Logo Dampress

آخر تحديث : الجمعة 29 آذار 2024   الساعة 00:45:44
دام برس : http://alsham-univ.sy/
دام برس : http://www.
ما بعد النظام العالمي الأمريكي
دام برس : دام برس | ما بعد النظام العالمي الأمريكي

دام برس:

في العام 1910، اجتذبت جنازة إدوارد السابع الملك - الامبراطور البريطاني واحداً من أهم التجمعات المَلَكِية في التاريخ: ثمانية ملوك أوروبيين، امبراطور ألماني، ورثة الإمبرطوريتين العثمانية والنمسوية، أمراء من مصر والصين واليابان، إضافة إلى عشرات أمراء آخرين من دول أصغر حجماً، ووراءهم في العربات الملكية ملكات وأميرات من كل الاصناف والألوان.
كل هؤلاء ساروا وراء كفن الملك إدوارد وهو يوارى الثرى في ويندسور. وبالطبع، هم فعلوا ذلك ليس حباً بهذا الامبراطور، بل احتراماً وتقرّباً من الامبراطورية البريطانية التي كانت في ذلك الوقت الدولة العظمى الأولى في  العالم.
وهذه بدت آنذاك حقيقة راسخة.
فالنظام الدولي الذي نشأ بعد سقوط نابليون بونابرت، كان بحق نظاماً بريطانياً. إذ ترافقت الثورة الصناعية في بريطانيا مع صعود سيطرتها البحرية، وثورتها المالية، وتوسّعها التجاري، الأمر الذي حوّلها إلى قوة عظمى جديدة. ففي الفترة بين 1760 و1830، كانت المملكة المتحدة مسؤولة عن ثلثي النمو الصناعي الأوروبي. وحوالي العام 1860، وهي السنة التي تُعتبر ذروة الصعود البريطاني، كانت المملكة المتحدة تنتج 53 في المئة من حديد العالم، و50 في المئة من الفحم، وتستهلك نصف الإنتاج العالمي الخام من القطن. وعلى رغم أن عدد سكانها لا يتجاوز 2 في المئة من سكان الأرض و10 في المئة من سكان أوروبا، امتلكت المملكة المتحدة قدرات صناعية قدّرت بـ40 إلى 45 في المئة من القدرات العالمية. وفي مجال استهلاك الطاقة، كانت بريطانيا تستهلك خمس مرات أكثر من الولايات المتحدة وبروسيا، وست مرات أكثر من فرنسا، و155 مرة أكثر من روسيا. وهي وحدها كانت مسؤولة عن خمس التجارة العالمية، وخمسي السلع الصناعية، وثلث الأساطيل التجارية العالمية.

لذلك لم يكن مستغرباً أن يحتفي الفيكتوريون ببريطانيا بوصفها «مركز العالم» بالكلمات المعبّرة الآتية:
«سهول أميركا الشمالية وروسيا هي حقول قمحنا؛ وشيكاغو وأوديسا هما إهراماتنا؛ وكندا والبلطيق هي غابات خشبنا؛ أستراليا تتضمن مزارع غنمنا؛ وفي الأرجنتين والسهول الغربية لأميركا تكمن قطعان ثيراننا؛ البيرو ترسل لنا فضّتها؛ وذهب جنوب إفريقيا وأستراليا يطير إلى لندن؛ الهندوك والصينيون يزرعون الشاي لنا؛ وسكّرنا وبهاراتنا وبنّنا موجودة في الأنديز؛ إسبانيا وفرنسا هما كروم عنبنا وحوض البحر المتوسط هو حديقة فواكهنا».
الملوك والأمراء الذي ساروا وراء نعش إدوارد، فعلوا ذلك وفي ذهنهم هذه الـ«بريطانيا». ولأنهم كانوا سكرى بهذه الهيبة الامبراطورية الكاسحة، لم يلتفتوا إلى الحقيقة بأن بريطانيا كانت في حالة انحدار حقيقي، وأن 1910 كان مجرد نهاية عقد ضائع من قرن جديد ستكون فيه هذه القوة مجرد ملحق بقوة أخرى أكثر ثراء وسطوة:

أميركا.
لماذا نتذكّر حدث جنازة إدوارد الآن ؟
لأن العالم احتفل بانتهاء أول عقد من القرن الحادي والعشرين وهو لا يزال يُطل على أميركا كما أطل على بريطانيا في العقد الأول من القرن العشرين، بوصفها امبراطورية لم، ولن، تغرب عنها الشمس.
بيد أن ملوك وأمراء اليوم، كانوا مخطئين كما ملوك وأمراء الأمس. فالفجر كان كاذباً، وشمس أميركا لم تكن تشرق بل تغرب. وما شهدناه في العقد الماضي لم يكن سوى تمرين على عادة قديمة. وهذه حقيقة التقطتها «فاينشنال تايمز» في اليوم الأخير من العام 2009، حين كتبت: «من المذهل كيف أن قرناً جديداً غالباً ما يبدأ بالفعل بعد 10 أو 12 سنة من بدايته الرسمية».

سمات القرن الجديد

حسناً. القرن الحادي والعشرين بدأ بالفعل بعد عشر سنوات من بدايته الرسمية، وهو سيكرر ما حدث في 1910: وداع نظام عالمي قديم، عبر السير في ركاب جنازة حافلة. لكن هذه المرة الجنازة ستكون لإمبراطورية وليس لامبراطور!
لكن، ما سمات هذا القرن الجديد؟
مجلة الايكونوميست البريطانية الرزينة اعتادت أن تُصدِر مع نهاية كل سنة عدداً خاصاً تحاول التنبؤ فيه بما قد يحدث في العام الجديد، مستندة إلى الأرقام والوقائع.
هذه السنة أصدرت المجلة أيضاً عدداً من هذا النوع كالعادة، لكنها توجتّه باعتذار شجاع: فشلنا العام الماضي(2009) في توقع العديد من المفاجآت التي اكتسحت العالم في 2009، من انهيار البيوتات المالية الكبرى في أميركا التي يتجاوز عمر بعضها المئة عام، إلى الغزو الروسي لجورجيا، مروراً بارتفاع أسعار النفط إلى أكثر من 147 دولاراً للبرميل وفشل هيلاري كلينتون في الفوز بمنصب الرئاسة الأميركية.
لكن الصدمة الأهم بالنسبة إلى هذه المجلة التي تعتبر (ومعها «فايننشال تايمز» و«وول ستريت») الناطقة الرسمية باسم الرأسمالية العالمية، كانت فشلها في توقّع الاهتزاز العنيف بالثقة بالايديولوجيا الرأسمالية الليبرالية بعد أن أعلن فرنسيس فوكوياما إنتصارها النهائي والحاسم.
هذه النقطة الأخيرة كانت الحدث الأهم في 2009، وهي ستكون حتماً على رأس جدول الأعمال العالمي في العام  2010، جنباً إلى جنب مع  ثلاث قضايا كبرى أخرى: الأولى، طبيعة الأزمة الاقتصادية الأميركية وأبعادها ومضاعفاتها؛ والثانية، (وهي مرتبطة بالأولى) مدى قدرة الرئيس الاميركي الجديد أوباما على التصدي لهذه الأزمة الطاحنة والعمل في الوقت ذاته على ممارسة سياسة خارجية أميركية تحفظ لأميركا دورها في قمرة القيادة العالمية؛ والثالثة هي مصير العولمة في ضوء انبعاث دور الدولة مجدداً كطائر الفينيق في كل من قطاعي الاقتصاد والسياسة العالميين.
أي عالم يمكن أن يولد من تمخضات هذه القضايا الكبرى التي ستشهدها السنة الجديدة؟ وهل بات في الوسع حقاً ترقب ولادة جديدة لنظام عالمي جديد متعدد الرؤوس؟
سنأتي إلى هذين السؤالين بعد قليل. قبل ذلك وقفة أمام كل من هذه القضايا الكبرى ولنبدأ مع أزمة الرأسمالية.
في 10 كانون الثاني/يناير العام 2006، نشرت «نيويورك تايمز» رسماً كاريكاتورياً ممّيزاً، يكاد يلخّص كل أزمات  الرأسمالية النيو - ليبرالية الراهنة. في الكاريكاتور، الذي خطّه الرسام المبدع طوني أوث، تم وضع الرئيس بوش في أربعة أوضاع تحملّه مسؤولية أربع أزمات كبرى: إرتفاع حرارة الأرض بشكل خطر؛ إنتشار الحروب الأميركية في العالم؛ تزايد الهوة الاقتصادية والرقمية بين شمال غني وجنوب فقير؛ وأخيراً إعفاء أغنياء أميركا من الضرائب وزيادتها على الفقراء.
كانت هذه نبوءة فنية جميلة. إذ بعدها بعامين، نشرت تقارير دولية عدة أوضحت أن 20 في المائة من سكان العالم يفيدون من العولمة وينعمون بالسلطة والجاه والمعرفة، فيما يقذف بالـ80 في المائة الباقين إلى أشداق التهميش والأزمات النفسية والاجتماعية. وعلى مستوى دول الجنوب الفقيرة أشارت التقارير إلى أن صندوق النقد الدولي وتوابعه من شركات البذور والزراعة والأطعمة المّعدلة جينياً، يقومون بتدمير كل أسس «السيادة الغذائية» لهذه الدول لوضعها تحت رحمة سوق تنافسي لا يرحم.
وأخيراً على مستوى الجنس البشري كله، أوضحت تقارير تلك السنة أن كل (أو معظم) إنجازات الثورة البيوتكنولوجية توضع الآن في خدمة السوبر أغنياء القادرين وحدهم على تمويل مشاريع  إقامة «جنس بشري جديد أكثر ذكاء وصحة وقدرات بما لا يقاس من الجنس الراهن»، كما تبشّر الآن «حركات ما بعد الإنسان» التي يمّولها كبار رجال الأعمال ومديرو الشركات متعددة الجنسيات.
هذه المعطيات لم تثر ضجة كبيرة حين نشرت آنذاك لأن كل شيء كان يبدو لامعاً كالذهب في النظام الرأسمالي الغربي. وهكذا كان في وسع الغرب مواصلة الاحتفالات بانتصاره في الحرب الباردة، فالاقتصاد الجديد وفرص السلام وعدت بنمو اقتصادي متواصل، وأميركا أصبحت الدولة العظمى الوحيدة التي يتوقع ان تنتهج سياسات «خيّرة وحميدة» في امبراطوريتها العالمية الجديدة.
إفراط في التفاؤل!

بيد أن كل شيء تغيّر الآن: الأسواق المالية تهاوت كورق الخريف. والاقتصاد الجديد أظهر كم هو هش. والشركات العملاقة أثبتت أن لها رجلين من طين.
حين أطلت أولى «بشائر» الأزمات الاقتصادية الراهنة برأسها، رد عليها قباطنة الرأسمالية حينذاك بأربعة افتراضات:
الأول، يقول إن النمو الاقتصادي هو القاعدة وإن دورات الركود هي مجرد استثناءات .
والثاني، إن إنتاج الموارد الطبيعية سيستمر. وأي نقص يحدث في مورد ما، سيقود الى استبداله بمورد آخر تبدعه التطورات التكنولوجية.
والثالث، هو أن الشركات التي يملكها حاملو الأسهم ستبقى الشكل المهيمن على التنظيم الاقتصادي. وفي الوقت نفسه، ستعمل هذه الشركات في سوق عالمي حر وغير مقيّد.
والرابع، هو أن النماذج الغربية لرأسمالية السوق الحرة والانتخابات الديموقراطية ستنتشر بالتدريج في كل أنحاء العالم .
هذه الافتراضات المتفائلة توّجها، كما أسلفنا، فرانسيس فوكوياما بنظريته حول «نهاية التاريخ والانسان الأخير» (1999). لكن يتبيّن الآن كم كانت رؤى فوكوياما موغلة في الفكر الرغائبي. وقد صدر مؤخراً كتابان يوضحان هذه النقطة.
الكتاب الأول، للمؤلفة الأميركية هرتز (الصمت يسيطر(، يرى سبب المشكلة الراهنة في الحرية المطلقة التي تتمتع بها الشركات الكبرى. وتقول هرتز إن هذه الشركات تسيطر الان على 25 في المائة من أرصدة العالم، وقد هيمنت بصمت على الحكومات التي أصبحت ألعوبة في يدها. فهي (الشركات) باتت ربة عمل السياسيين ومصدر أموالهم؛ وهي متحرّكة جغرافياً في كل العالم ولذا تختار القوانين التي تعجبها أو تلائمها .الاغنياء  مع هذه الشركات يصبحون أكثر غنى، والفقراء أكثر فقراً.
وتحبذ هيرتز تغيير المسار لتجنب خسارة هوية الفرد والهوية القومية على يد ديناصورات الاقتصاد. كما تصف بالتفصيل المشاكل التي تسببت بها إقتصادات السوق غير المقيدة، وتحذّر من أن الأمر الواقع الراهن لا يمكن أن يستمر. (وهذا كان قبل الانفجار الراهن للفقاعة المالية الأميركية).
الكتاب الثاني لغراي (الفجر الكاذب) يوضح أن الصراع بين الرأسمالية والشيوعية كان في الحقيقة نزاع بن أيديولوجيتين متنافستين لفلسفة أوروبية واحدة: التنوير. وهو يوافق على أن مستقبل العالم سيبقى رأسمالياً برغم الأزمات الحالية، لكنه يرى بروز العديد من الرأسماليات بدون أن يكون بينها قواسم مشتركة كثيرة. وبالتالي، كان من الخطأ برأيه محاولة فرض الرأسمالية الاميركية في كل مكان.
غراي وهيرتز يتقاطعان عند نقطة واحدة: إنهما غير متفائلين بالمستقبل، ويخشيان ان تنتهي المرحلة الرأسمالية الراهنة بحروب شاملة.
لكن، هل هما الوحيدان في هذا التشاؤم وذاك الخوف، بعد التسونامي المالي الذي ضرب أميركا؟ ربما بات يتعّين علينا الآن طرح هذا السؤال على فرانسيس فوكوياما!
هذه الأزمة الرأسمالية العامة كان لها شكل خاص للغاية بالنسبة إلى الزعيمة السياسية والعسكرية للنظام الرأسمالي العالمي: الولايات المتحدة.
فأميركا خلال الحرب العالمية الاولى وبعدها لم تكن في حاجة الى العالم. العالم كان في حاجة إليها. وبعد الحرب العالمية الثانية كانت اميركا تنتج نصف سلع العالم الإقتصادية، لكن في تلك الفترة بدأت تحولات خطيرة. فنظام العولمة الذي أقامته اميركا في أوروبا واليابان استناداً الى فتح أسواقها في إطار التجارة الحرة، أدى في النهاية الى تغيير بناها الداخلية هي نفسها، فأضعف إقتصادها الصناعي الانتاجي، وشوّه مجتمعها. وحينها، باتت أميركا معتمدة على العالم بدل أن يكون العكس هو الصحيح. العجوزات التجارية الاميركية بدأت بالظهور في السبعينات وأصبحت منذ ذلك الحين معلماً بارزاً من معالم الاقتصاد العالمي.


السيطرة بالقوة لن تنجح

سقوط الشيوعية أدى الى تسارع الاعتماد الاميركي على العالم. فبين 1990 و2000 قفز العجز التجاري الأميركي من 100 الى 450 مليار دولار. وفي بداية القرن الحادي والعشرين، لم يعد في وسع أميركا ان تعيش مما تنتج. وهنا نشأت المفارقة: في الوقت الذي كانت فيه بقية دول العالم تستقر بفضل التقدم في الصحة والتعليم والديموغرافيا والديموقراطية فتصبح غير معتمدة على أميركا، لم يعد في وسع هذه الأخيرة العيش من دون العالم.
لكن مهلاً. إذا ما كانت الولايات المتحدة قد انحدرت الى درجة كبيرة كقوة إقتصادية، إلا انها نجحت الى حد كبير في امتصاص ثروات الاقتصاد العالمي. وهذا ما يدفعها الى القتال سياسياً وعسكرياً للحفاظ على هيبتها بصفتها قوة لا يمكن الإستغناء عنها في العالم، الأمر الذي يطرح المشكلة الاتية بالنسبة لهذا العالم: كيف يمكن التعاطي مع قوة عظمى معتمدة على غيرها اقتصادياً لكنها أيضاً بلا فائدة سياسياً؟
هذه التطورات في السياسة الخارجية تترافق مع أخرى لا تقل خطورة في الداخل الاميركي. فالمجتمع تغّير الى نظام لامساواتي الى حد كبير. وهذه نقطة أوضحها بجلاء الكاتب الاميركي مايكل ليند في كتابه «الامة الاميركية الجديدة»، والتي ركّز فيها على بروز طبقة فاحشة الثراء تمسك بكل مفاصل الاقتصاد الاميركي، وتعيد توجيه السياسات الاقتصادية بما يكرسّ اللامساواة الى حد كبير. وهذا يضعف الآن الديموقراطية الأميركية، في الوقت ذاته الذي تتقدم فيه هذه الديموقراطية في العالم .
إن انتقال الولايات المتحدة الى الأوليغارشية (حكم الأقلية) المتطرفة، يدفع الى توقع قيامها بممارسات عدوانية ومغامرات عسكرية أكثر خطورة. لابل لايمكننا الآن إستبعاد أن تشن هذه الإعتداءات حتى على دول ديموقراطية لأن النخب الأوليغارشية مستعدة لإشعال الحروب بين الديموقراطيات.
العالم، إذاً، يقف الآن أمام تناقضين: الأول، الاعتماد الاقتصادي الأميركي الجديد على الخارج. والثاني، التوزيع الجديد للطاقة الديموقراطية في كل أنحاء العالم خاصة في قارة أوراسيا. وحالما نضع هذه التطورات بعين الاعتبار، نستطيع أن نفهم بعض أسباب غرابة التصرفات الأميركية. فيما الديموقراطية تضعف في داخل أميركا نفسها، سيكون من الصعب عليها الدفاع عنها في العالم. الأولوية الأولى لأميركا الان هي الحصول على السلع والموارد والرساميل من الخارج. وبالتالي، من الآن فصاعداً سيكون هدف الولايات المتحدة هو السيطرة بالقوة على موارد العالم.
بيد أن القوة الاقتصادية والعسكرية والايديولوجية المنحدرة للولايات المتحدة لا تسمح لها بالسيطرة بفعالية على العالم (الذي أصبح شاسعاً، وكثير السكان، ومتعلماً، وأكثر ديموقراطية). وإخضاع العقبات الحقيقية أمام الهيمنة الاميركية (أساساً اللاعبين الإستراتيجيين الأوروبيين والصينيين والروس واليابانيين) هي ببساطة مهمة مستحيلة. سيكون على أميركا بشكل متزايد التفاوض مع هذه القوى، والرضوخ لها في كثير من الأحيان.
لكن في النهاية، سيكون على الولايات المتحدة العثور على حل، سواء أكان حقيقياً أو متخيلاً، لتبعيتها الاقتصادية المقلقة. وهذه النقطة تنقلنا إلى القضية الكبرى الثالثة:

دور الرئيس أوباما ومصيره

هنا يتفق المحللون في الغرب كما الشرق أن الإنجاز الكبير الذي حققته أميركا بانتخابها رئيساً أسود، قد تبدده سريعاً المشاكل الضخمة التي سيواجهها هذا الرئيس.
فأوباما، وعلى عكس جورج بوش الذي ورث العام 2001 موازنة صحية تتمتع بالفوائض وسلاماً في العالم وهيمنة أميركية كاملة، سيواجه عجزاً في الموازنة قد يصل إلى أكثر  من تريليون دولار، وحربين مستنزِفتين في العراق وأفغانستان، وانتقال السلطة العالمية بعيداً عن رحم الولايات المتحدة وقريباً من أحضان اقتصادات الدول الناشئة في مجموعة «البريك» (الصين، الهند، روسيا، والبرازيل). فهل سيكون قادراً على مواجهة هذه التحديات؟
إذا ما استعدنا ما كان يقوله أوباما في حملاته الانتخابية سنشك في ذلك. فالرجل كان كل الأشياء بالنسبة إلى كل الناس. وهو أغدق الوعود الغزيرة على معظم قطاعات المجتمع الأميركي بهدف ضمان فوزه في الانتخابات. وفواتير هذه الوعود ستستحق كلها دفعة واحدة بسبب الأزمة الاقتصادية - الاجتماعية الطاحنة التي تضرب أميركا الآن. فالبطالة إلى تصاعد وقد تصل في 2010 إلى مستويات أزمة الكساد الكبير العام 1929، والإفلاسات، صغيرها والكبير، تتوالى كل يوم وهي بدأت تطال الاقتصاد الانتاجي لا المالي فقط بدءاً بصناعة السيارات، والطبقة الوسطى الأميركية (والتي يعتمد عليها الحزب الديمقراطي) فقدت 30 إلى 40 في المائة من أرصدتها وأصولها وتعويضاتها التقاعدية في الأزمة الحالية.
وبالتالي، من أين سيأتي أوباما بالأموال للوفاء بوعوده بتوفير مليوني وظيفة، وتقليص الضرائب عن الطبقة الوسطى، وتعميم نظام الرعاية الصحية؟ ثم هناك ما هو أهم: من أين سيأتي أوباما بالعزيمة السياسية التي لطالما افتقدها بسبب انقياده لكل ما تقرره زعامة الحزب الديمقراطي، ومن ورائها المنظمات السرية التي تحكم أميركا؟
لقد خلق أوباما توقعات معيشية كبرى لدى الناخبين الأميركيين. ولذا، الفشل في الوفاء بهذه التوقعات (وهو الأمر شبه المؤكد) سيجعل شعبيته تهبط دفعة واحدة من الذروة التي تتربع فوقها الآن إلى الحضيض. وهو هبوط سيتعزز مع فشلين محتملين آخرين لا يقلان خطورة:
الأول، عجز أوباما عن تحقيق وعده بانسحاب سريع من العراق، لأن ذلك سيسفر عن نتائج استراتيجية كارثية على النفوذ الأميركي في كل من العراق والشرق الأوسط. وعلى أي حال، بدأ الرئيس الجديد منذ الآن يلمح إلى أنه قد لايكون قادراً على سحب القوات الأميركية من العراق لا بعد 18 شهراً (كما وعد) ولاحتى بعد 48 شهراً.
كما سيكون على أوباما تسويق الحرب الأخرى في أفغانستان لدى رأي عام أميركي لم يعد يصّدق أن هذه الحرب هدفها  بالفعل مقاتلة الارهابيين.
الفشل المحتمل الثاني، هو عدم قدرة أوباما لا على الحفاظ على النظام العالمي الراهن في حلته الأميركية، ولا على دمج القوى الاقتصادية الصاعدة الجديدة (مجموعة البريك أساساً) في النظام الدولي بسبب رفض المجمع الصناعي - العسكري والنفطي الأميركي لهذه الخطوة. وهذا قد يسفر في النهاية عن قيام هذه الدول الصاعدة، خاصة روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب افريقيا، في إقامة نواديها أو تكتلاتها الخاصة بعيداً عن أميركا. لا بل أكثر: لا يستبعد كذلك أن تقرر دول كبرى كالمانيا وفرنسا واليابان أنه آن الأوان للانفكاك عن الزعامة الأميركية وبدء العمل بشكل مشترك لاقامة نظام عالمي (وإن رأسمالي) جديد.
كتب هنري كيسنجر مؤخراً: «الآن، ومع انكشاف الأرجل الطينية للنظام الاقتصادي، يجب أن تُعالج الفجوة بين نظام عالمي للاقتصاد وبين نظام سياسي عالمي متمحور حول الدولة كمهمّة مهيمنة في العام 2010. والنقاش هنا سيكون حول الأولويات متجاوزا النقاش القديم بين المثالية والواقعية. فالقيود الاقتصادية سوف ترغم أميركا على تحديد أهدافها العالمية في إطار مفهوم ناضج للمصالح القومية. بالتأكيد، لن تتخلى دولة لطالما افتخرت باستثنائيتها عن قناعاتها الأخلاقية التي حدّدت عظمتها من خلالها. لكن أميركا تحتاج الى تعلّم «ضبط نفسها» في استراتيجية تدريجية تبحث فيها عن العظمة من خلال تراكم ما يمكن تحقيقه. وبالطريقة نفسها، على حلفائنا الاستعداد لمواجهة المطلوب بدل حصر السياسة الخارجية بما يُعرف بالقوة اللينة» .
أضاف: «أميركا ستبقى البلد الأقوى، لكنها لن تحافظ على موقع مدّعي الوصاية. وبينما تتعلّم حدود الهيمنة وقيودها، سيكون عليها تعريف نفسها بما يتخطى المفاهيم الأميركية. كما ستحتاج مجموعة الثماني الكبار الى دور جديد يقبل الصين، الهند، البرازيل وربما جنوب أفريقيا في صفوفها».
لكن، ماذا لو فشل أوباما ومجموعة الثماني في ذلك، فيما مجموعة البريك وبقية القوى الصاعدة الأخرى تبدو متحررة من الأزمات المالية - الاقتصادية التي تضرب الدول الغربية الآن؟ ثم: ما تأثير هذا التطور الكبير على عولمة القرن الحادي والعشرين؟ (وهذه هي القضية الكبرى الثالثة التي سيواجهها العالم في 2010).
لو أن هذه الازمة الاقتصادية الراهنة اندلعت قبل 30 أو 40 سنة لكان الجواب سهلاً: عودة الدولة تعني عودة النزعة الحمائية. وعودة النزعة الحمائية تعني عودة الحروب التجارية. وعودة الحروب التجارية تعني الحروب الكبرى او على الأقل إنهيار منظومة العولمة في صيغتها الانغلو - أميركية.
لكننا لا نتحدث عن الأمس بل عن اليوم. وهذا اليوم شهد بروز القوى الاقتصادية الجديدة التي أشرنا إليها والتي باتت هي، أو تكاد، دينامو الاقتصاد العالمي: الصين، الهند، البرازيل، روسيا، جنوب إفريقيا، وإلى حد ما اندونيسيا وماليزيا وبعض النمور الآسيوية.
هذه القوى الجديدة ولدت مباشرة من رحم العولمة الأميركية ورضعت من ثديها ولا تزال تعيش على حليبها. وبالتالي، لا مصلحة لها البتة في العمل على تقويض الاقتصاد الاميركي أو مفاقمة أزمته، مثلاً عبر سحب نحو 4 إلى 5 تريليون دولار من سندات الخزينة الاميركية أو من ودائع الدولار، لأنها ستكون المتضرر الاول من ذلك.

هل من خطر على العولمة؟

ولهذا السبب لا نسمع هذه الأيام أصواتاً تتحدث عن مخاطر باتت تهدد العولمة، ولا عن دعوات إلى عولمة «بديلة». صحيح أن ألمانيا وفرنسا وروسيا تطالب بنظام مالي عالمي جديد، وبقواعد دولية محددة لنشاط الرساميل المالية، وبمشاركة أكبر لمجموعة الدول العشرين في القرار الاقتصادي العالمي، لكن هذه المطالبات لا ترقى البتة إلى مستوى الدعوة إلى تفكيك عرى نظام العولمة.
بيد أن هذا التطور الأخير، أي التفكيك، يمكن ان يحدث إذا ما عنت عودة الدور الكبير للدولة في الولايات المتحدة وبعض دول أوروبا بروز مراكز اقتصادية كبرى لها مصلحة مباشرة في فرض سياسات حمائية في هذه الدول. إذ حينذاك ستكون الأبواب مشرعة على مصراعيها أمام احتمال انهيار العولمة وأمام بث الروح مجدداً في اوصال التنافسات الإمبريالية الحادة بين المراكز الرأسمالية الكبرى.
هذا التطور يبدو الآن صعباً، لكنه ليس مستبعداً ولا هو بمستجد. ففي اواخر القرن التاسع عشر، وحين كانت العولمة في طبعتها البريطانية في أوجها، اعتقد الكثيرون أن هذه الظاهرة وجدت لتبقى، وأنها سجلت قطيعة مع ما سبقها من تواريخ رأسمالية.
بيد ان العولمة البريطانية هذه انهارت، عملياً، بين ليلة وضحاها، بفعل عوامل عدة منها ضعف الاقتصاد البريطاني (إقرأ في الأزمة الراهنة: الأميركي) وبروز مراكز اقتصادية جديدة تطالب بحصة أساسية في الكعكة الاقتصادية العالمية، الأمر الذي قاد في النهاية إلى نشوب الحرب العالمية الأولى المدمرة.
بالطبع، الحروب العالمية الان باتت مستبعدة بسبب وجود أسلحة يوم الآخرة النووية. لكن استبعاد الحروب العالمية لا تعني أيضاً استبعاد الأزمات العالمية ولا ربما أيضاً الحروب الاقليمية الكبرى.
على أي حال، من المبكر الآن القفز إلى استنتاجات متسرعة من هذا النوع. لكن ما لا يتضمن تسرعاً هو الحقيقة بأن الامور بالنسبة إلى العولمة لن تعود بعد عودة الدولة إلى ما كانت عليه قبلها. وهذا سيحدث سواء سلماً أو حرباً!
نعود الآن إلى سؤالنا الأولي: أي عالم يمكن أن يولد من تمخضات هذه القضايا الكبرى التي ستشهدها السنة الجديدة؟ وهل بات في الوسع حقاً ترقب ولادة جديدة لنظام عالمي جديد متعدد الرؤوس؟
الكثير سيعتمد بالطبع على ما ستفعله، وما لن تفعله، الولايات المتحدة. والخيار واضح هنا: فهي إما أن تقبل (كما دعا كيسينجر) بإعادة صياغة النظام العالمي لضم القوى الاقتصادية الصاعدة إليه ومنحها جزءاً من كعكة السلطة العالمية، أو أن تعمد إلى شن المزيد من الحروب لمحاولة إطالة أمد الزعامة الأميركية المطلقة في العالم.
بكلمات أخرى: على أميركا أن تقبل دور الأول بين متساوين في النظام العالمي، أو تعمد إلى تدمير المعبد على رؤوس الجميع في حال عجزت عن تقديم هذا «التنازل».
قد لا تحسم هذه المسألة التاريخية نهائياً أو بجرة قلم واحدة في العام 2010، لكن تفاقم الأزمات الاقتصادية الأميركية والغربية، كما هو متوقع في السنة الجديدة، وعجز الولايات المتحدة المتزايد عن مواصلة تمويل مشاريعها الإمبراطورية، سيعجلان حتماً في ولادة النظام العالمي الجديد متعدد الأقطاب.

الوسوم (Tags)

أميركا   ,  

اقرأ أيضا ...
تعليقات حول الموضوع
  0000-00-00 00:00:00   النظام العالمي المتهاوى
مشروع المسيح الدجال( قابيل الذي قتل أخاه و هو أوزيرس اله المصريين الذي يحكم شمبالا تحت الارض انظر "الارض المجوفة " في محرك البحث غوغل) لاقامة النظام العالمي الجديد بعد ان أغرق الله النظام العالمي القديم أيام نوح (ع) حيث غرقت امريكا الاول وهي اطلانتس و سوف تغرق امريكا الثانية ان شاء الله.هذا المشروع في تخبط شديد و هذا دليل بوجود الله الذي اقنع المسيح الدجال أتباعه من الباطنية عبر التاريخ بعدم وجوده وان الطبيعة هي الاله عندهم.هذا المشروع لن يمرر مرة أخرى بعد نوح(ع) لان الله سوف يحفظ دينه الى يوم القيامة و لو ضلال الدجال بعضهم وصار يعبد الشمس و القمر و الحيوانات مثل الصهيانة و الماسون المتنورين..لهذا فالمسيح الدجال يرى مشروعه يتهاوى في سوريا و قريبا في مصر ثم السعودية(أم مشروع النظام العالمي الجديد) بعد وقوع فتنة فيها و تولي المهدي المنتظر الحكم فيخرب هيكل المسيح الدجال الذي بناه أل بني قريظة قرب بيت الله الحرام في غفلة من المسلمين...فقرب بيت الله الحرام كانت تسفك الدماء قبل أدم من طرف الجن سنوات عديدة تقربا الى أوليائهم من كبار الجن و ابليس لعنه الله لما كان من الصالحين كان يحارب هذا الكفر و سفك الدماء لكن لما تكبر و عصى أمر الله بالسجود لادم أراد احياء السنة التي كان يحاربها قرب بيت الله الحرام و هذه السنة المتركزة على سفك الدماء تقربا الى الشمس و غيرها هو مرتكز النظام العالمي الجديد الذي حاربه نوح(ع) من قبل..بعدما يخرب المهدي هيكل اليهود قرب بيت الله الحرام سوف يخرج الاصيل بعد فشل الوكيل..سوف يخرج الدجال لعنه الله ومعه الملايين من الصحون الطائرة يقودها شياطين الجن و أولاد الزنى(في امريكا وحدها يختفي كل سنة مايزيد عن 200 ألف طفل) لفرض قوته على البشر و تضليلهم بأنه هو مجرد مخلوق فضائي متقدم علميا و أنه هو الذي خلق أدم عن طريق الاستنساخ الصناعي فسوف يتبعه الكثيرون و لكن المؤمنين الصادقين سوف يحاربنه بكل قوة حتى ينزل عيسى(ع) بالشام فينتهي البلاء المبين و يقتل الدجال الذي كان وراء جميع الحروب التي مرت على الارض منذ خلق الله أدم و أولها حربه ضد أخيه هابيل فقتله ثم عقد عهدا مع ابليس للانتقام من أولاد هابيل الى يوم القيامة اما أولاده وهم بنواسرائيل فسوف يرفع من شأنهم و يمدهم بالعلم و الخطط ضد أعدائهم لكن نصيب ابليس منهم ليدخلهم جهنم لابد منه..و القصة تطول.
سعيد  
هل ترغب في التعليق على الموضوع ؟
ملاحظة : جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا علاقة لموقع دام برس الإخباري بمحتواها
الاسم الكامل : *
المدينة :
عنوان التعليق : *
التعليق : *
*
   
دام برس : http://sia.gov.sy/
دام برس : https://www.facebook.com/Syrian.Ministry.Culture/

فيديو دام برس

الأرشيف
Copyright © dampress.net - All rights reserved 2024
Powered by Ten-neT.biz