دام برس
كتب الدكتور عبد اللطيف عمران في افتتاحية صحيفة البعث السورية , تحت عنوان : في العودة إلى ما قبل آذار 2011 مايلي : أغلبنا يقول إن تلك العودة غير ممكنة، وغير مرغوب بها، إذن فيمَ الخلاف، وهل أسبابه داخلية فقط ؟ إنها أسئلة واقعية ومشروعة، وعامة، تطال الاهتمام والقلق على المستويات المحلية والإقليمية والدولية، فمن يملك الإجابة عنها؟ ومن الذي سيقرر ذلك؟
بالنظر الى الواقع الذي تعيشه سورية، والمنطقة بعامة، فإن التساؤل مرير. فهل العودة مطروحة أساساً، ومن الذي له مصلحة فيها، أو في غيرها، وما هو السائد قبل آذار 2011 ، وما هو المستجد ؟
الجميع يعرف ثقل سورية الجيوسياسي والتاريخي، ويعرف ديناميكية المجتمع السوري وحيويته وفاعليته وحساسيته تجاه القضايا الوطنية والعربية والدولية، فنحن شعب لا يوجد فيه أفراد حياديون تجاه السياسة والاقتصاد والثقافة. وأغلبه متمرّس بالحزبية وعياً وانتماء، دون شرط الانتساب تنظيمياً، ومن هنا تكمن، ومنذ زمن طويل، صعوبة وأهمية وخطورة الإدارة والحكم فيه، فما بالك إذا أمعنت النظر في هذه التشكيلة الغنية جداً من الفسيفساء الاجتماعية وتوافقها على التنوّع والتوحّد.
قبل آذار 2011 خرجت سورية بصعوبة من مواجهة تحديات عديدة نجمت عن أحداث إقليمية معقدة في العراق ولبنان وفلسطين...، وتألّق حرصها على الوحدة الوطنية والوفاق الداخلي وتعزيز الحوار الوطني والعربي، ومقاومة المشروع الصهيوني الأمريكي، ودعم المقاومة والحق العربي. ونجحت في تطوير علاقات إقليمية جديدة انطلاقاً من التعاون والاستقرار والتكامل الإقليمي، وكان دورها، وبقيادة الرئيس الأسد، أساسياً ومتميزاً في إزالة عوامل التوتر والاحتقان بين شعوب البحار الأربعة.
فكانت دمشق في السنوات الثلاث التي سبقت 2011 مركز استقطاب إقليمي ودولي، ولا سيما في علاقاتها مع قطر وتركيا، وكان بعض ذلك - كما تبيّن لاحقاً - ردة فعل على استهدافها بسياسات الحصار والعزل، وفي إطار سعيها الى التكيف والانسجام، دون أن تكون الثوابت والمبادىء السياسية والاقتصادية قيداً. وتحقق ذلك على قاعدة متينة من رسوخ الوحدة الوطنية والمجتمعية، وقوة الدولة والشعب ومنَعتهما.
بعد آذار 2011 تقدمت فجأة وبسرعة مباغتة، وبشكل يشبه الانقضاض، والمؤامرة الخفيّة والمبيّتة والمعدّة مسبقاً - ولا شك - على أساس من الخداع طروحات مغايرة سرعان ما تحولت الى جرائم لتقويض المجتمع قبل الدولة، وإلى استهداف ثوابت ورموز وطنية أولها العلَم، والعيش المشترك، والمؤسسات العامة، والجيش الوطني. وتسارعت الفوضى الهدامة رافعة شعارات مراوغة اتضح مباشرة علاقاتها الأساسية والعضوية بدول الاستعمار التي طالما صادرت الحق العربي، واحتلت الأرض، ودعمت المشروع الصهيوني بمخاطره وأهدافه المعروفة.
وتبدّت مخاطر جديدة نتجت عن تحالف مريب مخرّب تقوده بشكل سافر ووقح دول ثلاث معروفة قدّمت الدعم بالمال والسلاح والمجرمين للعصابات التي دمّرت حوالى 20٪ من مراكز تحويل الطاقة الكهربائية، ومثلها من المشافي العامة وسيارات الإسعاف، ومن السكك الحديدية والجسور، والمؤسسات العامة.... واقترن هذا بجهود إعلامية وفكرية وسياسية لتقديم هذا الفعل الإجرامي على أنه ثورة شعبية مشروعة، وظهرت طبقة جديدة من مثقفي البترودولار والارتزاق والفنادق والمطارات الرجعية والأطلسية تتخذ من أمثال برنار هنري ليفي وداود أوغلو والقرضاوي وعزمي بشارة، ومأجوري مجلس استنبول... رموزاً للتحوّل والتغيير الذي ينشدونه تخريباً وطنياً وقومياً، في وقت بُنيت فيه الثقافة الوطنية والعروبية واستقرّت على أن لا دور وطنياً ولا عروبياً ولا إنسانياً معهوداً لثقافة البترودولار.
إن التحوّل والتغيير البنّاء لا يتم بجرائم جنائية موصوفة، ولا يتحقق دون دليل نظري واضح، وفعل تنويري يهدف الى الاستقرار والبناء، وعقل وحكمة يقودان حواراً وشبه إجماع شعبي يجعل التحوّل رغبة مجتمعية يقبلها الشعب ويُقبل عليها، لأنها تنبع من هواجسه الداخلية، وليس من إملاءات ورغبات وأدوات خارجية تستجدي التدخل العسكري الخارجي أولاً. وهنا المطب الأكبر الذي يقع فيه هذا الخليط من الإسلاميين والرجعيين ومدّعي اليسار والليبرالية والوطنية الذي يرون في قطر والسعودية والإسلام السياسي -لا التاريخي- قبلة الثورة والحرية.
والحقيقة: إن العودة الى ما قبل آذار 2011 ليست هدفاً، ولا سيما أن برنامج الإصلاح الوطني يكرّس هذا على مستوى السياسة الداخلية، لكن السؤال ينصب حول الجوانب الإيجابية العديدة التي كان يتمتع بها السوريون شعباً ومجتمعاً ودولة وأهمها الأمن والاستقرار والتقدم.
وعلى مستوى السياسة الخارجية لا يمكن للشعب السوري وفي ظل أي طيف سياسي أن يسامح تاريخياً ومستقبلياً مَن استهدف ثوابته الوطنية والقومية، هؤلاء الكذبة والمنافقين الذين يعززون رفض الحوار الوطني، ويدعمون الإرهاب والتخريب والقتل كي لا يعود الى سورية ثقلها العربي والإقليمي. كما لا يمكن لهذا الشعب أن يسمح - مثلاً - بالعودة الى جامعة عربية تستبدّ بها دويلة مثل قطر.
وإذا كانت المراجعة النقدية ضرورة بنّاءة، فلا بد من خطاب جديد، وبرنامج مغاير قادر على إنجاز التحوّل المنشود في زمن عربي صعب، تُغيّب العناصر المكوّنة للمشهد الاحتجاجي العربي فيه كل أمل حينما تلتصق بالخارج أولاً، وتسعى مباشرة الى السلطة فقط ثانياً. زمن لا يسمح فيه الغرب للنظم العربية القديمة والجديدة أن تقف الى جانب سورية الشعب والدولة والثوابت وأهمها مقاومة المشروع الصهيوني ودعم المقاومة الوطنية.
وإننا في سورية لقادرون على إنجاز المراجعة النقدية والتحول المنشود.
د. عبد اللطيف عمران
المدير العام - رئيس هيئة التحرير في صحيفة البعث