دام برس:
كثيرة هي إشكاليات الوعي الإنساني في إطار تعريفه أو إعادة تعريفه حسب المراحل التاريخية التي تمر بها الشعوب ففي المراحل التي تكون فيها الشعوب مهددة بأخطار معينة يتخذ الوعي الجمعي لهذه الشعوب شكل المدافع عن الوجود والمواجه لهذه التحديات في حين أنه يأخذ أشكالاً أخرى في المراحل التي لا يوجد فيها تهديد مباشر لهذا الشعب فمنها ما يغرق وعيه الجمعي في دهاليز الاستهلاك الفكري والتشتت المعرفي وخاصة في ظل غياب مشروع ثقافي معرفي ناهض تشتغل عليه النخب المثقفة لتعبئ باقي فئات الشعب الواعية لأهمية وجود هذا المشروع غير القادرة على تشكليه ، كما يأخذ في أحيان أخرى شكل المتفاعل السلبي مع ظواهر مستجدة في وسطه فيحاول تشخيصها وتحليلها دون امتلاكه لرؤية واضحة لكيفية معالجتها فيقع أسير المقاربات النظرية لمشكلاته دون أن يجد حلولاً حقيقية لها ..الخ ..
أما في الأزمات الكبرى أو الحروب العالمية فإن الوعي الجمعي للشعوب لا يكفي بان يكون أداة مواجهة بل لا بد له ان يتحول إلى ركيزة بناء حقيقية على قاعدة معرفة نقاط القوة والضعف التي برزت خلال الحرب وبالتالي يشكل حالة حصانة لمراحل تاريخية لاحقة تتفاوت مدتها حسب متانة البناء الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي شكله هذا الوعي ..
من هذا المنطلق نجد أنه من غير الممكن التفكير بإعادة تشكيل الوعي الجمعي أو بنائه لأننا في هذه الحالة ننكر وجوده وهذا أمر غير منطقي ومن جهة أخرى نقع في مشكلة الخلط بين الوعي كحالة إنسانية فكرية متراكمة زمنياً وبين تأطير هذا الوعي أي التحكم به وتوجيهه سياسياً أو اجتماعياً .. فالوعي حالة قائمة في الذات الفردية أو الجمعية بحكم التجربة المتراكمة ووجود منظومة القيم والمفاهيم التي تتشكل منها الذهنية الفردية أو الجمعية في حين أنها قد تتخذ أشكالاً مختلفة في التعبير عن ذاتها أو في بعض الأحيان تفتقر لأدوات التعبير فتبدو في الشكل العام غير واضحة المعالم أو خجولة فيكاد يقول البعض أن الوعي الجمعي غير موجود أو يحتاج إلى إعادة تشكيل ..
ولذلك أعتقد أن المطلوب في هذه المرحلة هو إعادة تأطير الوعي بمعنى إعادة ترتيب أولوياته وتحديد طرق توظيفه بما يحقق تلك الركيزة لبناء اجتماعي سياسي اقتصادي مستدام ..آخذين بعين الاعتبار حصيلة المتغيرات الناجمة عن الحرب بكل أبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية وتحديد آليات تأطير الوعي الجمعي من خلال خطاب مؤثر وحراك ومنظم للقوى الحية في المجتمع لتعزيز الهوية والانتماء الوطني كدائرة صغرى ثم الهوية والانتماء القومي كدائرة كبرى ، فالانتماء القومي هو الحامل الذي يعطي المشروعية لوجود الانتماء الوطني واستمراره وتناميه فلا يبقى حبيس مكانه وزمانه وأطره الفكرية بل يتجاوز ذلك كله لينمو في فضاءات أرحب تعزز وجوده وتكامله مع مكونات أخرى تتقاطع معه في زوايا أساسية فيصبح حالة منفتحة ومتفاعلة على محيطها وليست منغلقة عليه .
فالعروبة هي الفضاء الرحيب الذي ينبغي للانتماء الوطني أن يصب فيه لتتكرس أهميته في تشكيل هذا البعد الجغرافي والتاريخي بمرتسماته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وليعبر فعلا عن أصالته من حيث التأثير في محيطه والتأثر إيجاباً به أيضاً .. من هنا تبرز ضرورة تأطير الوعي في هذا الاتجاه ليشكل سيرورة لدى الفرد والمجتمع وخاصة بعد حرب مفاهيم استهدفت تشتيت الوعي الفردي والجمعي وحرفه عن مساره الوطني والقومي من خلال إيجاد مسارات أخرى مذهبية وطائفية وإثنية وغير ذلك ..
