دام برس :
بعيداً عن التداعيات التي يمكن أن تنشأ عاجلاً أو آجلاً عن العملية "الإسرائيلية" العدوانية غير المسبوقة، والتي استهدفت المئات من المدنيين والمقاومين في لبنان، وبغض النظر عن الطريقة التي نُفّذت من خلالها، والإمكانيات والأدوات المستخدمة فيها، والتي ستحتاج إلى مزيد من الوقت والتحقيقات، فإن هناك قطبة مخفية في هذا الحادث الأليم ربما لم تنل حظها من التحليل أو ضاعت في غمرة الكم الهائل من المعلومات والأخبار العاجلة التي رافقت هذا الحدث الضخم والمهول.
والحديث هنا عن أسباب هذا الهجوم "الصهيوني" المروّع الذي يخالف كل القوانين الدولية، ويضرب عرض الحائط بكل ما نصّت عليه الشرائع السماوية والمقررات الأممية والدولية المتعلّقة بحق الإنسان في الحياة، بغض النظر عن لونه وعرقه وديانته وطائفته، بل ذهبت هذه "الدولة" المارقة والمجرمة إلى أكثر من ذلك باستخدام وتطويع كل ما توصّل إليه العلم الحديث من ابتكارات وإنجازات لخدمة البشرية في سبيل إزهاق أرواح الناس، وتجريدهم من كل ما كفلته لهم قوانين حقوق الإنسان، وحماية المدنيين حتى في أوقات الحرب.
في نظرة سريعة إلى ما حدث في العديد من المدن اللبنانية من تفجيرات متزامنة أصابت أجهزة المناداة اللاسلكية، وهو الأمر الذي امتد ليصل إلى ضواحي العاصمة السورية دمشق، يمكن توقّع العديد من الأسباب التي دفعت العدو إلى الإقدام على هذا "الجنون" الذي يمكن وصفه بالأحمق والبالغ الخطورة.
هذا الفعل لا يشير فقط إلى أن "إسرائيل" تعتمد سياسة حافة الهاوية، بل تذهب إلى نقطة أبعد بكثير بالتحليق الحر فوق الهاوية نفسها، متسلّحة بإمكانيات وأدوات عسكرية ودبلوماسية كثيرة، إضافة إلى الغطاء الأميركي والغربي الذي تعتقد أنه سينقذها مما ورّطت نفسها فيه، كما جرت العادة، وهي بذلك تكرّر الخطأ نفسه الذي ارتكبته حين اغتالت السيد فؤاد شكر في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت، وعند اغتيالها رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الشهيد إسماعيل هنية في طهران، إلى جانب عدوانها على ميناء الحديدة اليمني.
"إسرائيل" المأزومة والغارقة في دوامة من الفشل الميداني والعملياتي في قطاع غزة، والمحاصرة بجبهات الإسناد والإشغال من أكثر من اتجاه، والتي تعاني انقسامات داخلية فريدة من نوعها تهدد بانهيار النظام السياسي والاجتماعي والقضائي للدولة، اختارت كما يبدو الهروب إلى الإمام، سعياً للخروج من مجموعة كبيرة من الأزمات التي لا تتعلّق فقط بالحفاظ على هيبة "الدولة" أو استعادة جزء من قدرة الردع التي تآكلت بشكل هائل خلال السنوات العشرين الماضية، وتعرّضت لانتكاسة غير مسبوقة في صباح السابع من تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي، بل للحفاظ أيضاً على استقرار وتماسك الائتلاف الحكومي المتطرّف بزعامة بنيامين نتنياهو، الذي يواجه الكثير من التحدّيات، التي ربما في حال توافرت بعض الشروط الداخلية أو حدثت بعض التطورات الدولية والإقليمية ستؤدي إلى انفراط عقده وتفكّكه، وهو ما يعني بالضرورة حينها نهاية المستقبل السياسي لنتنياهو تحديداً، إلى جانب الكثير من الرؤوس الحامية، أمثال المتطرّف بتسلئيل سموتريتش، والأحمق إيتمار بن غفير.
هذا الهروب إلى الأمام، وبهذا الحجم الكبير، يتطلّب حتماً مساعدة من الكثير من الأطراف، في المقدّمة منهم رأس الشر في العالم الولايات المتحدة الأميركية، التي بادرت فور هذه الجريمة الموصوفة إلى الإعلان عن زيارة مرتقبة لوزير حربها لويد أوستن إلى الكيان العبري، في زيارة وصفتها بأنها مقرّرة سلفاً، وإن كنّا نعتقد أنه قد تم اتخاذ القرار بشأنها بعد الهجوم "الإسرائيلي" مباشرة، لتوجيه رسالة إلى محور المقاومة عموماً، وحزب الله على وجه الخصوص، بأن العدو لن يكون وحده في حال تعرّض لهجمات انتقامية، كما حدث تماماً بعد جريمتي الاغتيال في ضاحية بيروت الجنوبية وطهران.
من هذه الأسباب التي يعتقد البعض بوجاهتها الصراع الحاصل بين المستويين السياسي والعسكري في "الدولة "العبرية، وتحديداً بين رئيس الوزراء الصهيوني وائتلافه المتطرف من جهة، وبين وزير الحرب يؤاف غالانت ومؤيديه من الجنرالات والقادة العسكريين من جهة أخرى، إذ إن هناك توجّهاً بدا واضحاً للغاية خلال الشهور الماضية حول رغبة الجيش الصهيوني في إنهاء عملياته العسكرية في قطاع غزة، وهو ما أعلنه غالانت ورئيس الأركان هاليفي في تصريحات صحافية أكثر من مرة، وتم تسريب الكثير من الأخبار المتعلّقة به في معظم الصحف الإسرائيلية، وأنه يجب نقل الثقل العسكري إلى الجبهة الشمالية التي تشكّل بحسب الكثير من القادة العسكريين الصهاينة التحدّي الأهم في هذه المرحلة بالذات.
هذا الموقف من "الجيش" تم رفضه بشكل نهائي من نتنياهو وائتلافه اليميني، بحجة أن الأهداف التي تم رسمها للحرب على غزة لم تتحقق بعد، وأنه يجب استكمال العملية العسكرية في القطاع حتى النهاية، وأن التعامل مع تحدّيات الجبهة الشمالية يجب أن يتم تأخيره حتى الانتهاء من معركة غزة، وإن كان قد تم أمس إضافة هدف إعادة مستوطني الشمال إلى مساكنهم كهدف رابع للحرب، وهو يأتي في إطار الصراع الحاصل بين غالانت ونتنياهو ليس أكثر.
وبناء عليه، قد يبدو العدوان السيبراني الواسع على لبنان من وجهة النظر تلك يهدف إلى إشعال الجبهة الشمالية، وتوسيع مساحة القتال فيها، بما يضطر الجيش إلى سحب جزء كبير من قواته في قطاع غزة، ولا سيّما وهو يعاني من نقص كبير على مستوى القدرة البشرية، وهو ما يؤدي في نهاية المطاف إلى إرغام نتنياهو على القبول بوقف الحرب على الجبهة الجنوبية، وهو الأمر الذي سينسحب على جبهة لبنان بعد جولة عسكرية لن تكون طويلة من وجهة نظر قادة "الجيش".
ثاني الأسباب من وجهة نظر أخرى تتعلّق برغبة "إسرائيل "في توجيه رسالة ردع إلى حزب الله، ومن ورائه كل أطراف محور المقاومة، وخصوصاً بعد الهجوم اليمني بصاروخ باليستي فرط صوتي على "تل أبيب" قبل عدّة أيام، وهو الأمر الذي أدخل أكثر من مليونين ونصف مليون مستوطن صهيوني إلى الملاجئ، في سابقة لم تحدث من قبل، وشكّل مفاجأة مدوّية لكل الإسرائيليين الذين عبّروا عن سخطهم وغضبهم على حكومتهم وجيشهم الذي فشل في التصدّي لصاروخ واحد قادم من مسافة 2000 كلم، وفي ظل امتلاك "إسرائيل" منظومات دفاع جوّي تعدّ من الأفضل على مستوى العالم.
وبناء عليه، يمكن أن يكون الهجوم الواسع على لبنان، وعلى كوادر وعناصر حزب الله تحديداً، بهدف كبح جماح الحزب وإرغامه على خفض مستوى الهجمات التي يقوم بها على القرى والمستوطنات الشمالية، والتي توسّعت كمّاً وكيفاً خلال الأسابيع الأخيرة، إذ وصل بعضها إلى عمق 30 كلم داخل الأراضي المحتلة، إضافة إلى ثنيه عن شن هجمات واسعة ربما يكون قد خطّط لها بحسب الكثير من الأخبار المتداولة إسرائيلياً، والتي تهدف إلى الضغط على "إسرائيل" بشكل أكثر جدّية لوقف حرب الإبادة التي تشنها على قطاع غزة منذ 12 شهراً.
ثالث الأسباب، والذي نراه نحن أقرب إلى الحقيقة، وإن كنّا لا نستبعد السببين المذكورين أعلاه، هو أن هذا الهجوم الكبير والواسع جاء رداً على هجوم حزب الله على قاعدة "جليلوت" الاستخبارية نهاية آب/أغسطس الماضي، والذي ترك تداعيات كبيرة رغم محاولات العدو التكتم عليها والتقليل من شأنها، وظهر بعض من خفاياها من خلال استقالة رئيس الوحدة 8200 الواقعة في تلك القاعدة، والتي تُعد واحدة من أهم الوحدات الاستخبارية في الكيان الصهيوني، ويُنظر إليها بأنها الدرع الواقية للدولة من الأخطار التي تتهددها، وعينها التي تراقب من خلالها كل الأعداء في المنطقة والعالم.
وكما يبدو، فإن "إسرائيل" أرادت أن ترد على تلك العملية النوعية والمركّبة التي اعتمد فيها حزب الله على معلومات استخباراتية دقيقة، ولجأ خلالها إلى عمليات تمويه وخداع تكتيكية مبهرة، وهو ما أكسبها بعداً أمنياً إلى جانب البعد العسكري والعملياتي، من خلال عمل مشابه يتميّز بالبعد الأمني والاستخباري، ويعتمد بصورة لافتة على الإمكانيات التقنية والتكنولوجية التي تملكها "الدولة" العبرية، وهي التي تُعتبر تعدّ أكثر الدول في العالم تقدّماً في هذا المجال.
نحن نعتقد أنَّ حجم الضربة التي تلقّاها العدو في هجوم يوم الأربعين على قاعدة "جليلوت"، والتي كشفت مصادر أوروبية لشبكة الميادين الإخبارية بعض تفاصيلها والخسائر الناتجة منها، وهو الأمر الذي أكدّه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله ونائبه الشيخ نعيم قاسم، دفع "إسرائيل" إلى تنفيذ رد بهذا الحجم وبهذا المستوى، وبطريقة تعتقد أنها قريبة للغاية من تلك التي استخدمها الحزب في هجومه النوعي، مع فارق أساسي وهو عدم تنبي العملية بشكل علني، كما هو الحال في كل العمليات الإسرائيلية من هذا النوع.
بناء على ما تقدّم، وفي ظل الأجواء المشحونة التي باتت المنطقة تعيشها، والتي تجعل مسألة انفلات الأمور من عِقالها والذهاب نحو حرب إقليمية واسعة ومدمّرة أقرب من أي وقت مضى، فإننا نعتقد أن الإقليم مقبل على تحوّلات دراماتيكية، كان البعض يراها في أوقات سابقة بعيدة المنال، وأن هناك العديد من الكوابح التي تقف في وجهها، إلا أنَّ الوقائع الميدانية التي بدأت تتزايد وتأخذ منحنيات تصاعدية بشكل متسارع تجعل من تلك التحولات أمراً قابلاً للحدوث، ليس فقط بسبب ما جرى ظهيرة الثلاثاء في لبنان، بل لأن هذا العدو تجاوز كل الخطوط الحمر التي كان معمولاً بها في أوقات سابقة، وهو بحاجة إلى تلقّي صفعة من نوع مختلف توقفه عند حدوده، وتُرغمه على وقف انتهاكاته وجرائمه ضد شعوب المنطقة، وفي المقدمة منها الشعب الفلسطيني المظلوم في قطاع غزة والضفة الغربية المحتلة.
أحمد عبد الرحمن