دام برس:
في مطلع شهر يوليو سنة 1944 اجتمع مندوبون من 44 دولة في فندق ماونت واشنطن في بريتون وودز بولاية نيو هامبشير، وعقدت قمة استمرت ثلاثة أسابيع تم خلالها الاتفاق على نظام جديد يهدف إلى تنظيم الإجراءات المالية والنقدية الدولية بعد الحرب العالمية الثانية. يومها كانت الولايات المتحدة مركزاً للقوة التجارية في العالم بعد أن تخطت الإمبراطورية البريطانية قبل عدة عقود، وكانت أميركا أيضاً في طريقها لأن تكون ضمن قائمة المنتصرين في "نزاع أوروبا" على الرغم من أن اقتصادها لم يتأثر إلى حد كبير بالحرب، وهكذا خضعت قمة بريتون وودز إلى هيمنة الولايات المتحدة وأنتجت تسوية وفقاً للشروط الأميركية إلى حد كبير.
وفي مثل الأسبوع الماضي قبل 70 سنة انتهت تلك القمة المصيرية، وكانت اللحظة التي ضمن فيها الدولار سيادة لا جدال فيها، ومنذ ذلك الوقت ظلت التجارة العالمية تتم إلى حد كبير بالدولار، وكانت الدول القيادية تحتفظ بالعملة الأميركية على شكل احتياطيات رئيسية. النظام ذاته يظل من دون تغير أو تأثر اليوم، مع احتفاظ التسويات التجارية على صعيد العالم بتعامل مع النظام المصرفي الأميركي، حتى مع عدم وجود علاقة للأطراف المعنية بالولايات المتحدة.
وفي غضون ذلك، يستمر تعضيد هيمنة الدولار من خلال عمليات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ومقرهما طبعاً في واشنطن– تأسسا خلال قمة بريتون وودز– كما أن الولايات المتحدة تسيطر عليهما على الرغم من بعض الشكليات الفرانكوفونية.
وضع العملة الاحتياطية
المزايا التي أسبغها هذا النظام على الولايات المتحدة كانت هائلة، ويولد "وضع العملة الاحتياطية" درجة ضخمة من الطلب على الدولار من الحكومات والشركات في شتى أنحاء العالم، بسبب الحاجة إليه في الاحتياطيات والتجارة، وقد سمح ذلك للإدارات الأميركية المتعاقبة بالإنفاق من سنة إلى أخرى بقدر يفوق ما يتحقق عبر الضرائب والصادرات.
وبحلول مطلع السبعينيات من القرن الماضي ترسخت هيمنة الاقتصاد الأميركي إلى درجة دفعت الرئيس نيكسون إلى التخلي عن الإمكانية السابقة والثابتة في تحويل الدولار إلى ذهب، وهو إجراء يرقى إلى تخلف كبير في الوفاء بوعد، واستمرت الزيادة في الطلب على الدولار.
وهكذا لم تكن الولايات المتحدة تقلق إزاء أزمات ميزان المدفوعات نظراً لأن في وسعها دفع قيمة مستورداتها بالدولارات التي يستطيع مجلس الاحتياط الفدرالي أن يطبعها، وفي وسع واشنطن أن تستمر في الإنفاق كما يحلو لها مع قيام العالم بشراء المزيد من سندات الخزينة نتيجة قوة التنظيم الحتمي والسيولة الواسعة وحجم السوق بالنسبة الى ديون الولايات المتحدة السيادية.
وكما لاحظ ذات مرة بشكل مرير الرئيس الفرنسي فاليري جيسكار ديستان أن هذه "الميزة المفرطة" كانت الأساس الوطيد وراء هيمنة الولايات المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وفوق كل شيء كان وضع الدولار هو الذي سمح لواشنطن بتحقيق ما تصبو إليه، وقد مكنها من الضغط مالياً على دول متمردة عن طريق صندوق النقد الدولي في حين كانت تعمل على تمويل حروب خارجية، وطوال الـ70 سنة الماضية استمر الدولار في الهيمنة.
وتجدر الإشارة إلى أن هذا الوضع لن يتغير في وقت قريب، ولكن مسألة حدثت على الرغم من ذلك، وهي تصور حقيقة أن وضعية الدولار كعملة احتياطية لن تستمر إلى الأبد، ويمكن أن تتأثر بصورة خطيرة، وفي الأسبوع قبل الماضي– وبعد 7 عقود على قمة بريتون وودز– عقدت حكومات البرازيل وروسيا والهند والصين مؤتمراً في مدينة فورتاليزا في البرازيل من أجل إنشاء بنك جديد للتنمية يهدف إلى منافسة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
كان بروز مجموعة البريكس– البرازيل وروسيا والهند والصين– واضحاً منذ زمن بعيد، وقد تصاعد إجمالي إنتاج تلك الدول السنوي في السنوات الأخيرة ليصل إلى مستويات مذهلة بلغت 29.6 تريليون دولار (17.3 تريليون جنيه إسترليني) في السنة الماضية... وهو رقم يقارب إلى حد كبير الرقم الذي حققته الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي معاً.
وبحسب أرقام البنك الدولي كان الناتج المحلي الإجمالي الأميركي 16.8 تريليون دولار، وبلغ الناتج المحلي الإجمالي في الصين 16.2 تريليون دولار، وهي حصيلة تمكن بكين من إزاحة واشنطن عن مركزها الريادي. وقد أصبح ميزان القوة الاقتصادية العالمية على حافة السكين، ويكاد الغد أن يحل اليوم.
أهمية دول البريكس
إضافة إلى ذلك لدى دول البريكس ما يزيد على 50 في المئة من احتياطي العالم من العملات، ويرتفع الرقم إلى نحو ثلاثة أرباع إذا أخذنا في الاعتبار الأسواق الناشئة بشكل إجمالي، من جهة أخرى تسيطر مجموعة الـ7 الكبار على 20 في المئة فقط من تلك العملات، وعلى أقل من 8 في المئة إذا استثنينا اليابان.
وعلى أساس تلك الميزانيات فإننا نشهد في الوقت الراهن تغيرات تأسيسية، وبنك التنمية الجديد الخاص بدول البريكس– والمبني على الهيكلة التي يتبعها صندوق النقد الدولي– سوف يتمتع باحتياطيات متوافرة من العملات تصل إلى 100 مليار دولار لإقراضها إلى شتى دول العالم، ويعطي البلدان المدينة المحتاجة بشدة بديلاً لما يعرف باسم "إجماع واشنطن".
كانت دول البريكس تسهم منذ زمن بعيد في تمويل صندوق النقد الدولي، وعلى الرغم من ذلك ظلت محرومة من تحقيق نفوذ إضافي إزاء مصير تلك الأموال، وعلى سبيل المثال فإن لدى بلجيكا كمية من الأصوات أكثر من البرازيل، ولدى كندا كمية تفوق ما لدى الصين.
الدور الأميركي المعطل
وقد أخفقت المؤسسات التي تحكم الاقتصاد العالمي في مواكبة الواقع، كما أن الإصلاحات المتواضعة التي تعطي الأسواق الناشئة الكبيرة المزيد من القوة والنفوذ، والتي تم الاتفاق حولها في سنة 2007 ومن جديد في سنة 2010، قد تعطلت بسبب مواقف المشرعين في الولايات المتحدة، وهكذا عمدت دول البريكس إلى تأسيس مصرفها المنافس الذي سوف يتخذ من شنغهاي مقراً له.
يتوقف العامل الرئيسي في مستقبل الدولار الأميركي على وضعية البترودولار، وما إذا كان سوف يستخدم في تجارة النفط والسلع الأخرى الريادية، وهنا أيضاً يمضي التغيير على قدم وساق، ويعني تعطش الصين الشديد إلى الطاقة وازدياد تركيز الولايات المتحدة على الإنتاج المحلي أن أيام الطاقة المسعرة بالدولار تبدو معدودة. كما أن بكين أبرمت عدة اتفاقيات مع البرازيل والهند لتجاوز الدولار، وأقامت روسيا والصين أيضاً مبادلات بالروبل واليوان من أجل إنهاء دور الدولار وإخراجه من الصورة، ولكن إذا تخلت الصين، وهي أكبر مستورد للطاقة في العالم، وروسيا التي تعتبر أكبر دولة منتجة للطاقة في العالم، عن تسعير الطاقة بالدولار فإن وضع احتياطي العملة في الولايات المتحدة قد ينحل، ويمكن أن يفضي ذلك إلى تقويض سوق سندات الخزينة الأميركية، وأن يعقد بصورة خطيرة قدرة واشنطن على تمويل ديونها الضخمة البالغة 17.5 تريليون دولار.
في شهر مايو الماضي وقعت بكين وموسكو عقداً ضخماً لإمداد الغاز لعدة عقود من الزمن، إلى جانب اتفاق مماثل لإمداد النفط تم توقيعه في سنة 2009. يذكر أنه ما من أحد يعرف كم هي نسبة اليوان–الروبل في هذه العملية كما حرصت الأوساط الرسمية في موسكو وبكين على عدم الإفصاح عن ذلك الجانب، وتعتبر هذه المسألة واحدة من أكثر القضايا الدبلوماسية أهمية في الوقت الراهن.
وفي الفترة الحالية، وعلى الرغم من أن شركاء روسيا في التصدير يستخدمون الروبل في العمليات التجارية في بعض الأوقات، فإن معظم العمليات التجارية بين الصين وروسيا لا تزال تتم بالعملة الأميركية، ولكن الاتفاق الجديد المتعلق بالغاز، والعقوبات الغربية على روسيا دفع موسكو وبكين إلى تسريع الجهود الثنائية الرامية إلى تسهيل تسويات واسعة النطاق بعيداً عن الدولار.
ومع احتمال تشديد العقوبات الغربية على روسيا من جديد في أعقاب إسقاط الطائرة الماليزية فوق أوكرانيا قبل أيام قليلة، فإن ردة فعل بكين سوف تخضع لتمحيص دقيق، وأنا أتوقع عدم صدور الكثير من جانب الصين إلى أن يتبين من الذي أسقط طائرة الركاب الماليزية والدافع وراء ذلك العمل، وعلى الرغم من أن وضع الدولار كعملة احتياطية لن ينتهي بين عشية وضحاها، فإن نظام الدفع العالمي يتحرك بسرعة جلية في ذلك الاتجاه. وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن العملة الأميركية شكلت 33 في المئة فقط من كل موجودات القطع الأجنبي في سنة 2013– بحسب أرقام صندوق النقد الدولي– منخفضة عن 55 في المئة في سنة 2001.
بروز «سلة عملات احتياطية»
خلال ما يقارب العقد من الزمن قد تبرز "سلة عملات احتياطية" مع قيام البنوك المركزية بالاحتفاظ بالثروات في خليط من الدولار واليوان والروبية والريال والروبل، إضافة إلى المعادن الثمينة أيضاً، وربما تظهر حزمة تركيبية من العملات الريادية العالمية مع التركيز، بعد سنوات من طباعة الغرب للعملات، على أصول مدعومة بالسلع والمواد الأخرى الملموسة والحقيقية.
وأنا أعتقد أيضاً أن البنوك المركزية قد تعمد إلى تضمين عملات سبرانية (مثل البيتكوين) في احتياطياتها، وإذا كنت ترى في ذلك ضرباً من الجنون فعليك أن تفكر في أن البشرية كانت تسعى منذ القديم إلى الأشياء النادرة– سواء أكانت المحار والأحجار أو العناصر المعدنية– من أجل تخزين الثروة، وقد انتهى محظور طباعة النقود الآن عبر جيل آخر، ومن المنطقي أن استخدام الحساب الحاسوبي المعقد من أجل ضمان وجود كمية معينة من العملات فقط، ويمثل وضع الدولار مسألة كبيرة، والحكم على الحصيلة أشبه بالتحديق في النجوم بقدر يفوق الاقتصادات العلمية، ولكن تأسيس بنك التنمية من دول "البريكس"، والذي يتصادف مع ذكرى بريتون وودز، يمثل خطوة بارزة وجريئة، كما أن دول العالم الناشئة العملاقة أصبحت تضغط بقوة على الغرب.