دام برس:
ما كان احد ليتخيل يوماً ما مهما أبحر في فضاء السياسة والدبلوماسية أن سكان الكهوف في تورا بورا والمتطرفين في قندهار من الممكن أن يسافروا على متن الطائرات الدبلوماسية ليحطوا في جنيف وكاميرات المصورين تلاحقهم لتلتقط ملامح وجوههم الممتلئة بلحاهم المطلقة على غير هدى وشعرهم الطويل الأشعث برائحة العصور الغابرة وثيابهم المميزة بموضة القرن السابع الهجري ..
وهم أنفسهم ربما ما كان يخطر في بالهم الذهاب إلى جنيف إلا كمجاهدين ضد الكفر في سبيل الله حسب تفكيرهم فإذ بهم اليوم ضيوف يحجز لهم في فنادق النجوم الخمس أو أكثر كمشاركين في مؤتمرات السياسة الدولية فيشاركون بعقيدتهم المتطرفة ويعبرون عن رغبتهم الجامحة في ذبح من يخالفهم والتهام أعضائه أمام كاميرات الإعلام العالمي ويعلنون أمام الملأ عن سعيهم لإقامة دولة الخلافة الإسلامية في العالم وتكفيرهم لمن لا يشاركهم هذا السعي ..
ولمَ الاستغراب ؟؟ فالوجه الحقيقي لأصحاب اللغة الدبلوماسية والذقون الحليقة وربطات العنق والعطور الباريسية هاهو ذا .. ها هم ينظرون في مرآة ذاتهم فيرون أنفسهم في هؤلاء التكفيريين البدائيين .. الذين صنعوهم ليخدموا مصالحهم وينفذوا خططهم فيدعمونهم سراً ويذمونهم علناً فيقولون عنهم " إرهابيون " وفي الحقيقة أنهم قتلة ومجرمون لكن الإرهابيين الحقيقيين هم أولئك الصانعون المخططون الموجهون والداعمون .
مشكلة الغرب اليوم أن أدوات القتل التي ابتكرها وألبسها لبوس الدين الإسلامي ليجد لها موطئ قدم في كل الدول الإسلامية ويستقطب الطبقات الساذجة الجاهلة في مجتمعاتنا ليدخلها في عباءتها لم تنجح في تنفيذ خططه في سورية والتي تعتبر محور الشرق الأوسط بكامله رغم كل الدعم والتسويق لهم ونعتهم بمصطلح المعارضة المسلحة ليضفي عليهم شرعية الوجود السياسي والإعلامي ويقول عنهم أنهم ثوار لا إرهابيون وأصحاب مطالب لا أصحاب جرائم فهاهي معارضته المسلحة اليوم لا بد لها وأن تكون جزءاً من الحل باعتبارها جزءاً من المشكلة حسبما كان يدعي هو ويدعم قادتها العسكريين فبأي منطق اليوم سيستبعدها ؟؟ وبأي منطق سيجلس معها وهو الذي صنعها لتقاتل بالنيابة عنه ويحصد هو ثمار جرائمها مكاسب في السياسة ؟؟
هو مشهد درامي حقاً أن يتلقي هؤلاء مع رؤساء الدبلوماسية الذين مهدوا لهم من حيث يعلمون أو لا يعلمون الطريق للظهور السياسي فهاهم ثوارهم يظهرون على الشاشات مباشرة بلبوس القاعدة وبشعاراتها وأفكارها فعن أي ثورات ربيع عربي كانوا يتحدثون ؟؟
ولذلك كانت محاولات التمييز بين معارضة مسلحة متطرفة وأخرى معتدلة لإظهار أن من يقاتل على الأرض ليس ذاك التكفيري الإرهابي المنتمي للقاعدة بل مواطن سوري يكافح ضد الدولة المستبدة حسب زعمهم ورغم ذلك لم تنجح هذه المحاولات فعليا لأن القتل ليس فيه تطرف أو اعتدال فالفتل قتل والإرهاب إرهاب إضافة إلى أن التكفيريين المرتبطين بالقاعدة يشكلون غالبية ساحقة بين المجموعات المسلحة وظهروا كثيرا عبر وسائل إعلامية مختلفة يتباهون بمجازرهم وعمليات ذبحهم للآخرين وبالتالي فلا يمكن لأمريكا تجاهل وجودهم سياسياً وبات لزاماً عليها إما أن تفتت بنيتهم وتزرع أسباب الاقتتال فيما بينهم وتخلق فصائل جديدة من المجموعات المسلحة متباينة عن كل تلك الموجودة على الأرض ليتم تصفية بعضها بعضاً على خلفية خلافات عقائدية أو على اقتسام الزعامة والمكاسب وبالتالي يستحيل إظهارهم ككيان واحد قابل للجلوس على طاولة سياسية ولذلك تم الاتفاق بين الروس والأمريكيين على ضرورة تصفية الإرهاب وتجفيف منابعه الأمر الذي سيكون نسفا لمصلحة السعودية التي رأت نفسها في وجود الإرهاب في المنطقة كذراع عسكرية تحقق لها مكاسب في السياسة وأدواراً إقليمية ودولية ، أو أن تؤجل الذهاب إلى جنيف برمته بحجج مختلفة منها عدم توحد المعارضة السياسة وعدم طرحهم لبديل عن الدولة السورية ...الخ وهذا ما جعل العلاقة بين الولايات المتحدة والسعودية تتدهور مؤخراً وخاصة بعدما التفتت الولايات المتحدة لتحقيق مصلحتها بمعزل عن مصالح حليفتها السعودية التواقة لضرب سورية وتفتيت المنطقة وتزعمها لها ..
فالولايات المتحدة تدرك أن المشروع فشل في سورية لكن مصلحتها مع الروس أكثر فائدة لها في الوقت الراهن من مصلحتها مع السعودية التي فشلت بالمطلق في تحقيق ذاتها إقليميا في هذا المشروع الكبير وبالتالي لا مشكلة للولايات المتحدة في جعل السعودية تدفع ثمن فشلها وعواقب التقارب الأمريكي مع الروس والإيرانيين لكن المشكلة لدى السعوديين في دفع هذه الكلفة حقاً لأن الكلفة قد تكون خروج السعودية لا من المنطقة فحسب بل من التاريخ بكامله.
بكل الأحوال إن الالتفاف الأمريكي باتجاه الروسي من منطلق المصلحة وبدايات تفتيت بنية القاعدة في سورية وشرذمتها هو فعلياً بداية بتر ذراع السعودية الوهابية إقليمياً ونزع أنيابها ومخالبها في المنطقة إلى الأبد ولذلك تقاتل السعودية كي تحافظ على ذراعها قبل أن يقطع لكن باعتقادي قد فات الأوان ..
فهل ما نشهده اليوم فعلا نزاعاً بين الولايات المتحدة والسعودية حول تمثيل الجماعات التكفيرية في جنيف ولهذا السبب لم يزر الإبراهيمي السعودية ؟؟ وإن لم يحصل ذلك فهل سيكون مؤتمر جنيف محكوماً بالفشل ؟؟
بكل الأحوال إن الاتفاقات الكبرى قد تمت ونتائجها تظهر تباعاً إقليمياً ودولياً وسورية تريد اليوم نصراً مبيناً في الميدان على الإرهاب الذي تريد الولايات المتحدة أيضاً تصفيته لكن لأسباب تتعلق بمصالحها هي لا بمصالح السوريين والمجتمع الدولي بات يغني أغنية واحدة هي الحل السياسي في سورية ومن يغني خارج الجوقة لن يسمعه أحد بل سيعزل نفسه شيئا فشيئا إلى أن يخرج من دائرة الفعل السياسي نهائياً وهذا ما سيحصل للسعودية وحكومة اردوغان وعبر اليد الأمريكية بالذات.
المقال نشر في صحيفة الثورة بتاريخ 4 / 11 / 2013