دام برس :
يؤكد لنا التاريخ السياسي على مدى السنين الطويلة شدة العداء بين المحافظين التقليديين الأمريكيين والنهج الروسي السياسي، فقد سعى الأول جاهداً الى إزالة الإتحاد بكافة الوسائل والطرق، الى أن تحققت رؤيتهم بالإنفراد بالعالم، كما كان الإتحاد السوفييتي مدركاً تماماً لخطر ذلك التيار المحافظ وسلوكه الذي سيصبغ عليه طابعاً جديداً على السياسة الأمريكية.
واليوم إستعادت روسيا ذلك الإدراك بعد شعورها بأن الأمريكيين تمادوا في تطلعاتهم نحو الشرق الأوسط وشرق أوروبا التي تعتبر منطقة حيوية لها، ولا يستبعد على روسيا ذلك الرد في خطابها السياسي نحو الأمريكيين لأن سلامة مناطقها من سلامة امنها القومي، فهي لا تتوانى عن دعم القوى الإقليمية الصديقة، بصفتها حليف إستراتيجي بالمنطقة ضد توسع النفوذ السياسي الأمريكي الذي بات مهيمن على العالم.
نظراً للظروف السياسية التي أوصلتنا إليها الولايات المتحدة الأمريكية من أزمات وكوارث سياسية نسمع صوتاً يأتي من الكرملين ومن الرئيس الروسي بوتين شخصياً يهدد وبالرد الفعلي على مزاعم الرئيس الامريكي تجاه بعض الأزمات في المنطقة، إذ أكدت التجارب بأن غياب روسيا من المعترك الدولي بعد تفكك عروقها على يد التروتسيكا والتي كان يقف وراءها المخطط الأمريكي، فشل السياسة الأمريكية فى إدارتها وإخفاقها فى أن تصل بنا إلى عالم يتسم بالأمن والإستقرار وذلك على خلاف ما توقع الباحثون السياسيون والتي كان يرون أنها سوف تؤدى إلى تحقيق المزيد من الهدوء فى العلاقات الدولية ورفاهية العالم وتمتعه بالمزيد من النمو ولكن ما حدث كان العكس من ذلك فقد إرتفعت معدلات الصراعات و الحروب الأهلية في المنطقة .
لذلك كان سوء الإدارة الأمريكية أحد الأسباب التي أدت إلى عودة الدب الروسي إلى المياه الدافئة مرة أخرى والتي شجعت روسيا أن تدخل بقوة، ورأينا ذلك فى الأزمة السورية التي وقفت إلى جانب سوريا وكذلك فى أزمات أخرى فضلاً عن الإقبال من جانب بعض الدول بالعودة إلى أحضان الدب الروسي من جديد.
فاليوم يراقب العالم تطورات أزمة شبه جزيرة القرم منذ بدايتها حتى قرار الرئيس بوتين باستقلال القرم وضمها إلى روسيا الإتحادية ويترقب نتائجها المستقبلية، بينما الرئيس الأمريكي أوباما مشغول بإنذاراته وتهديداته ومعه رؤساء الإتحاد الأوروبي فى حين نرى الرئيس بوتين غير مهتم أو مكترث ويسعى جاهداً إلى إستعادة روسيا قوتها ونفوذها وأمجادها فى العالم مثلما كانت في زمن الإتحاد السوفيتي السابق.
فالذي جرى في أوكرانيا هو رسالة أمريكية لروسيا تحمل نبرة ولهجة وفعل العقاب انتقاماً منها على الدور الذي لعبته في الشرق الأوسط مؤخراً فروسيا التي رفضت الضربة الأمريكية لسوريا سببت حرجاً كبيراً لإدارة أوباما وإنتقاصاً من مكانة أمريكا الإمبراطورية، وروسيا التي باتت مقصداً للمصريين أفشلت فكرة تسليم الشرق الأوسط لجماعات الإسلام السياسي بالوكالة لتتفرغ أمريكا للإستدارة نحو شرق آسيا، والتعاون الروسي السعودي الوثيق إعتبر لطمة على الخد الأمريكي إنطلاقاً أيضا من أن السعودية داعم رئيسي لثورة 30 يونيو في مصر.
فالحقيقة التي يجب أن ندركها بيقين أن روسيا من هذا المنطلق أسهمت بقدر كبير في تغيير الصورة الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط ما جعل خسائر الأمريكيين تزداد وتتعاظم إذ ترى روسيا أن أميركا اصبحت مهزوزة، فقد كانت مقامرة بوتين الأوكرانية بمثابة صدمة لمؤسسة السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وهم يفضلون الحديث عن الصين أو المشاركة في مفاوضات السلام الإسرائيلية الفلسطينية، وترى روسيا أميركا هشة، في أفغانستان وفي سورية وحول إيران، والولايات المتحدة تحتاج على نحو يائس إلى الدعم الروسي للإستمرار في شحن إمداداتها واستضافة أي مؤتمر سلام أو تفعيل عقوباتها.
وأخيراً ربما يمكنني القول إن تصاعد وإنبعاث الأبخرة التي تنبئ بإنفجار بركان الصراع الروسي الغربي خلال أزمة القرم، ستؤدي الى المزيد من الحمم الملتهبة حيث تشير التحركات الروسية إلى أن بوتين لن يكتفى بتلك الرقعة الصغيرة التي نجح في ضمها، بل سيسعى لتحقيق مكاسب أكبر من ذلك وهو يدرك أن الغرب ليس لديه حتى الآن، أكثر من عقوبات واهية