دام برس :

لا يكتسب مشروع ما مشروعيته إلا عندما يحظى بإجماع يمثل الغالبية الساحقة لأصحابه والمستفيدين منه ، ولا يكون المشروع وطنياً إلا عندما يكون مشروعاً نهضوياً تقدمياً ، والمشروع الانفصالي الكردي لم يكن يوماً مشروعاً وطنياً لأنه لم يمثل يوماً مصلحة الأكراد بل يمثل مصالح أطراف إقليمية ودولية لا تنظر إلى الأكراد إلا كورقة تخدم أجندتها وسياساتها في المنطقة ، فمشروع الدولة الكردية لا يمكن إلا ان يكون مشروعاً انفصاليا ً يسلخ الاكراد عن هويتهم الوطنية ويقوقعهم في بوتقة قوميتهم دون إمكانية بلورتها لأن الدولة القومية ترتكز إلى مقومات لا تتوافر جميعها في الحالة الكردية فالاندماج الكردي في دول المنطقة أكسبهم صفة وطنية وجعلهم مكوناً من مكونات المجتمع الذي يعيشون فيه كسائر القوميات الأخرى متمتعين بمزايا الانتماء الوطني ومترتبات المواطنة في الدول الموجودين فيها، فضلاً عن أن الدولة التي يروج لها تستوجب تهجير ما يمكن من الأكراد إليها وبالتالي نزوجهم من مناطق لطالما عاشوا فيها وأسسوا لحياتهم واقتصادهم فيها وعلاقاتهم الاجتماعية، وأياً يكن من أمر فإن الدولة التي يريدها الإسرائيلي اليوم للأكراد في العراق هي طوق خانق بالنسبة إليهم لن يعود بمقدور أي مواطن فيها  التنقل داخل دولته الأم دون جواز سفر وتأشيرة دخول فضلاً عن الاختناق الاقتصادي مع دول الجوار التي تعارض الانفصال ، ومهما كانت التطمينات الإسرائيلية بتدفقات الأموال الموعودة والمساعدات المأمولة فلن تكون كافية لتحريك اقتصاد لآلاف القاطنين الأكراد في هذا الإقليم وبالتالي فإن مشروع الانفصال في كردستان العراق هو مشروع صهيوني يشرف عليه عراب الصقيع العربي المشؤوم برنار هنري ليفي ومسعود البرزاني الخادم الوفي للسياسة الصهيونية في المنطقة منذ زمن طويل، والمستفيد الوحيد ربما هو إسرائيل وتركيا، فإسرائيل تستفيد باحتواء أطراف محور المقاومة وقطع جسر التواصل بينهم عبر هذا الكيان المصطنع فهو محاذي لإيران وسورية ويقبع سرطاناً في جسد العراق إضافة إلى فتح البوابة أمام صراعات جديدة في المنطقة على أساس قومي وإثني وربما طائفي لاحقاً فالمشروع لا يتوقف عن حدود الحالة الكردية والمطلوب تعميمه ليشمل أطيافاً أخرى من المجتمع العربي، والأتراك اليوم يرتاحون إذ يحشر الأكراد في بوتقة جغرافية ضيقة يتم العمل على جعلها مركز جذب واستقطاب اقتصادي ومالي لتصفية القضية الكردية في وجدان من تبقى يحملها فتصبح قضيته هو العيش الرغيد الذي يرى نموذجه في ذاك الكيان المصطنع، وتصفى لاحقاً القضية الفلسطينية إذ يكون العرب منشغلون في تصفية صراعاتهم الهامشية وينشغلون عن عدوهم الأساسي وهو الكيان الصهيوني الذي بات بفضل هذا الكيان الكردي يقبع على ضفاف الفرات ممتداً كنفوذ استراتيجي على رقعة أوسع من الجغرافية العربية.

إن إعلان البرزاني في هذا الوقت بالذات عن استفتاء الانفصال يأتي بإيعاز إسرائيليلاحتواء الانتصارات التي يحققها الجيش السوري وحلفاؤه من جهة وما يحققه الجيش العراقي من جهة أخرى لتطويق الفضاء السياسي للانتصارات العسكرية تلك، ورغم معارضة بعض القوى الكردية وغيرها من شرائح اجتماعية هذا الاستفتاء يجري اليوم بالقوة ليفرض مشروع إسرائيل في المنطقة بعد تقهقر ورقة داعش ومشتقاتها في الساحتين السورية والعراقية، فالمنطقة لا يجب أن تلتقط أنفاسها أو تبلور انتصارها العسكري بل يجب أن تبقى ساحة صراع مفتوح المسميات والأسباب .

بكل الأحوال إن استهداف الفكرة القومية العربية لا يزال قائماً لا بل والفكرة الوطنية بكل حواملها من خلال تمرير مشاريع تعزز ارتباط الفرد بمكاسبه الشخصية لا الجمعية المجتمعية وتكرس مفاهيم الانعزال عن الآخر رويداً رويداً ليسهل الانقضاض علينا جميعاً بعد اندثار الانتماء الوطني ومفرداته العقائدية أمام المال والحاجة إليه ، فكل شيء يجب أن يشترى ويباع في القاموس الصهيوني حتى الإنسان كي يتمكن لاحقاً من بيع أرضه وشعبه وقضيته ويصبح بلا وطن أو هوية يعيش ويحيا كي يأكل ويشرب ويتكاثر كحيوانات السيرك التي يروضها صاحبها فتصبح غريبة عن ذاتها وتوغل في اغترابها حتى تتنكر لهذه الذات بالمطلق .

إن فهم ما يريده الصهيوني من أمتنا وشعبنا العربي عموماً بات واضحاً أكثر من أي وقت مضى بعد الحرب التي نخوضها بكل مرتسماتها ، واليوم خشبة خلاصنا الوحيدة هي الوعي لما هو مستهدف ومنع استهدافه بصونه والحفاظ عليه فعندما تكون القومية العربية مستهدفة فعلينا التمسك بها أكثر وعندما يكون الانتماء الوطني على محك الضياع علينا الحفاظ عليه جيلاً بعد جيل كي تبقى الهوية ويبقى الوطن ، وجيشنا الباسل اليوم بما يقوم به هو عنوان التصدي الحقيقي والفعلي لهذا المشروع والالتفاف عليه عقائدياً وإعلاء راية نضاله يجب أن تكون هاجسنا اليومي في حياتنا لنضمن مستقبلنا ومستقبل أجيالنا لاحقاً، فالمشروع الكبير قد سقط وها هو المشروع البديل يطل برأسه أمامنا وعلينا قطع هذا الرأس ودابره كي نصون وحدتنا الوطنية والقومية من خلال مزيد من التمسك بمنظومة المفاهيم والقيم الوطنية ومزيد من التماسك بين جميع مكونات المجتمع السوري بما فيها السوريون الأكراد الذين يعيشون اليوم مرحلة مفصلية في تاريخ وجودهم فإما أن يبقوا من خلال هويتهم الوطنية وإما أن يندثروا بين أجندات إسرائيل وعمالة بعض قادتهم الذين لا يعبئون بكل الشعارات التي يتشدقون بها وينبطحون امام إرادة الإسرائيلي على حساب مستقبل أبناء جلدتهم حيث سيرمون بهم في هاوية الفراغ القومي والوطني .