دام برس:
تلعب المناهج التعليمية دوراً هاماً في تقدم المجتمعات والدول، إذ إنها تعمل على خلق مواطنين صالحين قادرين على الإسهام في التقدم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي بما لديهم من طاقات خلاقة، ولهذا تتحمل الدول نفقات باهظة في إعداد مناهجها الدراسية، التي تلبي الحاجات التربوية لأطفال المجتمع وشبابه، لأن هدف أي منهج هو رفع مستوى الطالب وجعله محور العملية التعليمية وتعزيز مهاراته في التفكير والإبداع والتعلم.. ومن هنا صبّت وزارة التربية السورية جل اهتمامها على المناهج وتطويرها بشكل مستمر، وكان آخرها المناهج الحديثة الموجودة في المدارس (في حال حظي الطالب بنسخة)، والتي صاحبها الكثير من الجدل بين مؤيد لها ومعارض لمحتواها وأسلوب عرضها.
وعلى الرغم من كل ما تحويه المناهج الجديدة من إيجابيات وسلبيات، إلا أن الطالب بقي هو (فأر) التجارب، يتحمل انعكاساتها ورفض المدرسين لتغيير طريقتهم في التحضير وتقديم المادة العلمية من جهة، ومحاربة الأهل لها من جهة ثانية.
إن موضوع المناهج الحديثة يطرح تساؤلات عديدة؛ فإلى أي مدى تساير هذه المناهج تطور العملية التعليمية وتنسجم مع المعايير العالمية؟ وهل هي قادرة على تجاوز الشرخ الاجتماعي الذي أصاب بنية المجتمع السوري، وتعزز الانتماء للوطن أولاً وآخراً؟ هل من أسباب موجبة لتتحمل الوزارة هذه التكاليف المالية في ظل الأزمة الاقتصادية التي نعانيها؟!
معاناة لا تنتهي
اختلفت آراء المدرسين والمدرسات حول المناهج الحديثة، إلا أنهم اتفقوا بالمجمل أنها جيدة، لكنها لا تتناسب مع الواقع التعليمي لمدارسنا، وبالأخص للكوادر القديمة الذين لم يتمكن بعضهم من التماشي مع الأساليب الحديثة في التدريس والتعليم، لعدم استيعابهم لها وعدم رغبتهم في التعلم والتغيير، وهذا ليس ذنب المعلم، لأننا لم نجدد معلوماته وطرائق تعليمه على مدار سنوات. والأهم من ذلك عدم توافر الوسائل التعليمية اللازمة للمناهج الحديثة وخاصة أجهزة الحاسوب، الأمر الذي انعكس على طريقة إيصال المعلومة وفق الأسلوب الحديث، ما يضطر المدرسين للعودة إلى الطريقة القديمة، وهو ما أكده مدرس الجغرافية وائل، لافتاً إلى أن التأخر في تسليم الكتب للطلاب في بداية العام، وعدم حصول عدد كبير من الطلاب عليها حتى الآن، أثّر على سير الدروس.
ولدى سؤاله عن النسخة الإلكترونية من المناهج قال: (هل يملك كل طلابنا أجهزة حاسب ليستفيدوا منها، ولو افترضنا ذلك، ما حال الطلاب ضمن مراكز الإيواء)؟ هذه النقطة دفعت وائل وغيره للاعتماد على الملخصات ريثما تتوفر الكتب، علماً أنه أسلوب ممنوع حسب وزارة التربية.
ومن جهته أشار أحد مدرسي اللغة الإنكليزية إلى أن حجم المناهج الجديدة لا يتناسب مع عدد الحصص الدرسية، أضف إلى ذلك أن قصر فترة الحصة الدرسية لا يتيح المجال لإثراء الدرس بالوسائل التعليمية في حال توافرها، الأمر الذي أكده مدرس الفيزياء لؤي قائلاً إن كثافة المعلومات تفرض على المدرس أسلوباً جذاباً في عرض المادة التعليمية وخاصة أن بعض الدروس تتسم بتعقيدها وعدم تسلسل الكتابة بشكل منطقي.
أما منهاج اللغة العربية فلم يكن تفاعل الطلاب معه بالشكل المطلوب، وهو ما عزته ابتسام، مدرّسة الصف العاشر، إلى اعتماده على التحليل والتركيب والتقويم وتنمية التفكير الإبداعي عند الطالب، وهذا بالتأكيد جيد.. لكن الطالب لم يعتد هذه الطريقة في التعليم، فقد كان سابقاً يعتمد على الحفظ والتذكر، ودون فهم في أحيان كثيرة.
وعلى الرغم من تغير المنهاج وطرائقه، إلا أن الأسئلة الامتحانية ونمطها لم تتغير، أي منهاج حديث مع أسئلة تقليدية.
يضاف إلى ذلك أن الدوام النصفي الحالي الذي عادت له بعض المحافظات، بسبب الظروف الحالية، انعكس على الأداء وعلى استيعاب الطلاب.
بينما كان للأهالي رأي آخر، وهو عدم قناعتهم بالمناهج الجديدة، لعدم تمكنهم من متابعة دروس أبنائهم واضطرارهم لزيادة عدد الدروس الخصوصية، وهذا ما أكده أحد الأولياء قائلاً: أنا أحمل إجازة في الاقتصاد، وزوجتي تحمل إجازة جامعية، ولا نعرف كيف نعلم أولادنا، وقال: «إن المناهج مكثفة وتفوق قدرة الطلاب وهو ما ينعكس سلباً على مستوى الطلاب الدراسي ويشعرهم بالإحباط وبالتالي النفور من الدراسة فليس المهم هو حشو عقل الطالب بالمعلومات فقط وإنما المهم هو قدرة استيعابه لهذه المعلومات».
يشار إلى أن وزارة التربية أجرت دورات تدريبية على كيفية التعامل مع المناهج المطورة بهدف تمكين المعلم، والمدرس، والمدرس المساعد، والموجه الاختصاصي، والموجه التربوي من التعامل مع المناهج المطورة، وتطوير أداء جميع الأطر التعليمية، لكن العديد ممن اتبعوا تلك الدورات رأوا أن فترتها الزمنية لم تكن كافية، ولم تحقق الهدف منها لاعتمادها الأسلوب النظري، متمنين لو تم تنفيذها ضمن المدارس وعلى الطلاب أنفسهم خلال العام الدراسي وأمام المدرس.
التغيير لمواكبة العصر
وحول الأسباب التي دعت إلى تغيير المناهج، قال مدير المناهج والتوجيه في وزارة التربية الأستاذ المثنى خضور: (إن العصر الذي نعيش فيه اليوم يتميز بتسارع إنتاج المعرفة وانتشارها، وبتطور التقانات المستخدمة في مجالات الحياة كافة، إضافة إلى سرعة التغيرات في المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية. وقد وضعت هذه المتغيرات النظم التربوية، ومنها نظامنا التربوي في سورية، أمام تحديات كبيرة في بناء الإنسان المعاصر القادر على التعامل مع هذه المتغيرات بفاعلية ووعي، وفهم معطيات الحاضر والتكيف معها والتهيؤ لمواجهة تحديات المستقبل، وعلى التعامل مع التطور الهائل في المعارف والمعلومات وتقانات العصر والإفادة منها بما يخدم المجتمع ويحقق القدرة على السير في ركب الحضارة الإنسانية.
إيجابيات عديدة
تؤلّف المناهج الجديدة، بحسب الأستاذ خضور، وفق عملية تطوير شاملة لكل المجالات والمواد والصفوف وفق مدخل المعايير الوطنية في بناء المناهج، الذي يراعي الخصائص النفسية والعمرية للمتعلم، ويواكب التطورات العلمية، ويأخذ بآراء المعلمين وأولياء الأمور والقيادة التربوية، ويمكن قياس مخرجاته التربوية. وراعت في بناء المناهج المنحى التكاملي بين مجالات المادة الواحدة وبينها وبين المواد الأخرى للصف الواحد، كما راعت المجالات الثلاثة المعرفية والأدائية والوجدانية، كما اعتمدت مستويات التفكير المختلفة من التذكر والفهم والتطبيق والتحليل والتركيب والتقويم.
أيضاً تركز المناهج الجديدة على المهارات الحياتية والمهارات الخاصة بكل مجالات المادة الدراسية، وتركز أيضاً على الأنشطة البحثية والمهارات التطبيقية.
ونبه إلى أن المناهج القديمة افتقرت إلى التعلم الذاتي والعمل الجماعي وتحمل المسؤولية واكتساب مهارات اتخاذ القرار، وحل المشكلات، وطريقة المحتوى التعليمي في الكتاب المدرسي، أيضاً افتقرت إلى الأنشطة والتدريبات التي تطبق هذه المعارف وتعمل على تنمية المهارات العقلية، مما أدى إلى قلة اهتمام المعلمين والطلبة بتوظيفها في مواقف الحياة المختلفة، أما نظم التقويم فقد ركزت في معظمها على المجال المعرفي في مستوياته الدنيا (التذكر والفهم)، ونادراً ما كنا نرى أسئلة تقيس المهارات أو تقيس مستويات المعرفة العليا كالتحليل والتطبيق.
صعوبة التأقلم مع الجديد
عن أبرز المعوقات التي واجهت المناهج قال الأستاذ خضور: (إن التغيير في التربية، وخاصة تطوير المناهج، يواجه دائماً نوعاً من الرفض أو حتى المقاومة، خاصة من المعلمين والمدرسين الذين اعتادوا على المناهج القديمة، وفي حال وجود تغيير سيتطلب منهم التأقلم مع المناهج الجديدة، ولذلك لابد لهم من العمل على تطوير أدائهم العملي والتربوي، لذ نجد دائماً أن المدرّسين هم أول المعارضين للتطوير، كذلك أولياء الأمور الذين ينبع القلق لديهم من خوفهم على مستقبل أبنائهم خاصة في شهادتي التعليم الأساسي والثانوي).
التربية والأزمة
وعن التأثير الكبير للأزمة الحالية على تطبيق المناهج المطورة، قال مدير المناهج: (بعد أن كانت الوزارة تضع الخطط للانتهاء من الدوام النصفي، وزيادة الزمن المخصص للحصة الدرسية، نحن الآن أمام أكثر من 3000 مدرسة خارجة عن الخدمة، وأيضاً استخدام العديد من المدارس مراكز للإيواء، كما دفع العدد الكبير ضمن الشعبة الصفية الواحدة المدرسين إلى اللجوء للطرائق التقليدية لإيصال المعلومات للطلاب، عوضاً عن الأساليب الحديثة).
خطط مستقبلية
وفيما يتعلق بالخطط المستقبلية للمركز الوطني لتطوير المناهج، بيّن مدير المناهج الأستاذ المثنى خضور، أنه يتم حالياً العمل على تحليل المعايير الوطنية للتعليم ما قبل الجامعي التي وضعت في عام 2007 وقد شُكلت لجان علمية وتربوية من وزارة التربية والجامعات السورية، تقوم حالياً بوضع مصفوفات مدى؛ وتتابع، للمعايير الخاصة بكل مادة من المواد بهدف تطويرها، وكذلك ستجري هذه اللجان عملية تقييم للكتب الدراسية المطورة مقارنة بالمعايير، وبناء على النتائج وعلى المعايير الوطنية المطورة، ستقترح خطة لتطوير المناهج وفقاً للحاجة.
أهداف ولكن..!
إن الغاية من تطوير المناهج، بحسب وزارة التربية في الجمهورية العربية السورية، هي (إعداد الإنسان العربي السوري المتمتع بحس المواطنة والانتماء والمزود بالمعرفة والمهارات والقيم، والقادر على تطوير نفسه، وممارسة الديمقراطية، واستثمار الفرص المتاحة لتحقيق التقدم).
وعن ذلك أشارت المعلمة جمانة أوسي إلى أن أحد أهداف المناهج الحالية هو تنمية الشعور بالانتماء لدى الفرد وتعزيز روح المواطنة لديه، ولكنها تساءلت كيف السبيل إلى ذلك، إذا كان بعض المدرسين يختلفون في الكثير من المعلومات، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، تفسيرهم لرموز العلم السوري.. فكل يفسره على هواه.. وكل يسلط الضوء على تاريخنا وثقافتنا بما ينسجم مع بيئته وانتمائاته، متناسياً دوره الريادي في بناء الأجيال؟! ويبقى السؤال الأهم: كيف ستتمكن وزارة التربية من تلافي الشرخ الاجتماعي الذي تولد نتيجة الأزمة الحالية، لتؤهّل الفرد لرحابة المجتمعات التعدديّة؟
اقتراحات
* ربط مناهج التعليم بالحياة، وتأكيد أن التعليم للحياة وليس للامتحانات، فالمهم تخريج طالب قادر على المساهمة في التنمية، وإعادة توضيح بعض المفاهيم والمصطلحات في المنهج الدراسي في ضوء معطيات الأزمة الراهنة.
* تأكيد البعد الوطني في المنهج التعليمي، وإلغاء كل ما يدل أو يوحي بتفرقة أو تمييز عرقي أو طائفي أو سياسي.
* إيلاء المكتبات المدرسية الأهمية المطلوبة، وتشجيع الطلاب على قراءتها، لنحصل على جيل قارئ، والعمل على أتمتة المكتبات.
* دعم الأنشطة والتطبيقات وأوراق العمل، وتشجيع المدرسين على تقديم أوراق تدعم المنهج الوطني وتسانده، فالمدرس المبدع بحاجة إلى التشجيع والتحفيز، وهو ما يلزم خطة واستراتيجية وفق جدول تقييمي بعيد عن العقلية الأمنية للإدارات المدرسية التي تحبط المعلمين بدلاً من تحفيزهم، والحرص على التكامل بين الأنشطة الصفية واللاصفية في مختلف المواد.
* وضع رؤية واضحة لنظام التحفيز لدى الطلاب، فإهمال (ثقافة التحفيز) وغيابها عن العملية التعليمية والتربوية، يؤدي إلى إعاقة تطور التعليم، وتدني مستوى الطلبة، وهو ما نلمسه اليوم على أرض الواقع، وبغض النظر عن بعض الاستثناءات والجهود الفردية لبعض المعلمين والمعلمات لتبني تلك الثقافة، في محاولة منهم لتقديم الأفضل لطلابهم، إلا إن الموضوع يحتاج إلى توجه دولة لا أفراد.
* تأكيد توحيد المعلومة كي لا تصل معلومات مغلوطة إلى الطلاب، وهنا يبرز دور رقابة وزارة التربية ومديرياتها المختلفة، مع تأكيد الرقابة على المدارس الخاصة التي تفوق مخالفاتها السلوكية والتعليمية الحدود المقبولة وتنعكس على الطالب ونتائجه، ومنها طباعة الكتب المدرسية وبيعها بأضعاف سعرها المقرر.
* متابعة الموجهين للمدارس دورياً، وزيادة الدورات لتأهيل المدرسين وتدريبهم على المنهاج الجديد وأساليبه، بغية تعزيز قدراتهم وتطويرها بشكل مستمر، وتسليط الضوء على مفاهيم توظيف التكنولوجيا في التعليم، وتأكيد أهمية مواصلة هذه البرامج والمشاريع والحفاظ على ديمومتها وفق منهاج متكامل وبرامج تدريب معدة بمهنية عالية تراعي احتياجات المشاركين، على أن يلزم المعلمون باتباعها، وأن يحسب ذلك ضمن تقييمهم وسجل عملهم، وأيضاً يجب أن يكون التدريب مستمراً، وتوضع له الميزانية الكافية حتى يواكب المعلمون كل المستجدات في نظريات التعلم ووسائط التدريس والتقنيات المستخدمة، فإعداد المعلمين يجب أن يتم وفق خطط مدروسة أسوة بإعداد الأطباء والمحامين، وهذا يقتضي أن يكون اختيار المعلمين وفق أسس ومعايير دقيقة.
* تأمين الوسائل التقنية والمعينة اللازمة، وتقليل عدد الطلاب في الصف، ليصار إلى تطبيق المنهاج كما رسم له وبالشكل الأمثل.