دام برس :

لم يعدْ الموتُ مخيفاً، ولم تعدْ طرقُ الموتِ ترعبنا، لا نحرُ سكين، ولا صلب أجسادٍ، ولا ركلُ قدمين... هي كلماتٌ قرأتها في عيونِ الراحلين.

لم تكنْ نظرتهم اعتيادية، لم يلتفتوا يمنياً ولا يساراً، كانت أبصارُهم شاخصةً على وجوه قاتليهم، لم يصرخوا على عتباتِ الخوف، بل كانت نظرتُهم سلاحاً قوياً، يحمل تناقضاً غريباً، سخريةً إلى القاتل، وشوقاً إلى لقاء الله.

اعتقد الممثلون أنهم يصورون أجسادهم الجريحة ليجمعوا المعجبين، ظنّوا أنهم يرهبون أهلَهم ويكسرون إرادتهم، لم يدركوا أنهم أرسلوا إليهم رسائل ما قبل الشهادة، رسائلُ (لا خوف من الموت)، فلم تكن رعشاتهم خوفاً من رقصِ السكين، بل هي وجلُ لقاءِ الرحمنِ الرحيم.

قادوهم إلى المذبحةِ الشريفة، حاولوا إغراقَ رؤوسهم في الرمال، لكنّ جبينَهم شامخ يعانقُ السماء، وشفاهَهم تصدحُ بأجملِ القصيد، ومن صدرِهم يشعُّ نورُ المصطفى والمسيح.

ومن عينين تتحديان وجهَ القاتلِ والمتفرج، أرسلوا كلماتٍ مكتوبةٍ بدمٍ سرّي لم تفهمها سوى عيونُ تلك الأمهاتِ الصابرة.

رسالة لك وحدك:

تأملي يا أمي وجهي للمرةِ الأخيرة، لا تخافي ولا تجزعي إن رأيتني منحوراً، ضميني بين أحضانكِ واحضني قلبي النابض بحبكِ، مرجحيني في سريرِ عينيك، دعيني أغفو على أرجوحةِ أهدابكِ الدافئة للمرةِ الأخيرة.

تذكرين يا أمي عندما كانتْ يدُك في يدي، وأنتِ تحملينَ على ظهركِ الحطب، تأتين بها من أسفلِ الوادي، لتوقدي مدفأةَ الفقر ولتدخلي الدفأ على بردِ الغياب.

غنِّي لي عندما تصنعينَ الخبزَ في التنور، اقسمي لي رغيفاً وضعي عليه قليلاً من السمن ووزعيه على أطفال القرية.

لا تيأسي يا أمي لأنّ أفواهَ الخانعين تكتمتْ على الجريمة، وأبدعتْ في مدحِ أفرادِ القبيلة، تفننتْ في نقدِ القاتلين، وتساءلتْ كم هو نصلُ السكين مسنون؟ وكم أن المجرمينَ في التمثيلِ مبدعون؟  

لقد جمعوا حقدَهم من أقاصي بقاعِ الأرض بحجة الخلافة، حملوا دينَهم المزيّف على حدِّ السيف، لينشروا تعاليم ما قبل الجاهلية، والدين منهم براء.

جرحُنا يا أمي يفوقُ مساحةَ الحياة ِالضيقة والفارغة، فالنزفُ ليسَ من السكين، بل من الصامتين المتخاذلين، من دمعتكِ التي تتساقطُ فوق قلبي كالجمرات، لا تبكي يا أمي، هذي يدي من فوقِ السحاب، تمسح ُعن خدكِ مرارةَ الحزنِ والغياب.

لا تصدقي أنهم بارعون وباردو الأعصاب، لقد بلّلوا التراب، واهتز عرشهم عندما وضعوا النصلَ على الرقاب.

زغردي يا أمي، بالأمسِ كانت دقاتُ قلبك تنبضُ متعبةً على ناصيةِ المجهول، واليومُ استجابَ لدعائكِ المجيب، سيأتيكِ الحبيب، عند صلاةِ الفجرِ أو الظهرِ وربما عند المغيب.

لا تحزني، وانتظري خوذة الفارس الذي لم ولن يترجل عن صهوة حصانه، قبليها، لا تمسحي غبارَ النصر عنها، مكتوبٌ على جبينِها المكلل بالغارِ: "نحنُ صنّاعُ النصر، وشمسُ الحقّ".

ألبسي الفخرَ ثوباً، انزعي السواد، وارفضي الحداد، واخرجي من كهوفِ الخوف، واكتبي بدمِ الشهيد، هذا منزلُ الفخار.

قولي لهم أنكِ رأيتِ نورَ المسيحِ على صدرِ الشهيد ينيرُ كبدرِ تشرين، ومكتوبٌ على وجههِ "اللهم صلِّ على محمد خاتم الأنبياء"، ووجدتُ قرآناً آخر ما قرأ فيه سورةُ مريم "عليها السلام".

عطركم ينعش الروح

لا شيءَ يليقُ بكم، لا انحناءاتُ البعض، ولا خطابٌ على المنابر، ولا حتى صورٌ تملأ الفضاء، ربما يليق بكم غصنٌ من الصدق كقلبكم الطاهر.

لكلِّ شهيدٍ دمعةٌ تتدحرجُ على خدِّ الألم، تروي لنا أشجانَ من ذرفوها، وتحكي قصةَ معاناةٍ عاشوها، تقصُّ علينا بكل عنفوانٍ وكبرياء، كيفَ أنهم جاعوا وعطشوا! لكنهم بقوا جبارين وصامدين كجبلِ قاسيون، دخلوا ساحاتِ الوغى بفؤادِ ليث، ضربوا بيدٍ من حديد وخرجوا بالسلاحِ صديق، وبالشهادةِ أو النصرِ طريق.

للموتِ رائحةُ الحزنِ والشجن، لكنّ للشهادةِ رائحةُ المسكِ والبخور، تملأ مساماتِ الذاكرة لتنعشَ أنفاساً تحتضر.