Logo Dampress

آخر تحديث : الخميس 28 آذار 2024   الساعة 15:51:17
دام برس : http://alsham-univ.sy/
دام برس : http://www.
ماذا تعلم عن روسيا ؟ الجزء الثاني -2من 2
دام برس : دام برس | ماذا تعلم عن روسيا ؟ الجزء الثاني -2من 2

دام برس:

العلاقات الروسية الصينية:

بعد إنهيارِ الإتحاد السوفياتِي، ركّزتْ روسيا سياستها الخارجيةَ بشكل رئيسي على العلاقاتِ بالغربِ وعلى دخول "البيت الأوروبي المشترك" مَتجاهلة علاقاتَها السابقة مَع جيرانِها الآسيويين. ولكن بسبب التجاهل الغربي المتعمد و المصود منه إضعاف روسيا وبضغط من المخابرات الروسية والمجمع الصناعي ـ العسكري الروسي بدأت الحكومة الروسية في تغيير موقفها وتوجهاتها خاصة مع وصول فلادمير بوتين إلى الحكم. وكانت أول إشارة بعث بها بوتين إلى الغرب هو زيارته للصين في بدايات عهده ـ في تموز/ يوليو 2000 ـ وسعيه لتمتين العلاقات الصينية الروسية. إن مغزى زيارة بوتين هذه أن روسيا لن تسير في سياستها الخارجية على النهج الذي سار فيه بوريس يلتسين أي التوجه نحو الغرب من دون مقابل ومن جانب واحد. والواضح أن روسيا بوتين هي التي سعت جاهدة إلى ربط مصالح الصين بها خاصة في مجالي الطاقة والتسلح العسكري. وهذه السياسة الروسية جاءت بمثابة ردة الفعل على سياسة أمريكا في عزل روسيا عن الصين وربط نمو الإقتصاد الصيني بأمريكا، إذ بلغ الفائض التجاري الصيني مع أمريكا العام 2006 مقدار 230 مليار دولار، كما ربطت أمريكا إحتياجات الصين من الطاقة بدول بعيدة عن روسيا ولكنها خاضعة للنفوذ الأمريكي. وما سماح أمريكا للصين بالحصول على عقود نفط كبيرة في أفريقيا والبلاد العربية إلا دليلا على ذلك.
وهكذا فالسياسة التي إتبعتها وتتبعها الولايات المتحدة في مجال فرض سيطرتها على العالم والتحكم به وخاصة في آسيا الوسطى والشرق الأقصى في مجالات الطاقة والتوسع العسكري والنفوذ السياسي دفعت بروسيا إلى مراجعة سياستها التقليدية تجاه الصين والتي كانت تقوم على أساس الإتفاق مع أمريكا بتقييد الصين وإتقاء خطرها. فبعد زيارة بوتين إلى الصين عام 2000 قام الرئيس الصيني جيانغ زيمين بزيارة مماثلة إلى موسكو في تموز/ يوليو عام 2001، نتج عنها توقيع "المعاهدة الروسية الصينية في حسن الجوار والصداقة والتعاون". وتشكل هذه المعاهدة التي تمتد على مدى 20 سنة أول وثيقة من نوعها يجري توقيعها بين البلدين منذ عام 1950.
ومع ذلك فلا يمكن الحديث هنا عن أن الإتفاق الروسي ـ الصيني الحالي هو محور ضد أمريكا أو تكتل معاد لها كما يمكن أن يتصوره البعض. فالبلدان مازالا يسعيان للتعاون مع أمريكا ومع الغرب عموما في الكثير من المجالات الإقليمية والدولية. إن ما جمع البلدان هو الهم المشترك في التصدي للمخططات الأمريكية وليس العمل المشترك في إضعاف موقع أمريكا المتفرد بالموقف الدولي. فروسيا تخشى بالدرجة الأولى من توسع الناتو في شرق أوروبا وآسيا الوسطى والقوقاز كما تخشى من سعى أمريكا لتنفيذ برنامج الدرع الصاروخي الأوروبي. أما الصين، وإن كانت تتخوف هي أيضا من الدرع الصاروخي، إلا أن سبب إقترابها الأول من روسيا هو قلقها الشديد من معاهدة الأمن الإستراتيجي بين اليابان وأمريكا التي تنظر إليها بإعتبارها تحالفا موجها ضدها في الشرق الأقصى، كما أن الصين تحتاج إلى روسيا لتأييد موقفها تجاه تايوان وتزايد النفوذ الأمريكي في الجزيرة.
إلا أنه رغم أهمية الشراكة الروسية الصينية التي أكد عليها بوتين في قمة شنغهاي خمسة بدوشنبه في تموز/يوليو 2000 بقوله: "إن الصين حقا بالنسبة لنا شريك إستراتيجي في كُلّ مجالاتِ النشاطِ "، فإن روسيا لا تعتبر أن هذه "الشراكة الإستراتيجية" ضمان لدعمِ الصين لكُلّ سياساتِ روسيا الدولية سواء اليوم أوفي المستقبلِ، خاصة فيما يتعلق بالوقوف الجدي أمام المخططات الأمريكية. فالصين أقامت "شراكات" مع العديد مِنْ البلدانِ الأخرى ـ بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا العظمى واليابان ـ وهي لَيْسَ لديها نيةُ في تحويل هذه الشراكات إلى تحالف عسكري سياسي مَع أي واحد منهم. وهذا ما يدركه بوتين وعبر عنه بقوله في قمة شنغهاي السالفة أيضا: "إن روسيا يَجِبُ أَنْ تتكئ على جناحين: الأوروبي والآسيوي". ووضّحَ ذلك بقوله "نحن نَعْرفُ أن روسيا هي بلد أوروبي وآسيوي في نفس الوقت. لذلك فإننا نوفق بين البراغماتية الأوروبية والحكمة الشرقية. لذا فإن سياسة روسيا يَجِبُ أَنْ تكون متُوَازنَة. وبهذا المعنى فإن العلاقات مع جمهورية الصين الشعبية يَجِبُ بلا شك أَنْ تكون إحدى أولوياتنا الرئيسية".
وإذا أردنا أن نعدد أهم مجالات التقارب والتعاون الروسي ـ الصيني على ضوء المعاهدة التي تمت بينهما والتي جاءت كرد على الهيمنة الأمريكية في شرق أوروبا وآسيا الوسطى والقوقاز والشرق الأقصي، فإننا نأتي على ذكر ما يلي:

أ ـ مجالات التقارب الروسي الصيني:
1ـ الدرع الصاروخي وتوسع الناتو:
يمثل برنامج الدرع الصاروخي الذي تصر أمريكا على تنفيذه أحد أهم التهديدات المشتركة التي دفعت روسيا والصين للتقارب فيما بينهما والتعاون في القطاع العسكري وخاصة في مجال السلاح النووي. فروسيا تعتقد أن هذا النظام الأمريكي المذكور يشكل إنتهاكا صارخا للمعاهدة الأمريكية السوفييتية للدفاع المضاد للصواريخ (أي.بي.أم) الموقعة في عام 1972، كما ترى فيه تهديدا للجهود الروسية ـ الأمريكية الحالية حول معاهدة نزع السلاح الاستراتيجي (ستارت ـ 3) التي تنص على خفض الصواريخ النووية بمعدل 1500 لكل منهما. بينما تعتقد الصين أن الولايات المتحدة تهدف من وراء نظامها الصاروخي المضاد إلى إدخال مناطق من آسيا والمحيط الهادي في إستراتيجيتها الأمنية "هيمنة الطيف الشامل"، من خلال إدخال تايوان بشكل من الأشكال في النظام المذكور؛ وهذا الأمر تعتبره الصين تدخلا في شئونها الداخلية ومساسا بمبدأ الصين الواحدة. كما يتخوف البلدان من أن يعطل المشروع الصاروخي الأمريكي قوتهما للردع النووي وأن يؤدي إلى إطلاق سباق جديد للتسلح تصعب السيطرة عليه. وإضافة إلى كل ما سبق تشعر الصين وروسيا بالتهديد المباشر من جراء عمل أمريكا على توسيع الحلف الأطلسي شرقا والإستحواذ على قواعد عسكرية قريبة جدا من حدود البلدين، بما من شأنه أن يعطيها سبقا نوويا وجيوستراتيجيا على كل من روسيا الصين. وإنطلاقا من رؤية هذه الأهداف الأمريكية والمخاطر الأمنية والسياسية المترتبة عليها بالنسبة لروسيا والصين، عمل البلدان على تعزيز تقاربهما الإستراتيجي ودعم الشراكة بينهما في مجالات متعددة، خاصة بعد زوال الخلافات الإيديولوجية التي كانت تفرق بينهما وإنتهاء سياسة الوفاق الدولي بين روسيا وأمريكا.
2ـ الإستقرار الإقليمي:
إذا كانت المشاكل الحدودية بين الإتحاد السوفييتي السابق والصين الشعبية أهم أسباب نشوب الحرب التي جرت بينهما عام 1969 وإنتهت بهزيمة قاسية للصين، فإن التطلعات القومية والدينية للشعوب الموجودة على طرفي الحدود تشكل حاليا القاسم الأمني المشترك للبلدين. وهو ما جعل هذا الموضوع يحظى بإهتمام كبير في محادثات الرئيسين بوتين وزيمين، فقد أكد إعلان بكين المشترك على "ضرورة توفير الأمن والإستقرار الإقليميين" وذلك من خلال الحد من "النزعات القومية والإنفصالية والتطرف الديني وحركة الإجرام التي تتخطى الحدود". وفي هذا الباب تتفق روسيا والصين على أن تطور النزعة القومية والدينية للشعوب الاسلامية في هذه الأقاليم والجمهوريات الحدودية للبلدين تنذر بسلسلة مترابطة من المطالب والحقوق والأحداث التي قد لا تنتهي عند حد معين، بل قد تؤدي إلى تفكك البلدين إلى مجموعة من الجمهوريات على أسس عرقية وقومية ودينية. وبناء عليه فان الصين تدعم روسيا في سياستها الحديدية في الشيشان فيما تدعم هذه الأخيرة السياسة الصينية في إقليم كسينجيانج (تركستان الشرقية، الذي تسكنها أكثرية من الأويجور المسلمين المطالبين بالإستقلال عن الصين) تحت ستار الشأن الداخلي والحفاظ على الوحدة ومجابهة التحديات الاقليمية. وتبدأ هذه السياسة المشتركة بين روسيا والصين بالتعاون في مجال تبادل المعلومات والخبرات والتنسيق في المسائل الأمنية على جانبي الحدود لتنتهي بدعم كل طرف لسياسة الآخر على المستوى الرسمي في المحافل الدولية.
3ـ التعاون الإقتصادي:
ويشمل هذا الباب تعاون البلدين في شؤون التجارة عموما والطاقة والأسلحة خصوصا، حيث تعد الصين مستوردا رئيسيا للنفط والغاز الطبيعي والأسلحة الروسية بينما ترغب روسيا في أن تتاح لها فرص أفضل للدخول إلى السوق الصيني القوي الذي يبلغ حجمه مليارات الدولارات. ورغم أن نسبة التبادل التجاري السنوي بين البلدين لاتزيد على ستة مليارات دولار، إلا أن البلدين تعهدا في العام 2006 بالوصول بهذه النسبة إلى عشرين مليار دولار خلال العام 2007. وتعتبر منظمة تعاون شنغهاي إحدى أهم وسائل تقوية العلاقات الإقتصادية والتجارية بين البلدين. فهذه المنظمة التي تأسست في حزيران/يونيو 2001 بمبادرة مشتركة لتضم الصين وروسيا وكازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان تهدف بشكل معلن إلى تسهيل "التعاون في شؤون السياسة والإقتصادِ والتجارةِ، وفي المجالات التربوية والثقافية والعلمية التقنية وكذلك في مجالات الطاقةِ والنقل والسياحة وحقول حمايةِ البيئةِ". لكن الغرض الحقيقي من هذه المنظمة أن تكون تجمعا سياسيا في مجال الطاقة والمال يقف بوجه محاولات الهيمنة الأمريكية في آسيا الوسطى. وقد قام فلادمير بوتين في عهده بعدد مِنْ الخطواتِ لتَقْوِية العلاقاتِ التجارية مَع الصين في محاولة لربط إحتياجاتها النفطية بروسيا. ففي اذار/مارس 2006 ذَهبَ بوتين إلى بيكين لمُنَاقَشَة التعاونِ الثنائيِ في مجال إحتياجات الصين المتزايدة للطاقةِ. وقد كان على رأس جدول الأعمال أمنيةَ الصين بمد خط أنابيب مِنْ تايشيت في سيبيريا لجَلْب النفطِ إلى داكينغ في الصين. بالإضافة إلى ذلك وقعت شركة الصين القومية للنفط عدة إتفاقيات لمشاريعِ الطاقةِ المشتركةِ مع شركة روسنفط (Rosneft ) كما وقعت مذكّرة تفاهم مع غازبروم ( Gazprom ) لتصدير الغاز الطبيعي الروسيِ إلى الصين.
أما في مجال التعاون العسكري، فتعتبر الصين أكبر مشتري للسلاح الروسي، إذ يقدر الخبراء أن الصين تستورد أكثر من خمسين بالمائة منْ إنتاجِ روسيا العسكري. فقد سجلت أرقام مبيعات السلاح الروسي المتقدم للصين وأحجامها وأنواعها تطورا ملحوظا منذ توقيع معاهدة الصداقة بين البلدين في عام 2001. وتشمل هذه الأسلحة صواريخ أس ـ 300 المضادة للطائرات والصواريخ، وغواصات متطورة من طراز (كيلو) وقاذفات مقاتلة من طراز (سوخوي 27). كما أعطت روسيا للصين ترخيص صنع طائرات حربية من طراز سوخوي. وفي اب/أغسطس 2005 قام البلدان بأول مناورات عسكرية مشتركةِ، بل وهناك مشاريع بتدريب عناصر من الجيش الصيني في معاهد وزارة الدفاع الروسية. وقد حاولت روسيا الإستفادة من علاقاتها القوية بالهند للدعوة إلى إقامة تحالف إستراتيجي يجمعهما مع بكين للوقوف بوجه المارد الأمريكي، لكن التناقضات التي تغذيها أمريكا بين نيودلهي وبكين وإعلان أمريكا بأن الهند حليف إستراتيجي لها خاصة بعد الاتفاق النووي المشترك في العام 2006 حالت دون نجاح هذا المسعى الروسي.
4 ـ زيادة الإنفاق العسكري:
إن من نتائج التقارب بين الصين وروسيا والتعاون بينهما هو زيادة الصين في إنفاقها العسكري، وهذا أمر يقلق كثيرا الولايات المتحدة الأميركية. لقد باتت الصين اليوم تمتلك أحد أقوى الجيوش في العالم عدة وعددا، إذ وصل تعداد الجيش الصيني حوالي 3 ملايين مقاتل. كما أن الصين بدأت منذ سنوات قليلة سياسة إصلاح في الجيش تهدف إلى تحويله إلى جيش حديث من حيث التجهيز والكفاءة العملياتية، وهو مزود بتسعة آلاف دبابة وترسانة كبيرة من الصواريخ التكتيكية والبالستية والعابرة للقارات. وتركز القيادة الصينية حاليا على بناء أسطول بحري للمياه العميقة، بعد أن وصل عدد قطع الأسطول الصيني ـ حسب دراسة للمعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية في لندن ـ إلى حوالي 1200 سفينة تضم 63 غواصة و18 مدمرة وأكثر من 700 زورق صاروخي و119 كاسحة ألغام و73 سفينة إنزال برية وعشرات سفن الدعم والتموين. كما وتوجد للصين خطط لبناء حاملة طائرات وزيادة عدد غواصاتها المزودة بصواريخ نووية عابرة للقارات, أما سلاح الجو الصيني فيضم أكثر من ثلاثة آلاف مقاتلة وقاذفة من مختلف الأجيال. وتعمل المصانع الصينية على تطوير قدرة قواتها في الحرب الإلكترونية ووسائل الإتصال الفضائية، حيث أطلقت بكين عددا من الأقمار الصناعية لأغراض التجسس والإتصال والسيطرة المعلوماتية التي باتت تشكل اليوم عصب الجيوش الحديثة.
وقد كان للمناقشات التي أجرتها أمريكا مع تايوان في سنة 2006 وتخصيصها مبلغ 50 مليار دولار لعشر سنوات مقبلة بقصد تعزيز القدرات العسكرية للجزيرة، أن دفع الصين للقيام بتجربة تدمير قمر صناعي بواسطة صاروخ في 11 كانون ثاني/يناير2007. وهو ما أحدث صدى كبيرا في واشنطن التي إعتبر بعض خبرائها العسكريين أن التجربة الصينية هي بمثاية رسالة تحذير لأمريكا في حال حصول مواجهة بشأن تايوان. فهذ التجربة الأخيرة التي برهنت خلالها الصين أنها قادرة على إصابة قمر صناعي يحلق بإرتفاع 950 كلم، وهو مدى يتجاوز إرتفاع كافة الأقمار الصناعية الأمريكية العسكرية، دفع بعض المصادر الأمريكية للقول أن الصين هي من أرسلت في ايلول/سبتمبر 2006 إشعاعات "لايزر" من الأرض في إتجاه قمر صناعي أمريكي أحدثت له إرباكا في عمله. ويذهب بعض خبراء وزارة الدفاع الأمريكية إلى الظن بأن تدمير الصين لأقمار المراقبة الأمريكية سوف يكون المرحلة الأولى في هجوم صيني، تحتفظ فيه بكين بموقع أفضل لتواجه أسطولا أمريكيا أعمى. ووفقا لهذا السيناريو، فإن الصين سوف تستخدم فريقا معلوماتيا لإختراق شبكات كومبيوترات الدفاع الأمريكية وشلها، وفي نفس الوقت يقوم الجيش الصيني بنشر كمية كبيرة من صواريخ أرض ـ بحر، لمنع حاملات الطائرات الأمريكية من الإقتراب من السواحل الصينية.

ب ـ رد فعل أمريكا على التقارب الصيني الروسي:
إذا بدأنا برد الفعل الأمريكي على تدمير الصين في بداية عام 2007 لقمر صناعي مهجور كان مخصصا لرصد الأحوال الجوية الذي ذكرناه سابق، فإن وزارة الدفاع الأمريكية قد أعلنت بتاريخ 21/02/2008 عن نجاحها في إسقاط أحد أقمارها الاصطناعية التجسسية العسكرية، قالت أنه خرج عن سيطرتها، بصاروخ أطلق من سفينة تابعة لسلاح البحرية بأمر من الرئيس جورج بوش. وقد علل البنتاغون سبب ذلك بأنه كان منعا لسقوط ذلك القمر ـ الذي أطلقته في 14 كانون اول/ديسمبر من عام 2006 ـ على الأرض وتسرب محتواه إلى الغلاف الجوي وهو يحمل خزان وقود سام من مادة الهيدرازين. ورغم التفسير المعلن من قبل أمريكا لتلك العملية فقد عبرت كل من موسكو وبكين عن قلقهما من هذه العملية، وقالت وزارة الدفاع الروسية أن العملية قد تستخدم ستارا لتجربة سلاح فضائي جديد قادر على إسقاط الأقمار الصناعية، ضمن "تجربة سلاح مضاد للصواريخ". ويمكن القول أن إسقاط أمريكا لذلك القمر الصناعي هو الرد العملي على ما أقدمت عليه الصين في كانون ثاني/يناير 2007 وهو كذلك رسالة إلى روسيا في تقاربها مع الصين من أن العبرة ليس في إرسال أقمار صناعية إلى الفضاء بل في القدرة على إسقاطها من مدارها عند اللزوم أو في حالات الحرب.
إن قلق أمريكا بشأن زيادة الصين إنفاقها العسكري ينبع من خوفها أن تزداد الصين قربا من روسيا بتمكن روسيا من اغرائها لتقليل إرتباطها بأمريكا في مجالي الطاقة والنمو الإقتصادي بحيث تمكنها روسيا من الحصول على مواد تكنولوجية عالية الدقة خاصة في مجال الصناعة الحربية. فروسيا تدرك جيدا أن الصين لن تصل ـ دوليا ـ إلى التمايز السياسي عن أمريكا ما لم تعالج ضعفها الإستراتيجي في مجال تبعيتها المتزايدة للطاقة التي تحتاجها لنموها الإقتصادي وعجزها على أن تشكل قوة ردع نووي إذا ما تعرضت لهجوم نووي أمريكي أول. وفي هذا السياق تمثل منظمة تعاون شنغهاي إطارا سياسيا مناسبا يقوي من شراكة روسيا الإستراتيجية مَع الصين ويمكن الصين من سد ضعفها الإستراتيجي في مجالي الطاقة والردع النووي. ذلك أن روسيا هي القوَّةُ الباقيةُ الوحيدة التي ما زالَتْ لَها إمكانيةُ رَدْعِ عسكريِ كافيِ في ترسانتِها النوويةِ الإستراتيجيةِ، وهذه القوة تَتوسّعُ جنبا إلى جنب مع إمكانات الطاقةِ الوفيرةِ التي باتت تملكها الدولة بما يؤهلها أن تصبح قوة عالمية تكافئ التفوق العسكري والسياسي الأمريكي، إذا ما توفرت عندها الإرادة السياسية.
ولذلك تخشى أمريكا كثيرا من التقارب الروسي الصيني منذ وصول بوتين إلى الحكم عام 2000. ويبدو أن هذا التقارب سيزداد في عهد دميتري ميدفيديف الذي جعل من الصين أول دولة يزورها خارج الفضاء السوفياتي السابق. وقد كان أهم بنود هذه الزيارة التي تمت في 23/05/2008 هو ما نص عليه الإعلان المشترك الذي صدر في ختام مباحثات الرئيس الروسي دميتري ميدفيديف والزعيم الصيني هو جينتاو في بكين من أن البلدين يدعوان إلى إستخدام الفضاء للأغراض السلمية، ويشددان على أهمية الإسراع في إعداد وثيقة قانونية دولية لمنع نشر الأسلحة في الفضاء في إطار مؤتمر جنيف لنزع السلاح. و تجدر الاشارة هنا أن الصين وروسيا قدمتا في مؤتمر منظمة الأمم المتحدة الذي عقد في جنيف في شهر شباط/فبراير الماضي مشروع إتفاقية دولية جديدة لمنع سباق التسلح في الفضاء وحظر نشر جميع أنواع الأسلحة في الفضاء وليس النووية فقط. ويعتبر مشروع هذه الوثيقة التي رفضتها أميركا متذرعة بحاجتها الحيوية للأقمار الصناعية، محاولة دولية من روسيا لجر الصين معها في التصدي لرغبة أمريكا في إحياء برنامج "المبادرة الدفاعية الإستراتيجية" الذي أطلقت عليه أمريكا في ثمانينات القرن الماضي تسمية "حرب النجوم".
إلا أنه رغم هذه المحاولات الروسية لجر الصين في مخططاتها فإن أمريكا لم تغير سياستها التقليدية تجاه الصين، تلك السياسة القائمة على ركيزتين. الأولى: الفصل بين روسيا والصين والحيلولة دون بلوغ الصين مستوى الحليف الإستراتيجي لروسيا التي تعمل على ربط مصالح الصين بها مثلما تفعل أمريكا نفسها مع الصين. والثانية: الإحتواء السلبي والإيجابي للصين، فالأول يكون عبر الوجود الأمريكي في اليابان وعبر دعم أمريكا لقضايا الداخل الصيني مثل تايوان والتيبت وحقوق الانسان والديمقراطية، والثاني يكون عبر دفع الصين إلى مزيد من الإنغماس والإنخراط في القضايا الإقليمية والدولية (قضية كوريا الشمالية) (قضايا الحد من الإنتشار النووي وقضايا الطاقة والبيئة). ورغم إرتفاع بعض الأصوات في أمريكا مطالبة بالتصعيد مع الصين ووضعها على قائمة "محور الشر"، فإن أصحاب التخطيط والقرار في أمريكا ما زالوا يتمسكون بالسياسة التقليدية لأمريكا تجاه الصين. لذلك ليس مستغربا أن يدعو أحد مفكري وأقطاب السياسة الأمريكية السابقين (هنري كسينجر)، الإدارة الأمريكية إلى التفاهم مع الصين حول النظام العالمي الجديد، كون الصين أصبحت تمتلك كل مقومات الدولة العظمي، وهو بهذا يدعو إلى تفاهمات إستباقية منفردة مع دولة واحدة قبل أن تكون أمريكا مضطرة للخضوع لنظام عالمي جديد تفرضه دول متعددة وفي مقدمتها روسيا، تخسر فيه الولايات المتحدة أو تضطر للتنازل عن الكثير من "مصالحها القومية". فقد أكد هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكية الأسبق خلال محاضرته التي ألقاها في الأكاديمية الصينية للعلوم، على أن صعود الصين على المستوى العالمي أمر حتمي ليس في مقدور الولايات المتحدة فعل شيء تجاهه، مشددًا في الوقت ذاته على ضرورة ألا تفعل واشنطن أي شيء لوقف ذلك الصعود، وأن الأجدر بها أن تتعاون مع الصين لإقامة نظام عالمي جديد. وتابع قائلاً: "أنظر إلى العلاقات الصينية الأمريكية على أنها تحد لبناء نظام دولي جديد يقوم على إحترام حقوق الإنسان وعلى العمل التعاوني لتفادي كارثة" المواجهة بين البلدين و يبدو ان ما يريده كيسينجر من الادارة الامريكية ان تتعامل مع الصين لجذبها بشكل اكبر خاصة اذا ما قوي عند الصين الشعور بالعظمة لتعالج الاغراءات الروسية لها في كافة المجالات .

4 ـ الوضع الدولي لروسيا:

إن روسيا اليوم ليست هي روسيا التي كانت في عام 1991 بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي، يومها كانت تستجدي المعونات من صندوق النقد الدولي لدعم إقتصادها "الرأسمالي" الوليد، وكانت تقدم التنازلات الإستراتيجية ليس على مستوى العالم فقط بل في مجالها الحيوي الذي دافع عنه قياصرة الروس من قبل وجود الدولة الشيوعية نفسها. كما أن المكانة الدولية لأمريكا اليوم ـ رغم إستمرار تفردها بالموقف الدولي ـ لم تعد هي نفسها كما كان عليه الحال عند إعلان جورج بوش الأب في زهو وتكبر عام 1991 عن ميلاد النظام العالمي الجديد. وقد كان لافرازات تدخل امريكا في قضايا دولية عديدة و ما اصبح عليه حال الراي العام المناهض لسياساتها في كثير من الدول اثر في تحريك الرغبة والإرادة لدى روسيا بقيادة بوتين في إستعادة موقعها كقوة دولية عظمى تزاحم أمريكا في الساحة الدولية. فإما أن تنجح روسيا في زعزعة مكانة أمريكا كخطوة أولى قبل إزاحتها وإما أن تقبل بها أمريكا شريكا دوليا حقيقيا وليس صوريا في إدارة شؤون العالم أو على الأقل بعض شؤونه مع إعترافها بالمجال الحيوي لروسيا.
إلا أن مزاحمة روسيا لأمريكا في الموقف الدولي ليس أمرا سهلا ولا سريع الإنجاز. ذلك أن الحصار الجيوستراتيجي (توسع الناتو شرقا) والحصار العسكري (مشروع الدرع الصاروخي) الذي تفرضه أمريكا ولازالت على روسيا قد وضع موسكو في مأزق كبير: فإما أن تفك هذا الحصار بالتصدي الجدي له وإما أن تعتبره أمرا واقعا وتتكيف معه وتكتفي من حين لآخر بإصدار إحتجاجات لفظية لا ترقى إلى مستوى تصرفات الدول الكبرى ومن باب أولى أن لا تحدث أي تهديد فعلي لأمريكا أو مصالحها أو مصالح حلفائها الأوروبيين. والظاهر أن التهديدات الروسية الأخيرة والسابقة بإستعمال قدراتها العسكرية للتصدي لمنظومة الدفاع الصاروخي الذي تعتزم أمريكا نشرها في بولندا والتشيك، وإن كانت تعبر فعلا عن ضيقها من الحصار الأمريكي المفروض حولها إلا أنه لا يمكن القول أن روسيا لا تسعى للوقوف بوجه أمريكا؛ وإن كان هذا السعي يتم بخطى بطيئة بسبب الجو الدولي الذي شحنته أمريكا ـ وأوروبا الغربية من ورائها ـ بشعارت الحرب على الإرهاب وحقوق الإنسان والحريات العامة وإقتصاد السوق.
أما الدلائل على صحوة الدب الأبيض فإن روسيا اليوم قد تجاوزت مرحلة التيه التي نتجت عن سقوط الإتحاد السوفياتي وحكم بوريس يلتسين. وهي اليوم ـ وبعد ثماني سنوات من حكم بوتين ـ قد نجحت في ترتيب شؤونها الداخلية وظهر ذلك خاصة في القضاء على عملاء الغرب وعودة هيبة الدولة والتحكم بثرواتها القومية ونشاط الماكينة العسكرية الروسية. ولقد جاء خطاب بوتين السنوي للبرلمان في 10/05/2007 ليؤكد على تحول روسيا من مرحلة "الإصلاح والتطهير" لما أفسده بوريس يلتسين، الذي تزامن إعلان موته مع خطاب بوتين، إلى مرحلة "التنمية والتنافس". لقد طالب بوتين في خطابه أن تسعى روسيا لتحقيق الأمور التالية حتى تتكمن من النجاح في تحقيق التنمية الداخلية والتنافس الدولي:
1 ـ التوجه نحو إقتصاد المعرفة بإعتباره هدفا إستراتيجيا للتنمية الإقتصادية.
2 ـ التركيز على اللغة الروسية والقيم التقليدية لروسيا كمناوئ لمن له ميول غربية.
3 ـ تسخير جزء من إيرادات النفط لحل القضايا الاجتماعية وخاصة التراجع في حجم السكان.
4 ـ تعظيم دور الدولة في الإقتصاد بإعتبارها "مستثمرا حكوميا" ممثلا بعدد من الشركات الوطنية.
5 ـ إستمرار العمل في إنشاء نظام سياسي جديد يعتمد على القوى السياسية التي تقبل مبادئ السياسة الجديدة. أما القوى التي ترفض ذلك فسوف يتم تقييد نشاطها السياسي ولن يسمح لها بدخول المؤسسة الحاكمة.
6 ـ مراجعة روسيا لعلاقاتها مع الغرب وبلدان الجوار إدراكا منها أن الضغط الخارجي عليها قد يكون عاملا دائما.
وهكذا بعد أن حصنت روسيا نفسها من الغزو الداخلي بالقضاء على المافيات السياسية والمالية ذات الإمتدادات الخارجية وبعد أن رتبت شؤون بيتها ببناء قاعدة شعبية (كسب الرأي العام الداخلي لصالح سياسات بوتين وجماعته) وسياسية (نجاح حزب "روسيا الموحدة" الداعم لبوتين في الإنتخابات البرلمانية والرئاسية) وإقتصادية (التحكم بالثروة القومية ودعم الرأسمال الوطني)، وهذه أمور لازمة للنهوض والتنمية، بعد كل هذا قام بوتين بسلسلة من الإجراءات والتحركات الدفاعية للوقوف بوجه سياسةَ أمريكا الواضحةَ جداً في تَطْويق وإضْعاف روسيا، كما إتخذ بوتين مواقف سياسية تصاعدية علنية ضد النهج الأمريكي في الهيمنة على العالم والإستفراد بحل الأزمات الدولية. وقد إرتكز بوتين في العودة بروسيا إلى الواجهة الدولية من جديد على أربعة ركائز هي، تقوية الوضع الداخلي والتقارب مع الصين ووضع سياسة عسكرية جديدة والتحكم بعماد الثروة القومية أي النفط. وقد تناولنا فيما سبق الركيزتين الأوليتين (إصلاح الوضع الداخلي والتقارب مع الصين) وسنعمد الآن إلى معالجة الركيزتين الأخيرتين (وضع سياسة عسكرية جديدة والتحكم بالثروة النفطية) الذين مكنا وسيمكنان روسيا على المدى الطويل من الوقوف الجدي بوجه أمريكا ومشاريعها الإقليمية والدولية.

أ ـ السياسة العسكرية:
بعد إنهيار الاتحاد السوفييتي مارست الولايات المتحدة بقيادة جورج بوش الأب ضغوطا بالغة الشدة على روسيا لإجبارها على الإلتزام بخفض تسلحها النووي (إتفاقية ستارت ـ 2) وضمان عدم تسرب العلماء والتكنولوجيا والمواد النووية من روسيا (وبقية الجمهوريات السوفييتية السابقة) إلى دول أخرى، وخاصة إلى تلك التي تسميها أمريكا بالدول المارقة أو محور الشر. كما قامت أمريكا بالضغط السياسي على روسيا من أجل إجبارها على سحب قواتها العسكرية وإغلاق قواعدها من دول حلف وارسو السابق بأسرع ما يمكن. وعندما جاءت إدارة كلينتون الديمقراطية إلى الحكم واصلت ما بدأه الجمهوريون من سعي حثيث لتوسيع حلف الناتو بإتجاه الشرق، وهو ما تم في سياقه إلتحاق التشيك والمجر وبولندا بالحلف. كما واصلت إدارة كلينتون جهود إدارة بوش الأب في السعي إلى عزل روسيا ليس فقط عن دول أوروبا الشرقية بل وأيضا عن الجمهوريات السوفييتية السابقة في البلطيق والقوقاز وآسيا الوسطى. وكان طبيعيا أن تؤدي محاولات عزل روسيا وإضعاف مكانتها الدولية والإقليمية والتدخل في شؤونها الداخلية إلى شعور عميق بجرح الكرامة القومية لدى أغلبية الروس، وخاصة في صفوف المؤسسة العسكرية وقطاع واسع من النخبة السياسية.
وهكذا بدأت تتصاعد في موسكو خلال السنوات الأخيرة من حكم يلتسين الدعوات إلى وقف تبعية روسيا للولايات المتحدة بل وتعالت الأصوات بتحدي محاولات أمريكا للهيمنة على العالم تحت إسم النظام العالمي الجديد. وعندما وصل بوتين إلى الحكم، بعد أن عقد صفقة مخابراتية مع يلتسين، وجد الأجواء الداخلية في روسيا مهيئة لإتخاذ مواقف وتصورات أكثر وضوحا تجاه المصالح الإستراتيجية لروسيا عما كان عليه الحال أيام يلتسين. وهنا تزايدت المطالبات في روسيا بإعادة النظر في دور القوات المسلحة كلها، وتعديل مخططات ومسارح العمليات، وإقامة بنية تحتية عسكرية إضافية، بل وإعادة نشر قوات عسكرية كبيرة على أطراف الإتحاد السوفياتي السابق. وبعبارة أخرى شجع وصول بوتين إلى الحكم "الصقور" في روسيا سواء كانوا من السياسيين أو من العسكريين أو من الخبراء على مطالبة الرئيس الجديد‏ بعسكرة السياسة الروسية وإعادة توجيهها نحو المجابهة مع أمريكا أو على الأقل التصدي لها وللغرب عموما تحت شعار "الدفاع عن المصالح القومية لروسيا العظمى".
ومما ساهم في غلبة الإتجاه القومي الوطني على الصعود أنه منذ إنهيار الإتحاد السوفيتي في 1991، وترسانة روسيا الإستراتيجية النووية في تدهورَ حاد مقارنة بسعي أمريكي حثيث لتحقيق سبق نووي عالمي من خلال برنامج الدفاع الصاروخي (الطبعة الجديدة من مشروع حرب النجوم الريغاني). كما أن حصّة روسيا في الميزان الكلي للتسليح في أوروبا قلت بمقدار أربع مرات عما كانت عليه أيام الاتحاد السوفييتي. فقبل تفتت هذا الإتحاد بقليل كانت قوة روسيا حتى عام 1989 تفوق ثلاث مرات قوة حلف شمال الأطلسي، أما بعد ذلك فقد وصل الحال بروسيا عام 2003 أن تشتري من أوكرانيا مفجّري قنابل إستراتيجية وصواريخ بالستية عابرة للقارات. هنا أدركت كل من وزارة الدفاع الروسية وقيادة الأركان العامة أن إهمال القوى النووية والسير في بناء قوى تقليدية وإن كانت كبيرة بحجة ترشيد الميزانية أمر لا يخدم أبدا مصلحة الأمن القومي الروسي.
ومنذ ذلك الحين، أعطت روسيا أولويتها القصوى لإعادة بناء قواتها النووية الإستراتيجية، وساعدها في ذلك إرتفاع مداخيلها مِنْ صادراتِ الغازَ والنفطَ، بعد أن بات المصرف المركزي الروسي أحد أكبر خمس بنوك مركزية في العالم يحتفظ بالدولارِ، بإحتياطيات تفوق أكثر مِنْ 270 بليون. كما أن صادرات الأسلحةِ، بالإضافة إلى النفطَ والغازَ، تعتبر أحد أفضل الطرقِ لروسيا في كَسْب العملة الصعبةِ المطلوبة بشدّةِ لإقتصادها القومي وأمنها الإستراتيجي؛ إذ تحتل روسيا الآن مرتبة ثاني أكبر مصدّرِ عالميِ للتكنولوجيا العسكريةِ بعد الولايات المتّحدةِ. ولذلك ورغم أن الجيش الروسي وقواته الجوية والبحرية تعرضت للإهمال بعد سقوط الإتحاد السوفياتي إلا أن عناصر النهوض العسكري لروسيا ما زالت موجودة. فروسيا لم تتوقف أبدا ـ بعد سقوط الإتحاد السوفياتي ـ عن إنتاج أحدث التقنياتِ العسكريةِ التي تقدمها في معارضِ التجارة الدوليةِ المُخْتَلِفةِ، رغم الصعوباتِ الماليةِ والإقتصاديةِ التي مرت بها سابقا. وبعبارة أخرى فإن روسيا لا زالت تملك تكنولوجيا المعرفة الخاصة بإنتاج وتصنيع الأسلحة بكل أنواعها.
وهكذا وبناءا على وعي روسيا لواقعها العسكري، وبعد ثلاث سنوات من حكم فلادمير بوتين، طالب هذا الأخير في خطابه للبرلمان عن حالة الأمةِ في ايار/مايو 2003، بوجوب تَقْوِية وعَصْرَنَة رادعِ روسيا النووي بإنتاج أنواعِ جديدةِ مِن الأسلحةِ، خاصة منها الإستراتيجية، بما يضْمن "قابلية الدفاعَ عن روسيا وحلفائها في المدى البعيدِ". كما توقّفت روسيا عن سحب و تدمير صواريخ إس إس ـ 18 مرفيد ( SS-18 MIRVed )، ما أن أعلنتْ إدارة بوشَ ـ من طرف واحد ـ نهاية إلتزامها بمعاهدة منع إنتشار الصواريخ البالستيّةِ وإلغاءها بحكم الأمر الواقع معاهدة (ستارت 2) الخاصة بتخفيضِ الأسلحةِ الإستراتيجيةِ. بل وأعلنت روسيا تراجعها عن الإلتزام بهذه المعاهدة وإيقاف التفاوض حول (ستارت ـ 3) الخاصة بتقليص التسلح النووي. ويذكر هنا أن مصادقة البرلمان الروسي على معاهدة (ستارت ــ 2) في ربيع عام 2000، قد ربط بوتين ـ بعيد وصوله للحكم ـ البدء في تنفيذها بإلتزام الولايات المتحدة بالتوقف عن مشروعها في إقامة درع الصواريخ المضادة للصواريخ النووية. لقد أدرك بوتين وجماعته أن هدف أمريكا من الانفاق الهائل في البلدان المحيطة بروسيا التي تعتبر القلب النابض لأوراسيا ليس فقط للسيطرة على النفط بل أيضا وهذا الأهم تحويل روسيا ـ بشكل دائم ـ إلى دولة ضعيفة والتحكم بوصولها إلى البحار وإلى الصين.
وتوالت بعد ذلك توجيهات بوتين بضرورة أن يكون الجيش الروسي "قادرًا تمامًا على الرد على نحو ملائم على التهديدات المعاصرة"، بحيث وكما قال ـ في خطابه السنوي للبرلمان عن حالة البلاد في ايار/مايو 2006 ـ "ينبغي أن نكون قادرين على رد أية محاولات من أي شخص لفرض ضغوط على روسيا في شؤون السياسة الخارجية، لتعزيز مواقفهم على حسابنا". ومع ذلك فقد أكد بوتين أن روسيا "لن تكرر أخطاء الاتحاد السوفيتي السابق بالإسراف في الإنفاق على الجيش على حساب قطاعات الإقتصاد الأخرى"، . وهذا يعني أن روسيا وعت تماما الفخ الإستراتيجي الذي وقع فيه الإتحاد السوفياتي عندما تسابق مع أمريكا في مشروع حرب النجوم إبان حكم ريغان، وهي لن تكرر الخطأ نفسه. فقد صرح بوتين في مقابلة أجرتها معه وسائل إعلام من مجموعة الدول الثماني الكبرى قبل إنعقاد قمة المجموعة قائلا: "أنا ضد أي سباق للتسلح. لقد إستفدنا من تجربة الإتحاد السوفيتي ولن ننجر إلى سباق التسلح الذي يفرض علينا. سنرد بطرق ووسائل أخرى لا تقل فعالية. وهذا ما يسمى بالرد غير المماثل". وأكد أن روسيا ستقوم ببناء منظومات أخرى أقل تكلفة ولكنها تتمتع بما يكفي من الفعالية لتجاوز منظومات الدفاعات المضادة للصواريخ لتحافظ بهذا الشكل على توازن القوى في العالم. وشدد على أن روسيا ستواصل السير على هذا النهج في المستقبل أيضا.
أما أهم "الإجراءات الملائمة" التي إتخذتها أو ستتخذها روسيا إذا ما سارت أمريكا في نشر عناصر النظام الدفاعي الصاروخي الأمريكيِ الجديدِ في بولندا والتشيك، فيمكن ذكر الإجراءات التالية:
1 ـ قامت روسيا بزيادة ميزانيتها الدفاعية بشكل كبير، وساعدها في ذلك إرتفاع مداخيلها من تصدير النفط و الغاز . ويتوقع لهذه الميزانية أن تقفز بنسبة 23 في المئة خلال العام 2007 وما يليه لتصل إلى 32.4 مليار دولار، محققةً بذلك إرتفاعاً قياسياً في الإنفاق الدفاعي في حقبة ما بعد الاتحاد السوفييتي.
2 ـ كشف وزير الدفاع الروسي سيرجي إيفانوف ـ في مستهل شباط/فبراير 2007 ـ النقاب عن برنامج لإعادة تسليح وتحديث القوات المسلحة الروسية، تصل تكاليفه إلى 189 مليار دولار، ويتم من خلاله إستبدال نصف كمية المعدات والأسلحة الروسية الحالية في موعد لا يتجاوز عام 2015. ومن ضمن المعدات التي ستحصل عليها تلك القوات شبكة رادار للإنذار المبكر مجددة بالكامل، وصواريخ جديدة عابرة للقارات، وأسطول من قاذفات "تي يو- 160" الإستراتيجية الأسرع من الصوت و31 سفينة جديدة من بينها حاملات طائرات.
3 ـ عرض الرئيس السابق بوتين ـ في شهر كانون ثاني/يناير 2007 ـ على الهند الدخول في شراكة لإنتاج نسخة المستقبل من "الجيل الخامس" من الطائرات المقاتلة التي يعكف المصممون الروس على تطويرها في الوقت الراهن، والتي يمكن أن تصبح جاهزة للطيران خلال فترة وجيزة لا تتجاوز عام 2009. وأمريكا هي الدولة الوحيدة حالياً التي تمكنت من نشر طائرات مقاتلة نفاثة من هذا الجيل الأسرع من الصوت والأغلى سعراً في العالم ، والتي تتميز بقدرات فائقة في مجال التخفي والمناورة وقدرات الكشف الإلكتروني. وتبلغ قيمة الطائرة الواحدة والتي يطلق عليها إسم "إف/ آيه 22 رابتور" مقدار 260 مليون دولار.
4 ـ وزيادة على رفع ميزانية الدفاع وتحديث أسلحة الجيش وإنتاج جيل جديد من الطائرات المقاتلة ذكر فلادمير بوتين في مؤتمر صحفي عقده في كانون ثاني/يناير 2007 أن "روسيا لا تخشى منظومة الدفاع الصاروخي الأميركية، لأن منظومة الصواريخ الباليستية الروسية العابرة للقارات الجديدة من طراز (توبول- إم) تتمتع بقدرات هائلة على التخفي تمكنها من إختراق الدرع الصاروخي الأميركي، وأن روسيا تعمل على إنتاج جيل جديد من تلك الصواريخ قادر على جعل منظومة الدفاع الصاروخي الأميركية عاجزة".
5 ـ هدد الرئيس السابق فلاديمير بوتين في المقابلة التي تمت مع عدد من الصحفيين الأوروبيين قبيل قمة الثمانية بتوجيه صواريخ روسية تجاه أهداف في أوروبا في حال إستمرار الولايات المتحدة ببناء نظام الدرع الصاروخي في دول أوروبية. فقد نقلت صحيفة كورييري ديلا سيرا ـ وهي كبرى الصحف الإيطالية ـ عن بوتين قوله "إذا إتسعت القدرات النووية الأميركية عبر أراض أوروبية فسنحدد أهدافا جديدة لنا في أوروبا. وعلى قادتنا العسكريين تحديد هذه الأهداف وكذلك الإختيار بين الصواريخ البالستية والصواريخ العابرة للقارات".
6 ـ أعاد الأسطول البحري الحربي الروسي ـ بعد إنقطاع طويل ـ تواجده الدائم عبر المحيطات من خلال تنفيذ رحلات للقطع البحرية الروسية إلى شمال شرقي المحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط. والهدف من هذه الرحلات، كما أعلن عن ذلك وزير الدفاع الروسي أناتولي سيرديوكوف في تقرير قدمه للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، هو "تأمين التواجد البحري العسكري الروسي الدائم وتوفير الظروف الأمنية لملاحة السفن الروسية"،. وفي أواسط اب/أغسطس من العام 2007 استأنف سلاح الطيران البعيد المدى الروسي طلعاته الإستراتيجية للقاذفات العملاقة القادرة على حمل أسلحة نووية بهدف القيام بالدوريات الجوية في مناطق العالم النائية عن روسيا والتي انقطعت في التسعينات من القرن الماضي.
7 ـ إيقاف روسيا بتاريخ 12/12/2007 العمل بإتفاقية القوات التقليدية في أوروبا الموقعة رسميا في باريس في 19 تشرين ثاني/نوفمبر 1999 من قبل الدول الأعضاء في حلفي وارسو والأطلسي؛ وهو مّا يوجّه ضربة قاسية للتحكّم في التسلّح في أوروبا. وقد نص الإعلان الروسي على تطبيق قرار التعليق بسبب ما وصفته القيادة الروسية "بالظروف الاستثنائية التي تؤثر على الأمن القومي وبشكل يتطلب إتخاذ إجراءات فورية". وهذا فيه إشارة واضحة إلى برنامج الدرع الصاروخي الذي تعمل الولايات المتحدة على إقامته في بولندا والتشيك، بعد أن إنسحبت أحاديا من إتفاقية حظر الصواريخ البالستية التي تمنع كلا من روسيا والولايات المتحدة من إنشاء أنظمة دفاعية جديدة.
8 ـ أما أهم إجراء أو بالأحرى إختبار نوايا وفضح لمخططات أمريكا من وراء الدرع الصاروخي فهو ما أعلن عنه بوتين نفسه في قمة الثمانية بمنتجع هايليغيندام في ألمانيا. فقد عرض بوتين (رغم إدراكه أن أمريكا لن توافقه على ذلك) إقامة قاعدة رادار أميركية روسية مشتركة في منطقة غابالي بأذربيجان لتطوير درع صاروخية يمكن أن تغطي كل أنحاء أوروبا. وقال الرئيس بوتين في ختام لقائه مع بوش على هامش القمة: "إتفقتا مع جورج بوش على أن يباشر خبراء من البلدين العمل في هذا المجال في أسرع وقت ممكن. وستزيل مثل هذه الخطوة ضرورة نشر منظومات الصواريخ الروسية الضاربة قرب الحدود الأوروبية، ونشر عناصر من المنظومة الأمريكية للدفاعات المضادة للصواريخ في الفضاء. وآمل أن لا تستخدم هذه المحادثات كستار لبدء خطوات أحادية الجانب". وقد أكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مجددا على هذا المعنى في ختام لقاء قمة جمعه مع نظيره الأميركي جورج بوش في منتجع سوتشي الروسي على البحر الأسود معارضة روسيا للدرع الصاروخية الأميركية، لكنه أبدى إهتماما بمنظومة دفاع صاروخي تشارك فيها موسكو وأوروبا وواشنطن. وجاء في بيان مشترك للرئيسيين أن الجانبين إتفقا على "إطار إستراتيجي" للتعاون، وأن روسيا تشاطر الولايات المتحدة "الاهتمام بإنشاء نظام رد" على تهديدات الصواريخ، وتحدث بوتين عن شراكة روسية أميركية أوروبية محتملة في هذا المجال.
9 ـ وبالإضافة إلى كل الإجراءات السابقة قامت روسيا منذ وصول فلادمير بوتين إلى الحكم بتعديل عقيدتها الأمنية التي باتت تتيح لها حق إستخدام السلاح النووي تحت أي ظرف وليس فقط عند الضربة النووية الشاملة. فوثيقة الأمن القومي التي أعدت في عهد بوتين عام 2000 تسمح باستخدام القوة النووية ضد أي إعتداء، صغيرا كان أم كبيرا، حتى ولو لم يهدد وجود وكيان الدولة. كما أن هذه المهمة تتضمن الاستخدام المحدود للقوة النووية مقارنة مع الضربة النووية الشاملة ردا على أي هجوم واسع النطاق كما ورد في وثيقة 1997. ومن أهم الفقرات المتصلة بالسلاح النووي الواردة في المفهوم الجديد أن "من أولويات مهام الإتحاد الروسي توفير الرادع الذي يمنع شن أي إعتداء بما في ذلك الإعتداء النووي على روسيا وحلفائها"، كما "يجب على الاتحاد الروسي إمتلاك الأسلحة النووية القادرة على إلحاق الضرر بأي دولة معتدية أو تحالف من الدول المعتدية تحت أي ظرف كان". ولتطمين أوروبا وأمريكا أشارت وثيقة الأمن القومي الروسي إلى أن الاعتماد على السلاح النووي تحت أي ظرف يبقى إجراء مؤقتا إلى حين إستكمال جميع الخطط والإصلاحات لتطوير وتحديث القوات التقليدية...
إن كل هذه الإجراءات التي إتخذتها روسيا في عهد فلادمير بوتين أو ستتخذها في عهد ديميتري ميدفيديف لم تكن لتوجد أصلا لولا توفر الإرادة السياسية عند القادة الروس أولا وحسن التصرف في مداخيل الإقتصاد الروسي وإعادة توظيفه في مجال الأمن القومي الإستراتيجي ثانيا. وهنا يعتبر النفط من أهم الأدوات الإقتصادية والسياسية التي أحسن الروس إداراتها في معركتهم مع الولايات المتحدة.

ب ـ السياسة النفطية:
عملت الولايات المتحدة منذ أواخر التسعينات من القرن الماضي على محاولة إقصاء روسيا من مسار أنابيب النفط والغاز المتجهة غربا إنطلاقا من بحر قزوين. ولذلك وبعد إستقلال دول آسيا الوسطى عن الإتحاد السوفياتي كثفت أمريكا من حملاتها الدبلوماسية والسياسية لإقناع هذه البلدان بفتح حقولها أمام إستثمارات الشركات النفطية الغربية والأمريكية منها خاصة. ومما ساعد أمريكا على الدخول إلى هذه المنطقة هو إفتقاد أهلها بما فيها روسيا (في ذلك الوقت) إلى رؤوس الأموال والتكنولوجيا اللازمة لعمليات البحث والتنقيب عن الموارد النفطية والغازية. ويمكن إرجاع أسباب إهتمام أمريكا باعادة هيكلة وتأهيل القطاع النفطي لآسيا الوسطي وبحر قزوين إلى سببين رئيسيين. أولا: سعي الولايات المتحدة إلى تقليص إعتمادها إلى أقصى حد ممكن على النفط القادم من الخليج العربي .. ثانياً: قطع الطريق أمام روسيا في المدى المتوسط على التأثير على النفوذ الامريكي في قلب أوروبا ..

الوسوم (Tags)

روسيا   ,  

اقرأ أيضا ...
هل ترغب في التعليق على الموضوع ؟
ملاحظة : جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا علاقة لموقع دام برس الإخباري بمحتواها
الاسم الكامل : *
المدينة :
عنوان التعليق : *
التعليق : *
*
   
دام برس : http://sia.gov.sy/
دام برس : https://www.facebook.com/Syrian.Ministry.Culture/

فيديو دام برس

الأرشيف
Copyright © dampress.net - All rights reserved 2024
Powered by Ten-neT.biz