دام برس

استلقيت على سريري ليلة أمس وقد غادرني النعاس و بدأ عقلي بحوار داخلي " مونولوج " , كيف يمكن مكافحة الفساد؟ و كيف لموظف شريف أن يعترض على تصرفات مدير فاسد ؟ و قررت أن أكتب اليوم - مادة - كأمنية أرجو أن تتحقق و أن تصل إلى أسماع المؤمنين بالإصلاح الإداري طريقا لمكافحة الفساد .
لقد سمعنا كثيرا عن موظف اعترض على إرادة أحد مدرائه في التسلسل الإداري , فكان نصيبه الطرد أو الإبعاد عن عمله ليلعن الساعة التي اعترض بها على مديره .
و يصبح هذا الموظف درسا لسواه من العاملين مفاده " امشي الحيط الحيط وقول يالله الستر "
أو يقولون " اربط الحمار في المكان الذي يريده صاحبه " .
وصاحب الحمار هو هنا المدير الذي يشرف على مجموعة من العاملين تحت أمرته وقد يكون وزيرا أو مديرا عاما أو مديرا في مرتبة إدارية أدنى.
و هذا المثل يعني الانصياع الكامل لرغبة المدير وتنفيذ ما يطلبه حرفيا دون تفكير , و إذا تجرأت وفكرت , فاحتفظ بتفكيرك لنفسك و نفذ ما يطلبه المدير , لأنه هو ولي نعمتك , و إن فكرت بالاعتراض فقد رفست النعمة و أنت لا تستحقها .
عليك كيل المديح والثناء , لعبقرية هذا المدير الفذ .
عليك أن تقول له , بأن الله خلقه وكسر القالب , رغم انك قد تكون أفهم منه بعشرات المرات و أنت متأكد بأنه وضع في هذا المكان لأنه لا يفهم , ويمرر كل ما يطلب منه بدون تفكير أو أنه شريكا في الفساد .
ببساطة إذا و كما أعتقد , بداية الإصلاح الإداري ومحاربة الفساد هي تحرير الموظف الشريف من سطوة المدير الفاسد , ومنحه حق الاعتراض على قراراته الفاسدة , وحمايته بنص القانون, بحيث لا يتمكن المدير الفاسد من تصفية الأصوات الشريفة المعترضة على فساده و خسف الأرض بهم عبر "جرة قلم " تقودهم إلى مراتب إدارية أدنى , بعد عمر وظيفي قضوه في خدمة الوظيفة العامة , وقد يصبح مرؤوسا لموظف أدنى منه وظيفيا , و يصبح منبوذا في أوساط العاملين حوله, كونه معاقب ومطرود من رحمة مديره , بل ويطلب الحذر من التعامل معه , كونه قليل أدب و طويل اللسان , هذا إذا اكتفى مديره بنقله إلى وظيفة أدنى , ولم تصل به درجة الغضب إلى طرده خارج الوظيفة العامة .
وكم نعرف في محيطنا عن مدير تم إبعاده عن موقعه , لأن لا يروق لمديره الأعلى , وعاد موظفا عاديا , كيوم جاء إلى الوظيفة العامة دون احترام لعمره الوظيفي أو لخدماته السابقة التي لم تشفع له .
وكم من مدير عام جديد لإحدى الجهات العامة, بدأ إدارته بإقصاء كادر الإدارة السابقة, لعهده الميمون , بحجة إنهم أعوان للمدير السابق أو موالون له , متناسيا بأنهم موظفون في دولة وبأنهم يعملون للدولة وليس لهذا المدير العام أو ذاك !!
وكم من مدير عام أقصي من منصبه ونقل إلى جهة عامة أخرى- بجرة قلم - من وزير , ليعود موظفا عاديا يضطر بعدها إلى تقديم استقالته حفاظا على كرامته المهدورة ليس بسبب إقالته من موقعه الإداري إنما من الوضع الذي آل اليه , أما من يتم إقالته وهو حائز على الرضى فينقل مستشارا إلى مرتبة أعلى , محتفظا بالحد الأدنى من مكتسباته الوظيفية كالسيارة الحكومية مثلا .
كم من مدير عام , يبدأ إدارته الجديدة , بتعيين أعوان جدد ونقلهم من خارج الجهة إلى الجهة العامة التي كلف بإدارتها وتغيير مدير المكتب وكل الطاقم المحيط به !!!
متناسيا الكادر الموجود , و إن أغلب المنقولين من خارج الجهة ليسوا أفضل حالا من الموجودين , و لكنهم من معارفه و أصدقائه وسوف يدينون له بالولاء ( وليس للوظيفة العامة ) كونه هو ولي نعمتهم وهو من أتى بهم إلى مواقع الإدارة التي كانوا يحلمون بها
إلى متى تبقى إداراتنا العامة رهنا با بالمزاجية و الواسطات و المحسوبية ؟؟؟
متى سيتم التعيين على أساس الكفاءة و الخبرة بحيث يكون لكل عامل سجل ذاتي في الجهة العامة التي يعمل بها تتم العودة اليه عند الحاجة إلى كوادر إدارية قيادية ؟؟؟
متى نحفظ كرامة الموظف الشريف , و نجعل كرامته وشرفه وكفاءته قبل ذلك , وسيلة لترقيته الإدارية دون أن يكون محسوبا على هذا أو ذاك ؟؟
ومتى نجعل لكرامة وشرف الموظف , حماية قانونية , من عسف المدير الفاسد ؟؟؟
الفساد يا أعزتي شبكة مترابطة يصعب اختراقها عن طريق شرفاء , لأنه لن يسمح لهم , و سوف يتم إبعادهم بكل الوسائل .
ولكن يمكن القضاء على الفساد , عبر تشجيع الرأي الآخر , الذي يقف بوجه المدير , و يقول له أنت مخطىء , دون أن يصبح عدوا و أن يخشى العواقب التي قد تجرها جرأته , عليه وعلى أسرته التي يعيلها .
الفاسد , ليس شخص واحد , انه منظومة تبدأ من باب المؤسسة العامة وتنتهي في رأس الهرم الإداري , و أستغرب عندما يتم اتهام مدير عام بالفساد !!!
كيف مارس هذا المدير فساده , بدون قاعدة كبيرة سهلت له الفساد
فالقوانين الإدارية , مضبوطة من الناحية الشكلية , فمثلا في كل جهة عامة , يتم تشكيل لجان مختلفة من لجان المناقصات للعقود الكبيرة إلى لجان الشراء المباشر , فلو كانت هناك قوانين تحمي الموظفين في هذه اللجان من سطوة المدير و استطاع كل منهم التعبير عن رأيه بحرية لاستطعنا تجفيف منابع الفساد , مع ملاحظة أن يكون بين أعضاء هذه اللجان فاسدون , و لكن يكفي تحفظ أحد أعضاء اللجنة على تمرير صفقة فساد , كي يرتدع الفاسدون عن المضي بفسادهم - ليس شرفا - إنما خوفا من اكتشاف أمرهم .
عندما يشعر الموظف الشريف , بأن هناك من يحميه و يقدر له استقامته , ستستقيم الأمور , ويشعر الفاسد بأنه منبوذ , عكس الحال اليوم , بأن الشريف هو من يشعر بأنه منبوذ عبر التجييش الإعلامي ضده من قبل الإدارات الفاسدة بأنه أهبل و لا يعرف كيف يدبر أموره !!!
اللجان , نقطة البداية لمكافحة الفساد و الرقابة القائمة اليوم هي رقابة ورقية , تتوه في متاهات الإجراءات وتقف عند حدودها , و الفاسدون يقومون بالإجراءات السليمة , كطلب العروض و فضها ووضع الدرجات و الترسية لصالح العارض الذي قدم العرض الأنسب , وهذا كله سليم من الناحية الإجرائية , ولكن الفساد يكمن في تفاصيل أخرى , بدءا من إعداد دفتر الشروط الفنية ليناسب أحد العارضين دون سواه أو في مرحلة لجان المناقصات , كاتفاق العارضين على التنازل لبعضهم , و الكل رابحون أما الخاسر فهو الجهة العامة الممثلة للدولة .
إذا لمكافحة الفساد وكمرحلة أولى , يجب حماية الموظف الشريف عبر قوانين تمنع المدير من استبعاده أو التأثير على المزايا و المكتسبات التي يستحقها , وتشجيع هذا الموظف على المحافظة على شرفه ونقائه.
و على الجهات الإدارية الأعلى الوقوف مليا أمام أي ظاهرة من الظواهر التالية :
1- مقترحات الإدارات الأدنى لتغيير أو نقل أي موظف من درجته الوظيفية دون إبراز الأسباب الموجبة و عدم الاكتفاء بالمصطلح العائم المستخدم حاليا في قرارات النقل " بناء على مقتضيات المصلحة العامة " و التي يكون في الكثير من الأحيان المقصود بها " مقتضيات المصلحة الخاصة " .
2- مقترحات الإدارات العامة لتكليف عاملون في وظائف إدارية عامة من خارج الجهة و التدقيق جيدا في القوى العاملة في الجهة و فيما إذا كان المقترح نقله لتكليفه بهذه المسؤولية الإدارية هو خبرة نادرة غير موجودة في الجهة ذاتها
3- إلغاء كل الأسماء الواردة بقوائم الانتظار أو ما يسمونه " waiting list " الموجودة لدى السلطات صاحبة السلطة بالتعيين و الذين بكليتهم هم من الواسطات و المحسوبيات
4- تشجيع المبادرات الفردية الرامية إلى الحد من الهدر وزيادة الإنتاج و المحافظة على المال العام
5- العمل( فعلا لا قولا) على وضع الإنسان المناسب في المكان المناسب
6- إعادة النظر في التكليف بعضوية مجالس الإدارات للجهات العامة , بعد أن تم تفريغها من مضمونها عبر تعيين الكثيرين - كجوائز ترضية - لهذا أو ذاك , ومحاسبة هذه المجالس عبر سنوات من تكليفهم , عن الانجازات المحققة في إدارة هذه المؤسسات - مع وجود خطأ أراه قانونيا - بتكليف معاون وزير برئاسة هذه المجالس, فكيف لمن يوافق على قرار للمجلس بصفته رئيسا للمجلس ثم يوافق عليه كمعاون وزير بصفته جهة وصائية ؟؟؟
7- يلاحظ الكثير منا بأنه بعد تنفيذ طريق , تأتي الآلات لتخريبه من جديد , لمد خطوط كهرباء أو هاتف , فهل الجهة العامة لا تعرف بالحاجة إلى مد هذه الخطوط قبل تنفيذ الطريق؟؟؟
أخبرتنا العصفورة بأنهم يعرفون و لكنهم ينتظرون إلى ما بعد تنفيذ الطريق , حتى ترتفع أسعار تنفيذ الأعمال لقص الطبقة الإسفلتية و علمنا أيضا بأن الكثير من الدول تعتمد تنفيذ أنفاق الخدمة , كبنية تحتية للطريق , يتم استخدامه للأعمال المذكورة دون الحاجة لقص الطريق فيما بعد .
8- و أخيرا و هو ما أراه بالغ الأهمية بضرورة حفظ كرامة الموظف ( قانونيا ) الذي تقرر الاستغناء عن خدماته كمدير لأسباب غير تأديبية أو تمس النزاهة , بالحفاظ على مكتسباته التي حصل عليها خلال عمره الوظيفي كدرجته الوظيفية و المزايا المادية الأخرى .