دام برس :
حيثيات الصراع وتداعياته الإقليمية والدولية تشير بوضوح إلى عدم ترجيح النخب الفكرية والسياسية الأميركية اندلاع اشتباك مسلح في المدى المنظور، اللهم إلا إذاّ ارتكب أحد الطرفين أو من ينوب عنهما في الإقليم خطأً يدفعهما للانزلاق بعيداً عن حافة الهاوية.
بعض أوساط تلك النخب لديها رؤية بلورية صافية ليس في أبعاد الاستراتيجية الأميركية فحسب، بل في تداخل جملة من العوامل والمصالح لمراكز قوى متعددة. وأضحت هذه الرؤية أكثر جرأة في تقييمها ومواجهتها "الفكرية" للرئيس ترامب وتخلص إلى أنها جردته من أمضى أسلحته وهي: غموضه وعدم القدرة على التنبؤ بخطواته المقبلة بعد أن باتت قابلة للتكهن، بحسب تعبير يومية واشنطن بوست، 28 حزيران/يونيو.
تلقي هذه النخب مسؤولية تدهور الأزمة والتهور نحو حرب قد تتطور نووياً، على عاتق "سياسة الإدارة الأميركية التي حشرت إيران في زاوية قاسية من العقوبات مما اضطرها للرد"، وفق توصيف اسبوعية ذي ناشيونال انترست.
النخب الفكرية "الليبرالية"، ممثلة بدرّة انتاجها فورين أفيرز، ترى أن السياسة الأميركية للإدارة الحالية، بكافة أركانها، قد تم "اختطافها من قبل دعاة الحرب. وفي ما يتعلق بالسياسة الشرق أوسطية ترى أنهم تعاقدوا مع إسرائيل والسعودية وربما الإمارات" لتسارع الخطى في حرف بؤر التوتر الإقليمية وتموضعها بمواجهة إيران."
البعد المالي بنظرهم يتمحور حول دعم ذوي الثراء الفاحش والمتشددين سياسياً للرئيس ترامب، وأبرزهم الميلياردير شيلدون آديلسون وبول سينغر وبيرنارد ماركوس، الذين أرفدوا حملة ترامب الرئاسية، عام 2016، ومرشحي الحزب الجمهوري بنحو 259 مليون دولار من "التبرعات"، وينتظرون ترجمة الإدارة لتوجهاتهم السياسية المعادية لإيران بالدرجة الأولى.
آديلسون من ناحيته حث بصريح العبارة المرشح دونالد ترامب على استخدام الخيار النووي ضد إيران، وسخّر نفوذه السياسي لاحقاً لتعيين جون بولتون في منصب مستشار الأمن القومي.
ترامب لم يشذ عن "توقعات" داعميه ومؤيديه من عالم المال والاستثمارات، إذ توعّد إيران بحرب "إبادة تمحوها عن الوجود،" عشية مغادرته لقمة دول العشرين، رداً على تصريحات الرئيس الإيراني، حسن روحاني، برفض بلاده عرض التفاوض تحت التهديد وعزمها المضي بجهودها للقفز عن معدلات تخصيب اليورانيوم كما يسمح إطار الاتفاق النووي.
ترامب حدّد آفاق الحرب التي يتوعّد بها، في مقابلة مع شبكة فوكس نيوز، بتاريخ 27 حزيران/يونيو، بأنها لن تتطلب انخراط قوات برية أميركية ولن تدوم طويلاً، والاشتباكات المباشرة ستكون محدودة." فهل يعتبر ذلك تهديداً باستخدام الخيار النووي "التكتيكي" كما تروّج له صناعات الأسلحة الأميركية؟
لكن رئيس مجلس العلاقات الخارجية، السياسي المخضرم ريتشارد هاس، حذر صناع القرار الأميركي من أهوال حرب مقبلة مع إيران "نتيجة تصاعد الضغوط الاقتصادية الأميركية عليها التي لا تتشابه مع سابقتها في حرب الخليج عام 1991. بل ستخوضها إيران بالقتال على امتداد مناطق جغرافية متعددة، بوسائط عدة، وقوات مختلفة في ظل مناخ غضب حلفاء واشنطن خارج الخليج من سياساتها التصعيدية.
روبرت كابلان، الذي يعد أحد أهم الركائز الفكرية المميزة لدى المؤسسة الحاكمة حذر من عامل الجغرافيا الإقليمية الذي ستستغله إيران إلى أقصى حد لا سيما أن لديها الكثير من "الخلجان والمداخل والتجاويف البحرية والجزر، التي تعد مواقع مثالية لإخفاء نظم أسلحة مختلفة على مسافة قريبة من قطع البحرية الأميركية" العاملة في الخليج.
على الطرف المقابل، يناور دعاة الحرب لإيجاد مبررات لرد أميركي صاعق، تكون هي البادئة به لضمان عامل الصدمة والاستمرار بسياسة "ممارسة أقصى الضغوط" بالاستناد إلى تقييمهم لفعل العقوبات الاقتصادية على إ يران التي يظنون أن العقوبات حرمت قواتها العسكرية من مزايا التحديث وتطوير الدعم اللوجستي الحيوي خلال المعارك.
ويقر هؤلاء بأن ايران اكتسبت خبرة قتالية في الحرب غير المتماثلة، معظمها في سوريا واليمن عبر أسلوب حرب العصابات، لكنهم يتخيّلون أنها غير مؤهلة لمواجهة قوة عسكرية عظمى مدججة بأحدث الأسلحة، وأن "سلاح طيرانها المحتفل باسقاط الطائرة الأميركية المسيّرة هو أقل قوة وكفاءة مما يبدو عليه للبعض."
بناء على ذلك، وفق منطقهم ومبرراتهم، فإن الأجواء مهيأة لاختراق المقاتلات الأميركية وشن عمليات عسكرية في ظل عدم قدرة نظم الدفاع الجوية الإيرانية مواجهتها أو ايقافها.
ما ينقله هؤلاء من تفسير بشأن إسقاط طائرة الدرونز الأميركية يعترف أن القوات المسلحة الأميركية كانت على دراية تامة بأنها تحلق فوق الأجواء الإيرانية، التي تعد مقبولة في ظروف السلم التي تحدد المياه الإقليمية بمدى لا يتجاوز ثلاثة أميال بحرية، لكنها لم تتوقع الرد الإيراني الفوري الذي يعزوه إلى "عامل المفاجأة وليس بفعل التقنية المتطورة."
التداعيات الناجمة عن سياسة "أقصى الضغوط" تغيب عن دعاة الحرب وأبرزها التهديد طويل الأجل على المصالح الأميركية في المنطقة وعلى"الاستقرار الإقليمي" كما يؤكد مناهضو الحرب. فضلاً عن تصدع العلاقات الأميركية مع حلفائها الاوروبيين "وتعزيز النفوذ الروسي في المنطقة." ولا ينظر دعاة الحرب إلى تنامي منسوب الاستياء العالمي من السياسة الأحادية الأميركية، في عهد ترامب، التي بدأت تلقي ظلال أضرارها على المواطن الأميركي ومستوى حياته اليومية.
المراكز المختصة والخبراء بالشؤون العسكرية عرضوا سيناريوهات لبوادر حرب استناداً إلى مناخ التصعيد الأميركي ضد إيران. ومنها التداعيات الاقتصادية على الولايات المتحدة، من وجهة نظر علمية متوازنة، التي تتفادى المؤسسة الحاكمة ومعظم الوسائل الإعلامية الخوض فيها بشكل مفصل.
غير أن يومية بوسطن غلوب، نشرت دراسة مفصلة في 24حزيران/يونيو لإحدى أشهر خبراء الاقتصاد الاميركي، الاستاذة الجامعية في هارفارد ليندا بلايمز وآخرين. وقد عرضت
أبرز ما تناولته دراسة الخبراء الذين تنبؤا بدقة كلفة الحرب على العراق آنذاك، وتمت محاصرتهم والتشهير بهم من قبل نائب الرئيس ووزير الدفاع، ديك تشيني ودونالد رامسفيلد، على التوالي. تقول الدراسة:
كلفة الحرب على إيران ستتراوح بين 60 ملياراً إلى 2 تريليون، في الأشهر الثلاثة الأولى فقط.
الحرب حصراً لا تؤدي إلى تغيير أي نظام وخاصة النظام في إيران. لذا فإن نشوب حرب مع إيران لتحقيق تغيير النظام ستكون مراهنة طويلة الأمد، ومكلفة مادياً، وكارثية على الاقتصاد الأميركي والعالمي.
استشهدت بتصريح لوزير الدفاع الأسبق، روبرت غيتس، بقوله "إن اعتقد البعض أن الحرب على العراق كانت صعبة، فالهجوم على ايران، من وجهة نظري، ستكون كارثية."
ارتفاع سعر برميل النفط إلى مستويات غير مسبوقة قد تصل لنحو 250 دولاراً للبرميل.
الاقتصاد الأميركي في حالته الراهنة مشبع بالعمالة، وأي ارتفاع حاد في الانفاق العسكري سينتج تضخماً اقتصادياً يحول دون تنفيذ مشاريع إعادة البناء وترميم البنى التحتية الداخلية المتهالكة.
وختمت الدراسة بالقول أن المؤسسة الحاكمة، ومنذ حرب فييتنام، تفادت فرض "ضريبة حرب" على المنتجات والمبيعات مما رسخ في أذهان المواطن ان الحرب تخاض بكلفة زهيدة أو معدومة، مما عزز تقويض الجدل العام حول ضرورات خوض الحروب، كسياسة واستراتيجية أميركية.