ هذا التقارب من المُمكِن أن يقود إلى تحالف سوري - روسي، وفي بداية 1957صوَّتَ الكونجرس الأمريكي لصالح تخويل أيزنهاور التدخل لفرضِ الوجودِ الأمريكي في سوريا ومن هنا نشأت أزمة سوريا عالمياً ونشأ مايُسمَّى Eisenhower Doctrine وهو مبدأ التدخل في الشرق الأوسط وجعلهِ منطقة نفوذ أمريكية . وبدأت المخابرات الأمريكية بوضع خُطَط انقلاب جديد تحت اسم Wappen أي عملية «الدرع» وخلال أشهر من التحضير عاود أديبِ الشيشكلي الاتصال بمسئول المخابرات كيرمت روزفلت والتعهُد للمخابرات الأمريكية بِقيادَةِ انقلابٍ عسكري جديد، لكن العملية الانقلابية فشلَت والضُبّاَطُ الستةِ السوريين الذين تمَّ التخابر معهم كانوا أقوى من أيِّ إغراءِ فسارعوا لنقلِ ما حدث لرئيس المُخابرات القوي جدّاً عبد الحميد السراج، والذي وضع السفارة الأمريكية في دمشق تحت الإنذار وطرد تنظيم المخابرات الأمريكية في سوريا ومنهم هاورد ستون، وتمَّ ترفيع عفيف البرززي لأركان الجيش السوري كوجه وطني مُناهِض للغرب.
وعلى إثرِ فشل إدارةِ الاعتماد على المُخابرات المركزية في قَلبِ أنظِمَةِ الحُكم، تبلورَت خُطَط التدخل العسكري لاحتلالِ سوريا، وتماما بموازاةِ الخُطط القائِمة حالياً، حيث تعهدَت الولايات المُتحدة بمواصلةِ تسليح تُركيا، إن هيَ بدأت بالتحرُش العسكري على الحدود السورية ودفع العراق والأردن، وكان الثلاثة مُرتبطين بِحلفِ بغداد الإنجليزي التصميم ولايُ مانع هكذا حِلف غزو سوريا. وقام الرئيس الأمريكي بِإنزالِ 10 آلافِ جندي أمريكي في سواحِلِ لبنان وعبأت تُركيا 50 ألف جُندي على حدودها مع سوريا وحين شعر أيزنهاور بسخط الشعوبِ العربية العارم ضد الوجود الأمريكي حاول الانسحابِ، ولكنَّ تُركيا أصرَّت على المواجَهة مع سوريا. وفي شهر سبتمبر أيلول 1957، تمَّ الاتفاق بين ماكميلان رئيس وزراء بريطانيا والرئيس الأمريكي على التنسيق لِغزو سوريا باستعمالِ العراق مدعوماً مِن الأردن (كون كلاهما دخل في الوحدة الهاشمية) ، وفي المُقابِل تمَّ عقدِ اتفاقيات اقتصادية بين سوريا والاتحاد السوفيتي في تطوِّر زادَ الأحداث ضراوةً. وبِخطوطٍ مُتوازية لأساليبِ التعبئةِ السياسيَّة والادِّعاءاتِ لتبريرِ الغزوِ الغربي - العربي تماماً لما يَحدُث الآن عام 2013 من أساليبِ شنِّ الحروبِ على دولة من قِبَلِ الجيوشِ الغربية، وذلك بدءا بتسويد صفحتها تماما وإظهارها بِدَرَجةٍ شيطانيَّة ِمنَ المروقِ على القانونِ الدولي وتهديدِ السلام العالمي لتطويعِ الرأيِ العام العالمي ضِدَّها ونيلِ رِضاه أو كسبِ سكوتِهِ تمهيداً لِشَنِّ الحروب.
وقد سُميت هذهِ الخُطَّة لِغزوِ سوريا The Preferred Plan أي الخطة المُفضلَّة للعمل المخابراتي السري، حسب إصدار (ماثيو جونز) عن وثائقِ المخابرات والأمن الوطني الأمريكي. وقد تَضَمنت الخطَّة العامَّة لغزو سوريا على الاعتمادِ على العراق لتأجيجِ العشائرِ السوريَّة على طولِ الحدود السورية العراقية الأردنية، ثمَّ رفعِ درجَةِ التأجيجِ إلى تمُردٍ داخلي يُشتِّت القدرة العسكرية السورية، وكذلك تضمنت الخُطَّة الإيعازِ لِعُملاء المخابرات الأمريكية والبريطانية للقيامِ بأعمال تخريبة في داخل سوريا على أن لا تقتصِر على دمشق فقط، وأن تكون عملية الغزو مُفاجأة حتى لايتهيأ القادةِ السوريون للاستعداد للدفاع أو أخذ الحذر، كذلك أنَّ تقوم المُخابرات باقتيادِ الإذاعاتِ السورية والمصرية بِمُناكدتها وشحنِها نحو التهجم على العراق والأردن لخلقِ أجواء حرب، خصوصا بعد القيام بِأعمال تخريب على الحدود مع سوريا. وعلى أجهزة المخابرات القيام بِتعبئةِ المنفيينِ السوريين في العراق والأردن في جمعية تحرير سوريا، وكذلك تعبئةِ الجماعاتِ السورية المنفية في تنظيمات عسكرية للقيام بأعمال قتالية خاصة، وبشكلٍ مواز تتمُّ الاستعانة بعملاءِ الداخِلِ السوري لتثوير الدروز في جبل الدروز للقتال ضد حكومتهم. وفي تِلكَ الحقبة ما كانت سياسة الغرب على ما يبدو تُقيمُ وزناً لحقوقِ الإنسان كما هى الحال في السبعينيات، حيث تضمنَّت خُطَّة غزوِ سوريا آنذاك قتل كل من: عبد الحميد السراج، عفيف البرزي، والرئيس جمال عبد الناصر. وقد كان المُزمَع في أكتوبر 1957 أن تجهز الخطة، إلّا أنَّ العراق طلبَ أن يُمهَل عدّة أشهُر لكي يُجَهِّز جَيشِهِ، وبالمُقابل أظهرَ الملك حسين (كان في بداية العشرينيات من عمره) حماسا شديدا للقيام بعملية غزوٍ لسوريا. ويبدو أنَّ العناية الربّانية قد حفظت سوريا من كارثة مُحقَّقة لولا تقاعس الموقف العراقي ووصول رسالة من خروشوف للرئيس أيزنهاور يفضي ببعض المعلومات عن غزوِ سوريا، كما تضمنَّتها الخُطَّة المُفَضَّلة فأُسقِطَ بيد ماكميلان وأيزنهاور لفقدانهِم عُنصر المُباغتة وانكشافِهم.
ويقينا لو أنَّ الرئيس السوري أو طاقَمِهِ قد درَسَ هذهِ الوثائق بتواريخها، وماكينة الحرب على سوريا تعدُّ طواقمها 2011، لرأى أنَّ تُركيا أردوغان هي ذاتِ تُركيا عدنان مندريس قبل 64 عاما، وملك الأردن الحالي هوَ ابن أبيه، والسعودية هي ذات المُطيعة، وحتى قيامِ الساعة، لسيدَّةِ البحار ولِيَّةِ الأمرِ والقرار: بريطانيا. وحَتما لواجهَ الرئيس بشار شعبِهِ مُنذ اللحظة الأولى لاندِلاعِ الأزمة بنبوءات مُذهِلَة عن مُؤامرة إسقاطِ سوريا ولربمَّا جنبَّتهُ وجنَّبَت بلاده هذا الدمار . ولرأى سَلَفاً كيفَ سيتحوَّل الخط الأحمرِ لسلاحٍ كيمياوي يقتلُ شعبَهُ انتقاماً من وجودِهِ وحُكمِهِ! ولتوقَّعَ تنظيم الجيش الحر، والمنفيون السوريون لِقتالِه مِن تركيا بدلاً من العراق مثلا.
وحريٌّ بنا القول: إنَّ من لا يقرأُ التاريخ جيدا سيكونُ عُرضَةً لِمُفاجآتِ عودَةِ التاريخِ بِذاتِ الأحداثِ ومِن حيثُ لايحتسِب!
الاهرام العربي