دام برس
يعلم كل من له باعٌ قصيرٌ أو طويل في مجال الكتابة أنها في لحظةٍ ما تصبح رغبة أو حاجة أو هدف ، و تغدو شبيهةً بعملية رسم لوحة فنية يحرص من يرسمها على أن تكون أخاذة ، و أنا اليوم أدعي أنها باتت بالنسبة لي كذلك ، لكن الواضح الغريب في آنٍ معاً أنني بت شبه عاجز عن رسم لوحتي إن لم تكن ألوانها سورية ، و أبعادها سورية ، و معانيها سورية أصيلة ، قد يسأل البعض و ماذا بعد .. أقول أنها مجرد أحاسيس تعشعش في ثنايا روح كل من يعشق سورية ، وتتراقص في تجاويف قلبه مع كل نبضة ، و تملأ رئتيه مع كل شهيق ، انها السكينة التي تأبى أن تفارقه حين يغفو ، و تندس مختبئةً في إحدى زوايا قبره إن سلم الروح ، و أنا كما أنتم ، تماماً كما أنتم ، كمن أضاع الكثير و فقد الكثير لكنه حافظ على الأغلى و الأثمن و الأبقى و الأسمى ، حافظ على الإنتماء ، و كمن تعلم الكثير و أتقن أكثر من لغة ، لكنه عجز عن فك رموز خيانة الوطن ، و أحرف العمالة ، و شيفرة لغة القتل ، أقول أخيراً لأنها ببساطة ... سورية ... التي إن أنا غادرتها تأبى أن تغادرني .
قد يبدو المقال في بدايته سرداً تاريخياً لمجريات أحداثٍ و حسب ، لكنه حقيقةً يصب في صلب الأزمة السورية و الحرب الكونية و المؤامرة عليها ، أرضاً و شعباً و جيشاً و قيادةً ... . نعلم جميعاً أن ما يعرف قديماً و حديثاً عن الإنسان أنه مخلوقٌ يتطور بتطور عصره ، و يعمل على تسخير كل ما حوله لخدمة مصالحه و أهدافه و رفاهيته في حياته اليومية ، هذا في العموم ، و أما في الخصوص ..فنحن نجد أن مجموعاتٍ بشرية عدة شذت عن هذه القاعدة و أبت إلا أن تراوح مكانها أو تعود قليلاً أو كثيراً إلى الوراء فيما سبق و ذكرنا ، كبعض القبائل التي تسكن أدغال إفريقيا و التي ما زالت تعيش حالةً بدائية تعتمد فيها على الصيد و الرعي . و بالعودة إلى ما يهمنا و بمناسبة الصيد و الرعي نذكر هنا أن رعاة البقر و رغم خلافنا مع إدارات بلادهم المتعاقبة ، لكنهم و الحق يقال باتوا في مقدمة شعوب الأرض تطوراً ، فيما بقي رعاة الإبل و البعير متمسكين بتراثهم الإبلي و سباقات الهجن و رقصات السيوف مع الأسياد ، تلك الرقصات التي بات قادة الغرب يجيدونها أكثر من رقصات السويت و الفالس و التانغو ، لا لأمر إلا لكثرة ما تدربوا عليها خلال تفقدهم لمزارع البعير و الحمير الصحراوية ، هذه المخلوقات التي تتشبه بالبشر و التي تجاوزت المثل الشعبي القائل " الحمار لا يقع في الحفرة مرتين " ، فالتاريخ قد سجل لها سقطاتٍ متتالية في نفس الأفخاخ و الحفر ، حتى باتت سمة السقوط تلازمهم فنالوا بجدارة لقب " الحمير الأكثر سقوطاً في نفس الحفر " ، بدءًا من أفغانستان و ضخ مجاهديهم المعبئين في براميل نفطية ، و المليارات التي تفوح منها روائح النفط و الغاز ، خدمةً للإدارة الصهيوأمريكية ، أو لإرادة الشيطان الذي يسكن أرواحهم ، فقد عملت السعودية و معها باكستان و دول أخرى تحت أمرة الإدارة المخابراتية و العسكرية الأمريكية بتوفير الدعم المادي و قطعان المحاربين الذين عرفوا لاحقاً بالأفغان العرب لمحاربة السوفييت ، تحت شعار الجهاد الأفغاني السعودي الأميركي المشترك ضدها ، ماذا كانت النتيجة في أفغانستان ؟؟ حلت قوات الناتو مكان القوات السوفيتية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر ، و ها هم جنود الناتو يقومون بما لم يسجل يوماً للجيش السوفييتي من ممارسات يندى لها الجبين ، فهؤلاء قتلوا كثر دون شك و اعتقلوا كثر دون شك ، لكن التاريخ لم يسجل لهم أنهم بالو يوماً على جثث ضحاياهم ، و لم يسجل لهم أنهم أحرقوا قرآناً .
عاد بعير آل سعود وقاموا بممارسة هواية السقوط المتجدد المتكرر ، و تحت نفس الشعارات و الأهداف ، و تنفيذاً لرغبات و أوامر نفس السادة و أولياء الأمر و القابضين على الرقاب ، فولغوا في النزاع الشيشاني الروسي ، و دعموا مقاتلي الشيشان كما في أفغانستان بالمال و السلاح و المجاهدين و الفتاوى اللازمة لتبرير القتل و الخطف و الإغتصاب و طبعاً لتبرير العمليات الجهادية التي كان أشهرها " الجهاد ضد طاقم و مرضى مشفى بلدة بودونوفسكي... ثم الجهاد ضد جمهور مسرح البولشوي ... و الجهاد ضد تلاميذ مدرسة بيسلان الإبتدائية " . و كان أن إنتهى الأمر إلى دمارٍ شبه تام للشيشان و دمارٍ تام للعاصمة غروزني ، و مقتل معظم من هاجر مجاهداً ، و عودة رفاق الجهاد الآخرين ممن لم يلقوا مصرعهم و قد ناؤوا تحت ثقل إعاقاتهم الجسدية و العقلية و الروحية . آل سعود ثارت حميتهم لنصرة أبناء دينهم من الأفغان و الشيشان في الوقت الذي لم يرمش لهم جفن لنصرة من يفترض أنهم اخوتهم في الدين ، و أبناء جلدتهم ، و الناطقين بلغتهم ، و شركاءهم في " حضارة الأجداد " و أولاد عمومتهم من الفلسطينيين الذين لطالما قتلوا و ذبحوا و إغتصبوا و شردوا على أيدي الصهاينة ، يبدو أن الفتاوى الشرعية تفيد ، أو هكذا أريد لها أن تفيد .. بأن الجهاد هناك ضد الروس فرض عين و أن ثوابه الجنة ، و أن الذود عن أطفال و نساء فلسطين رجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه ، أو أن ما كان لم يكن سوى دليلاً على أن لا إنتماء لآل سعود و معهم بقية الآلات الصدئة غير إنتمائهم " لآل صهيون " .
أحد أمرين لا ثالث لهما هكذا يعتقد السوريون هذه الأيام ، إما أن نفراً من " المخلوقات " قرر في غفلةٍ من الزمن أن يسجل على إسمه " ماركة مسجلة في دفاتر التاريخ " تفرداً بالإعجاز ، و إعجازاً في قلب موازين العقل و المنطق ، و تغييراً لمفاهيم و أسس و نظريات تكون و نمو و تطور " و تعملق " الشعوب و الدول ، بقدراتها و إمكاناتها و قوتها و سطوتها ، و تأثيرها في الحضارة و الإنسان ... ، و إما أن العقل نفسه قرر أن يستقيل أو يغتال نفسه منتحراً على الطريقة الغليونية ، و يلحق بالمنطق الذي إعتزل العمل و إعتكف في عرزاله بعد أن رمى جميع نظرياته في بئر نفطٍ آل سعودية أو حقل غازٍ حمدي ... و أشعله .
الأمر ببساطة يتعلق بحالة إدمان البعير و الحمير لعادة الوقوع في الحفر ، فنحن نراهم اليوم و قد وقعوا في الفخ الصهيوني الأمريكي مجدداً ، و نحن نراهم اليوم كالسحالي التائهة على رمال الصحراء ، فلا هي تعرف طريق العودة إلى جحورها ، و لا هي تعلم نهاية طريق الألغام التي سلكت بعض تورطها على الأرض السورية و مع الشعب السوري و الجيش السوري .
ذكرتنا مواقف حمد و نسخه الأعرابية سيما البدينة منها بالرواية العالمية للأديب الإسباني ميخيل دي سرفانتس " دون كيشوت " ، و نحن لن نشوه الشخصية الرئيسية في الرواية بتشبيهها بحمد أو أبو متعب ، لأنها كانت شخصية تحمل في طياتها جوانب إيجابية و دوافع إنسانية أوصلتها حسب الرواية إلى هجرة الواقع و اللجوء إلى عالم الأحلام و الأوهام .
لكن دون كيشوت العصر الحالي " و بعيداً عن نبل الأهداف و صدق النوايا " يمكن له أن يكون أوباما فهو شكلاً يشبه دون كيشوت ، أو برنارد هنري ليفي، وشتان بين أهداف و نوايا دون كيشوت في الرواية و بين نوايا دونكيشوتات الربيع العربي ، و أما ما هو مشترك حقاً فهو الأحلام المجنونة و السباحة في محيط الأوهام و إدعاء تحقيق انتصاراتٍ فراغية هوائية و غير مرئية و لا ملموسة و لا محسوسة إلا لمن يدعيها أو هي في الزمن الحاضر و أفضل أحوالها وقتية و ظرفية و آنية ، و إن كان هذا هو منطلقنا في التشبيه أو الإسقاط فسيكون شرفاً لحمد و أمثاله شكلاً و مضموناً من فصيلة العظاءات و السحالي التي تتخفى بالعباءات ، أن ينال احدهم أو جميعهم لقب سانشو بانزا " التابع الساذج الذي لحق بدون كيشوت الربيع العربي تبعيةً عمياء و كان أداته الطيعة و درعة الصدئ و رمحه المعوج و سيفه المتآكل ، و كان أن تميز في هذا الشأن أبومتعب الآل سعودي و حمد الآل ثاني . بعد بضع مئاتٍ من السنين على ولادة تلك الرواية يمكننا أن ندعي اليوم ولادة نسخٍ دون كيشوتية غربية ، و سانشواتٍ بدوية أعرابية وجدت لها مكاناً في عفن تربة الربيع العربي و عفن بعض العقول العربية ، رواية الحاضر تتميز بغباءٍ مستفحل لأبطالها ، فسانشو ... التابع الحمدي البدين زاد انتفاخه بعد إبتلاعه للوجبات الدونكيشوتية الجاهزة و المغشوشة ، و شربه جميع عقاقير أحلام اليقظة و الهلوسة التي قدمها له سيده الفارس الفريد ، نرى أمره يستفحل بالوصول إلى حلم التربع على عرش المنطقة بأكملها ، و نراه بحكم غبائه و تجاهله لمصطلحاتٍ أساسية كالأحجام و المقدرة و الممكن و المستحيل ، وبعد أن وقع كالحمار في فخ سراب دون كيشوته و أوهامه و أحلامه ، نراه يخوض المعارك الخاسرة ذاتها متماهياً مع غباء سيده و معارك سيده و خسائر سيده ، و كانت حكاية زميله الآل سعودي نسخةً طبق الأصل في التبعية و الولاء و الوهم و الخسائر و خيبات الأمل و السقوط .
و أما عن روسيا و بملاحظة نقاط التلاقي العديدة جداً بينها و بين سوريا و المصالح المشتركة ، نجد أن كلا الدولتين عانتا من الإرهاب الآل سعودي الأسود و جهاديي آل سعود الوهابيين
حتى أن الروس قالوها صراحةً على لسان وزوير الدفاع الروسي منذ أشهر عديدة .. أن روسيا لم و لن تنسى اغتيالات الإخوان المسلمين للخبراء الروس في سوريا في ثمانينات القرن الماضي . و نحن لن نخوض في الموقف الروسي و أسبابه ، و لا في المصالح الروسية و القراءة الروسية لمجريات الأحداث و فهمها الواضح للمخططات التي رسمت للمنطقة ، هذه المخططات التي لم يبقى سوى سوريا حجر عثرة دون إتمامها ، فهكذا موضوع يحتاج أن نفرد له مقالاً خاصاً إن لم يكن مقالات ، لكنني أردت فقط أن أقول لكل مشكك أو متخوف أو متوجس من ثبات الموقف الروسي ، أن التاريخ يشهد على أن الروس مدرسة عريقة في السياسة ، و أن أساتذة تلك المدرسة يعوون أن الحفاظ على سورية قوية مستقلة موحدة و صديقة و حليفة لروسيا هي من أولويات المناهج الدراسية السياسية لديهم ، و حالهم ينطبق في زمننا الحاضر على العملاق الصيني ، و كل متتبع لتصريحات مسؤولي البلدين يقرأ بوضوح مفردات هذه الحقيقة .
و بالعودة للأعراب .. ...فهم هذه المرة سقطوا في فخ الصراع مع سورية و الشعب السوري و الجيش السوري الذي أذهل العالم بثباته و صموده في تصديه لهذه الحرب الكونية المجنونة ، حساباتهم كانت خاطئة ، و اخطاؤهم قاتلة ، هم بدؤوا مغامرتهم الحمقاء ضد سورية غافلين عن حقيقة أن الشعب السوري ليس أفغانياً أو شيشانياً " دون الإنتقاص من قدر هذين الشعبين " لكن الماضي و الحاضر و المستقبل هم الشهود على حقيقة تقول ... لن يكون في سورية مكانٌ لأي ملا قندهاري أو شامل باساييف شيشاني ، سيكون التاريخ شاهداً و سيسجل في دفاتره أن السوريون أحيوا زمن المعجزات ، و أنهم فقأوا أعين السانشو القطري و زميله السعودي على حقيقة أنهم مجرد فقاعاتٍ صابونية هوائية ، أو بالونات بهرجة تنفخ و تعلق لزوم الديكور الدونكيشوتي ، لا تلبث بعد حين أن تذبل و تذوي و يكون مكانها سلال القمامة ، سيسجل التاريخ أن بعض السانشوات الأعرابية إنتحرت على الارض السورية ، و سيسجل التاريخ بكل تأكيد أنه و على الأرض السورية تم تطبيق المثل الشعبي الشهير القائل " السقطة التي قصمت ظهر البعير " .