Logo Dampress

آخر تحديث : الخميس 28 آذار 2024   الساعة 15:51:17
دام برس : http://alsham-univ.sy/
دام برس : http://www.
ماذا تعلم عن روسيا ؟ الجزء الأول -1 من 2
دام برس : دام برس | ماذا تعلم عن روسيا ؟ الجزء الأول -1 من 2

دام برس:

منذ إنهيار الشيوعية وسقوط الإتحاد السوفياتي عام 1991 في زمن ميخائيل غورباتشوف، تخلت روسيا عن أحد أهم مقومات سياستها الدولية التي كانت تسير فيها سابقا أي توسيع حدود الدولة ونفوذها، وهي الآن تصارع في تحقيق المقوّم الثاني لسياستها الدولية المتعلق بحماية نفسها داخليا وخارجيا أمام هجوم الغرب الأطلسي عليها بزعامة أمريكا. وفي مقابل ذلك توجهت روسيا منذ النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي لجذب الصين و اغرائها ببناء شراكة استراتيجية معها تقوم على تعزيز شامل للعلاقات السياسية والإقتصادية والعسكرية. وهذا التحول يعتبر بحد ذاته تغييرا في سياسة روسيا القديمة التي وضعت الخطر الصيني في مقدمة سياستها الخارجية. إن مفتاح قوة روسيا بزعامة فلادمير بوتين وخلفه ديميتري ميدفيديف ـ في تصديها لخططِ واشنطن العسكرية والسياسية ـ يكمن في نَجاح قدرتها على تحصين وضعها الداخلي وفي الدِفَاع عن إستراتيجيتها الخاصة بالطاقة في أوراسيا مَع تملكها رادع عسكري ونووي موثوق وفي دفعها الصين للتحالف معها . هذه هي أسس السياسة الروسية التي خطها بوتين ومن الأكيد أن يسير عليه خلفه ديمتري ميدفيديف. وسنعمل في هذا الموضوع على معالجة هذه القواعد الأربعة من خلال تناول الوضع الداخلي والإقليمي لروسيا ثم علاقاتها مع كل من أمريكا والصين ونختم ذلك ببحث إمكانيات روسيا في التصدي لأمريكا والعودة للتاثير في الموقف الدولي بشكل فاعل .

1 ـ الوضع الداخلي والإقليمي لروسيا:

منذ تسلمه للحكم عام 2000 قام فلادمير بوتين بإدخال تغييرات جوهرية على توجهات السياسة الروسية داخليا وخارجيا في محاولة منه لمعالجة آثار ما سماه هو نفسه بـ "الكارثة الجيوبوليتيكية" التي حلت بروسيا أي سقوط الإتحاد السوفياتي وتأثير ذلك على مركز روسيا الدولي والإقليمي بل والداخلي بسبب الفوضى العارمة التي صبغت فترة حكم سلفه بوريس يلتسين. فأثناء ولاية يلتسين لم تسفر الديمقراطية والإنتخابات التي كان يدعمها الغرب، إلا عن نظام برلماني نيابي، خاض أشرس المعارك ضد يلتسين نفسه، مما أصاب الحياة السياسية بالشلل الدائم. كما تم في عهده نهب ممتلكات الدولة وأصولها على يد "الأوليجاركية الجديدة" التي فتحت الحدود الروسية على مصراعيها تحت مسمى إقتصاد السوق؛ وهو ما أدى إلى إنهيار الإقتصاد الروسي وإختراقه من قبل المؤسسات المالية الغربية. وفي عهد يلتسين أيضا حصلت شتى المناطق والولايات الروسية على الكثير من صلاحيات الحكم الذاتي، وهو ما شجع أمريكا على دعم من يرغب في الإنفصال عن الإتحاد الروسي بالمال والسلاح، لإضعاف روسيا وتفكيكها من الداخل. وفي خضم هذه الإنتكاسات الداخلية والخارجية التي كانت تعاني منها روسيا، كان فلادمير بوتين يترأس منذ حزيران/ يونيو 1991 لجنة العلاقات الخارجية في إدارة مدينة سانت بطرسبورغ. وفي اب/أغسطس 1996 شغل منصب نائب مدير الشؤون الإدارية لدى الرئاسة الروسية. ثم عين في تموز/يوليو 1998 مديرا لدائرة الأمن الفدرالي الروسي، وتولى في الوقت نفسه منصب أمين مجلس الأمن لروسيا الاتحادية منذ اذار/مارس 1999. وفي اب/أغسطس 1999 أصبح رئيسا للحكومة الروسية. ويبدو أن بوتين ـ العقيد السابق بجهازال "KGB" بين عامي 1985 و1990 ـ قد عقد صفقة سياسية مع بوريس يلتسين المريض، تولى بموجبها بوتين إختصاصات رئيس روسيا بالوكالة منذ 31 كانون اول/ديسمبر 1999 بعد إستقالة الرئيس بوريس. ثم انتخب بوتين في 26 اذار/مارس 2000 رئيسا لروسيا، وتولى منصبه في 7 ايار/مايو 2000. وبعد ذلك أعيد إنتخابه للرئاسة مرة ثانية في 14 اذار/مارس 2004. وفي 8 ايار/مايو 2008 تولى بوتين منصب رئاسة الوزارة بطلب من الرئيس الجديد لروسيا ديمتري ميدفيديف.
إنه منذ تولي بوتين الحكم رسميا في عام 2000 عمل على إرجاع هيبة الدولة إلى حد يشبّهه البعض بأنه عاد بروسيا إلى ما يشبه الحكم القيصري من خلال تركيز السلطات بالعاصمة وتعيين حكام الأقاليم بل وحتى محاولة تعيين عُمد المدن الروسية الكبيرة بدل إنتخابهم. كما تمكنت الدولة الروسية في عهده من وضع حد كبير للوسائل التي كان يستعملها الغرب لإختراق روسيا من الداخل. فتم التحكم بالبث التلفزيوني والبرلمان وقطاع الطاقة ، وسعى بوتين للسيطرة على الصحف ووضع رقابة شديدة على المنظمات الناشطة في ما يسميه الغرب بمجال حقوق الإنسان والترويج للديمقراطية. بحيث يمكن القول أن روسيا تبدو اليوم ـ بعد ثماني سنوات من حكم بوتين ـ تشبه الصين إلى حد ما، حيث يزدهر الإقتصاد وتتسع الحريات الفردية، بينما تظل السياسات الداخلية والخارجية وكل ما يتعلق بالشأن العام تحت سيطرة ومراقبة مشددة من الدولة. ورغم إتهام الغرب بأن روسيا تحكم بقبضة حديدية، إلا أن فلادمير بوتين كان ومازال يحظى بتأييد حقيقي من الرأي العام الروسي بسبب إعادته الإعتبار لوحدة روسيا وشخصيتها القومية وبسبب النمو الذي حققه الإقتصاد القومي الروسي بمعدل يساوي خمسة مرات عما كان عليه في ظل إدارة يلتسين. وهذا هو الذي مكن حزب روسيا الموحدة الموالي لبوتين من الفوز الساحق في الإنتخابات البرلمانية في 02/12/2007، وهو ما مكن أيضا من فوز ديمتري مدفيديف في الإنتخابات الرئاسية في بداية اذار/مارس 2008.
وهكذا بعد أن ورث بوتين من يلتسين أزمة إقتصادية طاحنة تمثلت في وصول معدلات التضخم إلى 37% وإرتفاع الديون الخارجية إلى 165 مليار دولار أمريكي، فضلا عن إتساع دائرة الفقر وإنتشار الفساد على كافة المستويات، تمكنت روسيا في عهد بوتين من تحقيق إستقرار سياسي وإقتصادي ملحوظ، عززته الخطوات الإصلاحية التي هدفت إلى محاربة الفساد الإداري والمالي والارتفاع بالمستوي المعيشي للمواطنين الروس، وتحكم الدولة بثرواتها القومية خاصة النفط والغاز.. لقد تصدى بوتين لتلك الأزمات، ونجح في تحقيق خطوات ثابتة كتراجع معدلات التضخم إلي 9% فقط، وزيادة مستوى الدخل القومي في العام 2006 بنسبة 13%، وتحقيق معدل نمو إجمالي بلغ 7%، وإمتلاك روسيا لإحتياطي من الذهب تقدر قيمته بـ 303 مليارات دولار، وزيادة حجم صندوق الإستقرار المالي ليبلغ 88 مليار دولار. وقد نتج عن ذلك أن إرتفعت عائدات روسيا السنوية من 200 مليار دولار إلى 920 مليار دولار. وهو ما جعل روسيا التي طالما عرفت في الماضي بعجزها المالي، تتمكن من سداد كل ما عليها من ديون خارجية حتى قبل حلول موعد السداد.
لقد خرجت روسيا من نفق الأزمة الخانقة الذي دخلته منذ تفكك الدولة السوفياتية. وبدأ الاقتصاد الروسي يتعافى تدريجيا ووصل لوضع مقبول لدى الرأي العام الداخلي الذي بدأ يستعيد ثقته بنفسه من جديد بعد سنوات التيه التي مر بها أيام يلتسين. كما أن المنشآت الصناعية تحسنت نوعيا وتعززت قدرتها الإنتاجية والتصديرية، وبدأت المنتجات الروسية تأخذ مكانتها من جديد في الأسواق العالمية. وظهر ذلك خاصة في مجالي صناعة السلاح والنفط. وهذا ما سيتم تناوله لاحقا، ولكن سنقف هنا على بعض الخطوات التي سلكتها روسيا في عهد رئاسة بوتين لاستعادة الحيوية لاقتصادها الذي كان يسير نحو الهاوية قبل تولي بوتين للسلطة ودعم الإستقلال الداخلي.
و خلافا لما ظهر من خطة امريكا تجاه الاقتصاد الروسي لشله و دفعه نحو التراجع بتسليط الاهتمام نحو تصدير النفط و الغاز و المواد الخام- كما هو حال دول الخليج العربي مثلا- وصرفه عن الاعتماد بشكل اساسي على التصنيع فقد صب بوتين جل اهتمامه على اعادة الحيوية للصناعات الثقيلة و بناءا على هذا التوجه فقد عادت روسيا بقوة إلى سوق السلاح العالمية، حيث أعلنت موسكو ـ عقب مؤتمر ميونيخ في 09-10/02/2007 ـ أنها ستزيد مبيعاتها من السلاح إلى مستوي قياسي يبلغ 7.5 مليار دولار في العام 2007 وما يليه، بعد أن كانت هذه المبيعات وصلت إلى 6.4 في عام 2006، وذلك من خلال دخولها أسواقا جديدة في المجال العسكري في آسيا وأمريكا اللاتينية وإفريقيا وبلدان الشرق الأوسط. وظهرت تفاصيل إتفاق سلاح بمليارات الدولارات مع فنزويلا بعد زيارة الرئيس هوجو شافيز إلى موسكو في صيف 2006. كما باعت روسيا معدات عسكرية إلى سوريا وميانمار والسودان وإيران. وتحقق مبيعات السلاح الروسية إيرادات بمليارات الدولارات لقطاع السلاح، الذي يهيمن عليه مسئولون أمنيون سابقون يشكلون عنصرا رئيسيا في القاعدة التي يستند إليها جماعة بوتين في الحكم. وقد سبق لفلادمير بوتين أن صرح أن موسكو لن تتوقف حتى تصبح أكبر مصدر للأسلحة في العالم كله.
وللتأكيد على هذا التوجه الجديد لروسيا، نقلت وكالة "نوفوستي" الروسية للأنباء (26/12/2006) عن إيفانوف قوله: "إن "بلادنا لا يمكن أن تحتفظ بوضعها كدولة عظمى على أساس أراضيها ومواردها الطبيعية وحدها"، وأضاف: "لدينا حل واحد فقط: إنتاج منتجات تنافسية وفتح أسواق دولية". وأشار إلى أن صناعة الدفاع "المستقرة" تساهم في تطوير الصناعات المرتبطة بالعلم وفي تقدم الاقتصاد الروسي. وفي نفس الإطار، تقوم روسيا ببحث عقود لبناء مفاعلات وتطوير صناعات نووية مع الجزائر والمغرب، هذا بالإضافة إلى المفاعلات النووية التي تبنيها روسيا بالفعل في الصين والهند وإيران. وإجمالا فإن روسيا تتزعم مصدري الأسلحة للدول النامية، قبل أمريكا وفرنسا؛ وهو ما يعتبر من الموارد المهمة للخزينة الروسية ومن العوامل الهامة التي تساهم في تطوير الصناعات المرتبطة بها مثل صناعات المعادن والسيارات والآلات عموما.
كما قام الرئيس السابق فلادمير بوتين خلال فترة ولايته بوضع، حد لتدخل الغرب وإختراقه للشؤون الداخلية الروسية. وأهم عمل سياسي داخلي قام به بوتين لوقف إختراق أمريكا تحديدا والغرب عموما لروسيا ومحاولة توجيهها داخليا وخارجيا لتكون تابعا للسياسات الغربية، هو تصديه لزعماء الأوليجاركية الجديدة الذين نشأوا أيام حكم يلتسين وكانوا رأس حربة متقدمة في إضعاف روسيا وإلحاقها بالمشاريع والمخططات الأمريكية. وهنا يعتبر توقيف البليونيرِ الروسي ميخائيل خدوركفسكي (Khodorkovsky) من قبل مكتبِ المدّعي العام الروسيِ في 25 تشرين اول/أكتوبر 2003 بتهمة التهرب الضريبي، وما نتج عن ذلك من تجميد أرصدته الشخصية وتجميد أسهم شركة يوكوس ( Yukos) وإنهيار سعر أسهمها وبيعها بعد ذلك، أهم عمل سياسي قام به بوتين لوضع حد لمحاولات أمريكا التحكم بسياسة النفط والسياسة الداخلية الروسية.
إن تحرك بوتين ضد خدوركفسكي كان إدراكا منه لخطورة هذا الرجل الذي نسج شبكة من العلاقات الكبيرة مع مؤسسات الحكم في أمريكا وبريطانيا. كما أسس جمعية خيرية سماها "مؤسسة روسيا المفتوحة"، على شاكلَة "مؤسسةِ المجتمعِ المفتوح" لصديقه المقرّبِ جورج سوروس وكان من بين المشاركين في "موسسة روسيا المفتوحة" هنري كيسينجر وصديق كيسنجر، اللّورد يعقوب روثشيلد سليل العائلةِ المصرفيةِ بلندن، وآرثر هرتمان السفير الأمريكي السابق في موسكو. لقد جاء توقيف خدوركفسكي ضمن سياق إعلان إدارة بوشِ من جانب واحد أن الولايات المتّحدةِ ألغت إلتزاماتَها مَع روسيا بشأن معاهدتِها السابقةِ لمنع انتشار الصواريخ البالستيّة، لكي تمْضي قدما في تطويرِ منظومة الدفاع الصاروخي الأمريكيِ، وهو ما إعتبرته روسيا فعلا عدائيا تجاه أمنِها.
وبعد أن فشلت أمريكا من خلال خدوركفسكي وغيره في التحكم بروسيا من الداخل عملت على محاصرتها من خلال دول الجوار. فمباشرة بعد إعتقال خدوركفسكي قامت أمريكا بسلسلة من الأعمال السرية التي مولتها لزعزعة عدد من الحكومات المحيطة بروسيا. ففي تشرين ثاني/نوفمبر 2003 دعمت "الثورة الوردية" في جورجيا التي طَردتْ إدوارد شيفرنادزي لمصلحة رئيس موال لمنظمة حلف شمال الأطلسي الذي تلقى تعليمه في امريكا هو ميخائيل شاكسفيلي الذي وافقَ على دَعْم خطّ أنابيب نفطِ باكوا تبليسي جيهان الذي من شأنه أن يلغي سيطرةَ خطِ أنابيب موسكو على نفطِ آذربيجان المستخرج من بحر قزوين. ومنذ وصول شاكسفيلي إلى السلطة يقوم الخبراء العسكريون الأمريكيون بتدريب القوات الجورجية، فيما تضخ أمريكا ملايين الدولارات لتَهْيِئة جورجيا كي تُصبحَ جزءَا من منظمة حلف شمال الأطلسي. وبالفعل أعلنت جورجيا مؤخرا جاهزيتها لنصب مستلزمات الدرع المضاد للصواريخ الأميركي على أراضيها، وذلك بسبب تضاعف الإنفاق العسكري في البلاد أكثر من 10 مرّات، حسب الأرقام الرسمية، منذ "ثورة الورد" في 2003. كما أعلنت جورجيا أيضا – لإظهار ولائها لأمريكا- رفع وحداتها العسكرية في العراق من 850 إلى 2000 جندي، وهو ما جعلها ثالث أكبر قوة عسكرية من قوّات الاحتلال بإدارة أميركية. وتحسبا من ردود فعل روسيا الغاضبة قام الجيش الجورجي ببناء قاعدة عسكرية جديدة قادرة على إيواء أكثر من 3000 جندي في سيناكي، بالقرب من أبخازيا؛ وهناك قاعدة ثانية هي في قيد الإنشاء في غوري، على بعد نصف ساعة من تسخينفالي، عاصمة أوسيتيا الجنوبية. ومن المرجح اعداد القاعدتين و تهيئتهما من اجل الصراعات المستقبلية في أوسيتيا الجنوبية و أبخازيا اللتين أعلنتا إستقلالهما من طرف واحد بدعم من روسيا.
وبعد "الثورة الوردية" في جورجيا، قامت منظمات غير حكومية مدعومة من قبل واشنطن و من ابرزها "بيت ولزي للحريةِ" ( Woolsey's Freedom House ) و"الهبة الوطنية للديمقراطيةِ" (National Endowment for Democracy )، ومؤسسةَ سوروس وغيرها، في تشرين ثاني/نوفمبر 2004 ـ بشكل سافر وإستفزازي ـ بدعم "الثورة البرتقالية" في أوكرانيا. والهدف من ذلك هو إيجاد نظام موال لمنظمة حلف شمال الأطلسي برئاسةِ فيكتور يوشنكو ، في بلاد قادرة بشكل إستراتيجي على قَطْع تدفقِ خطِ الأنابيب الرئيسيِ مِنْ النفطِ والغاز الروسيِ المتجه إلى أوربا الغربية. كما قامت أمريكا بدعم حركات "المعارضة الديمقراطية" في بيلوروسيا وقرغيزستان وأوزبكستان جمهوريات سوفيتية سابقة أهمها كازاخستان. وقد أغدقت عليها إدارة بوش ملايين الدولارات وذلك بقصد تَشكيل حاجز أمام خطوطِ أنابيب الطاقةِ المحتملةِ التي قد تَرْبطُ الصين مَع روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة. وردا على هذه التحركات الأمريكية هدد فلادمير بوتين مؤخرا بضرب أوكرانيا لو إنضمت لبرنامج الدرع الصاروخي الأمريكي وقبلت انتشار مواقع لمنظومة الدفاع المضادة للصّواريخ على أرضها. ففي مؤتمر صحافي عقده بوتين مع نظيره الأوكراني الرّئيس فيكتور يوتشينكو قال: إن تطلّعات أوكرانيا للانضمام إلى منظمة حلف شمال الأطلسي ستقلص سيادتها. وأردف بوتين: "إنه مما يثير القلق ليس فقط الكلام عن هذه الاحتمالات وإنما مجرد التفكير فيها، ولو حدث بالفعل أن حدث هذا الانتشار للدفاع الصاروخي في الأرض الأوكرانية فإن روسيا ستوجه رؤوسها الحربية كإجراء انتقامي".


2 ـ العلاقات الروسية الأمريكية:

بنهاية 2004 كَانَ واضحَا لروسيا بزعامة بوتين أن "حربا باردة جديدة" غير معلنة للسيطرةِ الإستراتيجيةِ على الطاقةِ والسبق النووي الأحادي هما ما تسعى إلى تحقيقه أمريكا في ظل تفردها بالموقف الدولي. كما كانَ واضحَا أيضاً مِنْ خلال تحركات ومشاريع أمريكا منذ سقوط الإتحاد السوفيتي في عام 1991، أن الهدف النهائي للسياسة الأمريكيةِ في أوراسيا ليس الصين ولا كوريا الشمالية ولا إيران بل روسيا نفسها؛ فهي الدولة الوحيدة المؤهلة ـ بحكم طاقاتها النووية والنفطية ـ للعودة إلى المسرح الدولي إذا ما توفرت لها الإرادة السياسية وأحسنت إستغلال الأجواء الدولية. ويمكن حصر أهم الخطط الإستراتيجية التي تسير فيها أمريكا لمحاصرة روسيا وتحقيق التفوق النووي عليها في مسألتين: توسيع الحلف الأطلسي شرقا وبناء منظومة الدفاع الصاروخي.

أ ـ التوسع الشرقي للحلف الأطلسي:
إن شرق أوربا الذي عملت كل من روسيا القيصرية وروسيا الشيوعية على السيطرة عليه مباشرة أو بالنفوذ وفي أسوأ حالات ضعف روسيا عملت على جعله "منطقة حيادية" بإعتباره صمام أمان للحدود الغربية لروسيا قد إبتلعته أمريكا التي لم تكتفي بذلك بل زحفت نحو "الأطراف الخارجية" (آسيا الوسطى) للاتحاد السوفياتي السابق، بله وصلت إلى حد "الأطراف الداخلية" (أي القوقاز وجمهوريات البلطيق). لقد كان الاستراتيجيون الأمريكيون، أيام الإتحاد السوفياتي، يعتبرون جمهوريات آسيا الوسطى بمثابة "البطن الرخو" للإمبراطورية الحمراء الأكثر قابلية للاختراق من الناحية الاستراتيجية. ولذلك عملت أمريكا على وضع روسيا في مأزق حقيقي، وهي لا تبالي بالانسحاب من معاهدة حظر انتشار الصواريخ الباليستية الموقعة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي عام 1972، لأنها عازمة على إستغلال "الفرصة التاريخية" المتوفرة لها بالمضي قدما في مشروع منظومة الدفاع الصاروخي الذي لا يهدف كما يدعي بوش لحماية أمريكا من خطر الصواريخ العابرة للقارات التي يمكن أن تطلقها "دول مارقة" مثل إيران وكوريا الشمالية، بل الهدف الحقيقي هو تطويق ومحاصرة القدرات الروسية وتهديد الأمن القومي الروسي على المدى البعيد. وحتى هذه الساعة نجحت أمريكا إلى حد كبير في تحقيق هدفها في المنطقة، حيث تمكنت من تحقيق درجات متفاوتة من التغلغل السياسي والاقتصادي والعسكري في كل من آسيا الوسطى والقوقاز. وهذا ما جعل روسيا تفقد تماما إمكانية "غزو أوروبا" بل حتى لم تعد ترعب سكان الجزء الغربي من القارة بعد أن إختفى المكون الإيديولوجي للمواجهة ونزلت القوة العسكرية الروسية عن مستواها السابق أيام الإتحاد السوفياتي. وبدا واضحا أن روسيا ، بتبنيها لرأسمالية مرقعة، قد عانت أزمة هوية بالمعنى الشامل للكلمة أيام حكم بوريس يلتسين إلى أن تسلم فلادمير بوتين السلطة من بعده.
ومما زاد في تغول أمريكا على روسيا هو أحداث 11 ايلول/سبتمبر 2001 التي كانت نقطة التحول الرئيسية في تكثيف التواجد العسكري الأمريكي في آسيا الوسطى. فحتى ذلك التاريخ كان هذا التواجد الأمريكي مقتصرا على عدد من الإتفاقيات الثنائية التي تتمحور حول بعض المساعدات العسكرية، والتي تطورت فيما بعد لتشمل إقامة قواعد عسكرية في كل من قرغيزستان وأوزبكستان في إطار ما سمته أمريكا بالحرب الكونية على الارهاب .(Global War on Terror) ورغم أن الخطة الأساسية المعلنة لأمريكا كانت تقضي بإعتبار هذه المنشآت قواعد مؤقتة، فإنها تمثل أساسا للتواجد العسكري الأمريكي الدائم بآسيا الوسطى. فهذه الأخيرة باتت بحكم قربها الجغرافي من أفغانستان منطقة لا يمكن الإستغناء عن خدماتها. ويأتي هذا الإنتشار العسكري تلبية للإحتياجات الجيوستراتيجية الأمريكية والتي بدأت تأخذ شكل البحث عن قواعد صغيرة وعملياتية بدلا من القواعد الكبيرة والدائمة كما كانت عليه إبان الحرب الباردة. ففي عملية ملء الفراغ في المناطق التي كانت خاضعة للهيمنة السوفياتية، وجدت الولايات المتحدة نفسها بحاجة إلى إسناد لوجيستي جديد، وتسهيلات وقواعد أخف وأكثر ملاءمة للتحديات الأمنية الجديدة التي صنعتها بنفسها، وروج لها العديد من المسؤولين الأمريكيين وعلى رأسهم وزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد الذي أوصى بضرورة بناء هذه القواعد في مناطق جغرافية إستراتيجية بحيث يكون لأمريكا أنظمة حكم ونخب سياسية يمكن الإعتماد عليها عند الضرورة.
وسواء إكتسبت القواعد الأمريكية في آسيا الوسطي وضعا دائما أو مؤقتا، فإن الولايات المتحدة ستكون في موقع يمكنها من إستخدام القوة العسكرية إذا إقتضت مخططاتها ذلك. فآسيا الوسطي وبحر قزوين ليسا أكثر إستقرارا من الخليج العربي، كما أن تطوير إمدادات الطاقة بوسط آسيا لتكون البديل لمنابع النفط والغاز بالشرق الأوسط، لا قيمة له ـ أمريكيا ـ إذا لم يكن مقترنا بضمانات عسكرية تؤمن تدفق موارد هذه المنطقة نحو الأسواق العالمية. وفي هذا السياق دعمت أمريكا علاقاتها بصورة خاصة مع كازخستان حيث تستثمر فيها شركة شيفرون الأمريكية عدة مليارات من الدولارات في مجال النفط، وتجري أمريكا من حين لآخر مع كازخستان وقيرغيزستان مناورات عسكرية مشتركة في إطار برنامج الشراكة من أجل السلام الذي إنضمت إليه جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق.
إلا أن أول إختراق قامت به أمريكا في المنطقة كان تعاونها العسكري مع أوزبكستان، حيث عقد الطـــرفان في تشرين اول/أكتوبر 2001 إتفاقية يســمح بمقتضـــاها لواشنـــطن بإستعمال الأراضي الأوزبكــية في إطـــار عملياتها العسكرية في أفغانستان. وتمنح هذه الإتفاقية القـــوات الأمريكية معـــاملة سياديّة تتمــتع بموجبها هذه القوات بحرية مطلقة في التحرك خارج إطار الرقابة من قبل الدولة المضيفة. كما تحتفظ الولايات المتحدة في أوزبكستان بقاعدة "تيرمس" (Termez) العسكرية المتاخمة للحدود الأفغانية والتي ينتشر فيها ما يزيد عن 1000 عسكري أمريكي ينتمي معظمهم إلى الفرقة الجبلية العاشرة، وهي وحدة مختصة في العمليات القتالية في المناطق الجبلية الوعرة وفي ظروف مناخية صعبة.
أما في قرغيزستان، وهو البلد الأكثر فقرا في آسيا الوسطي، والذي تتأرجح فيه الحياة السياسية منذ آخر إنقلاب في اذار/مارس 2005 بين أزمة وأخرى، فقد كرست أمريكا جهودها في تدعيم وجودها العسكري في قاعدة "مناس" الموجودة في المطار الدولي للعاصمة القرغيزية "بشكيك". وتكمن أهمية هذه القاعدة في موقعها الجغرافي والجيوستراتيجي، فهي على مرمى حجر من الحدود الصينية (500 كلم) وتفصلها عن أفغانستان مسافة تقدر بـ 650 كلم. ويتـــواجد بهذه القاعدة 3000 عسكري أمريكي و6 مقاتلات F/A-18 وبعض الأســـراب من طـائرات النقل العسكرية C-130 و C-17 وكــذلك طائرات التزويد بالوقود.
وما زاد في قلق روسيا الكبير هو سعي جورجيا وأذريبجان الحثيث إلى الإنضمام لحلف شمال الأطلسي، في الوقت الذي رفضتا فيه الإنضمام إلى معاهدة الأمن الجماعي التي وقعتها روسيا في ايار/مايو 1992 مع كل من بيلاروسيا وكازاخستان وأرمينيا وقيرغيزيا وطاجيكستان من أصل البلدان الـ 12 الأعضاء في رابطة الدول المستقلة. أما ثالثة الأثافي في إحساس روسيا بقرب الخطر الأطلسي على بابها هو أن أمريكا لم ولن تقف عند حد شرق أوروبا وآسيا الوسطى والقوقاز، فهي تعمل الآن لتوسيع الناتو حتى يشمل دول البلطيق الثلاث، ليتوانيا ولاتفيا وأستونيا. وإذا ما نجحت أمريكا بذلك فإن القوات الأمريكية ـ تحت غطاء حلف شمال الأطلسي ـ تكون قد صارت لها حدودًا مشتركة مع روسيا، بحيث لن تبعد إلا 40 ميلاً من سانت بطرسبورج.
وهكذا بات ظاهرا لكل متابع للموقف الروسي عن قرب أن روسيا قد خَسِرَت الكثير من نفوذها القديم في معركة التصدي للزحف الأمريكي على إرث الإتحاد السوفياتي الخارجي (أوروبا الوسطى والشرقية) بل وحتى الداخلي (أوكرانيا وجورجيا ودول البلطيق الثلاث التي تسعى للإلتحاق بالناتو). والسبب في ذلك هو الخطأ الإستراتيجي الذي سارت فيه روسيا في عهد غورباتشوف وتبعه يلتسين في ذلك، وحاول فلادمير بوتين إصلاحه قدر المستطاع. ويتمثل هذا الخطأ في أن روسيا إختارت بعد سقوط الشيوعية التوجه نحو الدول الغربيّة وعلى رأسها أمريكا، على أمل أن تكون جزءا من عالمهم "الرأسمالي الديمقراطي". وفي نفس الوقت أدارت روسيا ظهرها لدول أوروبا الشرقية والوسطى، وأظهرت إزاءها إحتقاراً واضحا عندما فضلت الحديث عن مصير أوروبا الوسطى والشرقية، ليس مع أبناء المنطقة أنفسهم، بل من فوق رؤوسهم، مع ما كانت تسميه "الشركاء الغربيين". وقد كانت نتيجة هذه السياسة أن دفعت موسكو، عملياً وبيديها، بلدان أوروبا الوسطى والشرقية بإتجاه الغرب، وفشلت في وقف تمدد حلف شمال الأطلسي شرقا، رغم سعيها لوقف ذلك. ومع ذلك فإن روسيا مازالت تملك القدرة على التحرك الديبلوماسي والمناورة السياسية بل والتخطيط الإستراتيجي بعد أن خرجت من مرحلة الإصلاح لما أفسده يلتسين ودخلت مرحلة التنمية الشاملة بما تملكه من رادع نووي وفائض مالي جراء بيع النفط والسلاح.
وهنا يلاحظ أن روسيا قد دخلت مرحلة جديدة في التعامل مع أمريكا، فقد حدث تغيير كبير في خطاب السياسة الروسية رسميا وفي الأوساط السياسية والحزبية والإعلامية، خاصة في الفترة الثانية من حكم الرئيس بوتين. وبدأنا نشهد في الفترة الأخيرة تراجع الحديث عن الشراكة الإستراتيجية والعلاقات الجديدة مع الغرب، وإرتفعت الأصوات في روسيا خاصة من الوطنيين والشيوعيين تؤكد على أن حلف الأطلسي لا يزال يعتبر تهديدا جديا وحقيقيا لمصالح الأمن الروسي، لأن توسعه نحو الشرق هو "بمثابة تقريب للخطر نحو حدود الوطن". ولذلك فإن من المتوقع أن لا تقف روسيا عند حد الإكتفاء بتسجيل الإحتجاجات وإطلاق التهديدات. ولعل إعلان الرئيس بوتين في 27/04/2007 في خطابه السنوي عن حالة الإتحاد أمام البرلمان عن إمكانية إنسحاب روسيا خلال سنة من "إتفاقية القوات التقليدية في أوروبا" بصيغتها الأصلية والموقعة بين حلفي وارسو والناتو عام 1990، ثم تعليق هذه الإتفاقية رسميا إبتداء من 12/12/2007 وإعلانه أن روسيا لن تعمل بها ما لم يعدل الحلف الاطلسي الإتفاقية ويقوم بتطبيقها بشكل صارم ، أحد أهم الأعمال السياسية التي يمكن أن تحدث قلقا وإرباكا بين زعماء دول الناتو وعلى رأسهم أمريكا، وقد تدفعم إلى إعادة النظر في طريقة تعاملهم ونظرتهم لروسيا بمنطق الغالب والمغلوب بعد إنهيار الاتحاد السوفيتي. وقد سبق لبوتين أن أكد على هذا المعنى ـ قبل تعليق الإتفاقية عمليا ـ في خطاب ألقاه أمام إجتماع للقيادة العسكرية الروسية بقوله أن حلف الناتو يقوم بتعزيز قدراته العسكرية على مقربة من الحدود الروسية، مشددًا على أن روسيا لن تقف مكتوفة الأيدي حيال عملية "إستعراض العضلات" هذه. وأشار الرئيس الروسي إلى أن تجميد العمل بمعاهدة القوات التقليدية كان واحدًا من الإجراءات الجوابية التي تعتزم روسيا القيام بها. وأضاف أن روسيا لن تنتظر إلى الأبد إنضمام الدول الغربية لمعاهدة القوات التقليدية في أوروبا "ولن تنفذ منها شيئًا"، مشيرًا إلى أن بعض الدول لم تبرم هذه المعاهدة فحسب بل لم توقع عليها أصلا. وتعهد بوتن بإعادة الإلتزام ببنود هذه المعاهدة بمجرد أن تلتزم الدول الغربية بتنفيذها.

ب ـ البرنامج القومي الدفاع الصاروخي:
بعد ثلاثة أشهر من وصوله إلى البيت الأبيض وتنفيذا لأحد أهم نقاط برنامجه الإنتخابي، أعلن جورج بوش الإبن في خطابه الذي ألقاه أمام جامعة الدفاع القومي في واشنطن في أول ايار/مايو 2001، عن تصميم الإدارة الأميركية على تطوير ونشر النظام القومي للدفاع المضاد للصواريخ(NMD ). ويتضمن هذا البرنامج التسليحي الضخم جداً ـ كما أعلن عنه رسميا ـ والذي تقدر ميزانيته بـ 160 مليار دولار، الدفاع عن أراضي ومصالح الولايات المتحدة الأميركية، ومهاجمة وتدمير الصواريخ البالستية عابرة القارات (ICBM) الاستراتيجية المعادية، سواء كانت ذات رؤوس نووية أو جرموثية. ورغم فشل تجربتين من ثلاث تجارب تم إجراؤها في إطار (حرب النجوم) الجديدة فإن إدارة بوش مصممة على المضي قدما في برنامج الدرع المضادة للصواريخ، ضاربة عرض الحائط بمعاهدة حظر الصواريخ المضادة (ABM) الموقعة بين ريتشارد نيكسون وليونيد برجنيف عام 1972 والتي إستهدفت ضمان أن لا تؤدي أنظمة الدفاع الصاروخية المضادة إلى تقويض الردع النووي السوفياتي – الأميركي.
وقد سبق لبوش الإبن أن ندد بهذه المعاهدة التي حافظت على توازن الرعب النووي بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي إبان فترة الحرب الباردة، حيث قال بأن هذه المعاهدة " تجسد الماضي ونحن مطالبون بتجاوز إكراهات هذه المعاهدة القديمة منذ ثلاثين عاماً ". وأضاف بوش بأن هذه المعاهدة "تؤبد وضعاً قائماً على الحذر وعدم الثقة، وهي تقلل من شأن التقدم الأساسي في مجال الثورة التكنولوجية للعقود الثلاثة الأخيرة، وهي تمنعنا من تفحص كل الخيارات. والحال هذه يجب إستبدالها بإطار جديد يجسد القطيعة الواضحة والصريحة مع إرث العداء للحرب الباردة". وبناء عليه وبعد أن نجحت إدارة بوش بالفعل في إقامة جزء من هذا البرنامج في ولايتي ألاسكا وكاليفورنيا، تحاول الآن جاهدة إستكماله في أوروبا. ولذلك فقد أعلنت الولايات المتحدة رسميا يوم 20 كانون ثاني/يناير 2007، أنها بدأت مفاوضات مع جمهورية التشيك لإقامة محطة رادارات على أراضيها، ومع بولندا لنصب عشرة صواريخ قادرة على إعتراض الصواريخ الباليستية. وتدعي الولايات المتحدة أن نشر هذه المنظومة يستهدف حماية أراضيها وأراضي حلفائها من أي هجوم إيراني أو كوري شمالي محتمل .
ومما لا شك فيه أن قرار الولايات المتحدة الأميركية المضي قدماً بنشر نظام الدفاع الصاروخي سيكون له مضاعفات سياسية وعسكرية على العلاقات مع روسيا والصين بل حتى مع حلفاء أمريكا الأوروبيين، مما ينذر بإمكانية عودة أجواء مرحلة الحرب الباردة وما تعنيه من سباق تسلح وإستقطاب دولي. ذلك أن منظومة الدفاع الصاروخي التي تعتزم أمريكا نشرها في شرق أوروبا، ستشمل أيضا محطة رادار يمكن نصبها في منطقة القوقاز، وهذا ما يجعل روسيا خاصة تعارضها بشدة. فقد أعلن رئيس الوكالة الأميركية للدفاع المضاد للصواريخ هنري أوبيرينغ يوم 30 اذار/مارس 2007 في بروكسل أن رادار القوقاز سيكون "متنقلاً"، وأن الدرع "تشمل راداراً محمولاً يمكن نصبه في أي منطقة، خلال أيام، وبسرعة كبيرة جداً". وسيلتقط هذا "الرادار المتنقل"، الذي سيتم نصبه في منطقة القوقاز، الإشارات الأولى لأي صاروخ "معادٍ"، ليبثها إلى المحطة الأميركية الرئيسية للرادارات، التي تنوي واشنطن إقامتها في تشيكيا، للتصدي لأي هجمات محتملة من إيران أو كوريا الشمالية.
ولكن يبدو واضحا أن أمريكا لا تبالي بالإنتقادات الموجهة لها في ظل تفردها بالموقف الدولي وسعيها لإستغلال هذه "الفرصة التاريخية" لتحقيق سبق نووي من خلال بناء نظام الدرع الصاروخي. فهذه السياسة الأمريكية الجديدة في عسكرةِ الفضاءِ هي جزء متمم لإستراتيجيتها المسماة بـ "هيمنةِ الطيفِ الشامل" (full-spectrum dominance ) أو بـ "هيمنة التصعيد" ( escalation dominance ) ـ حسب تعبير البنتاغون. فإكمال النظام الدفاعي الصاروخي الأوروبيِ وعسكرة الشرق الأوسطِ كله وتطويق روسيا والصين بشبكة من القواعد العسكريةِ الأمريكيةِ الجديدةِ في آسيا الوسطى تحت مسمى"الحرب على الإرهابِ"، كُلّ ذلك يدخل ضمن هذه الإستراتيجيةَ الأمريكية، أي القدرة على الفوز بالحرب بأي مستوى من العنف بما في ذلك الحرب النووية. وقد جاءت هذه الإستراتيجية في الوثيقة الصادرة بتاريخ 31 اب/أغسطس عام 2006، والتي إعتمد فيها بوش الإبن سياسة فضاءِ قومية أمريكيةِ جديدةِ تعطى للبرامجِ ونشاطاتِ الفضاءِ الأمريكيةِ أولوية قصوى في إستراتيجيةِ الدفاعِ الأمريكي. وتُعلنُ هذه الوثيقةَ بأنّ الولايات المتّحدةَ سَتتخذُ "تلك الأعمالِ الضروريةِ لحِماية قدراتها الفضائِية وللرد على التدخلِ؛ ولمنع، إذا كان لازما، الخصوم الذين يستعملون إمكانيات الفضاءِ عدائيا ضد المصالح القومية الأمريكيةِ ". كما تؤكد هذه الوثيقة أن أمريكا لن تسمح لأيّ هيئة َأو معاهدة دولية تعيق عسكرتَها للفضاءِ. "فالولايات المتّحدة سَتُعارضُ إصدار الأنظمةِ القانونيةِ الجديدةِ أَو القيودِ الأخرى التي تريد مَنْع أَو تَحديد وصول أَو إستعمالِ أمريكا للفضاءِ. إن إتفاقيات أَو قيود الحَدّ من الأسلحةِ المُقتَرَحةِ لا يَجِبُ أنْ يقللا من حقوقِ الولايات المتّحدةِ في إجْراء بحثِ أو تطوير أو إختبار أوعمليات أَو نشاطات أخرى في الفضاءِ للولايات المتّحدةِ .
وهكذا يتضح أن إعطاء أمريكا الحق لنفسها في عسكرة الفضاء جاء لقطع الطريق على أية محاولات دولية لمنعها من ذلك. وقد أعادت كوداليزا رايس هذا المعني في المؤتمر الصحفي بعد لقائها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في موسكو، إذا قالت "لا أظن أن أحدا يتوقع أن تسمح أمريكا بوضع فيتو على مصالحها الأمنية" . ولكن يبدو أن روسيا منذ الفترة الثانية لحكم بوتين عازمة على الدخول في إحراج أمريكا دوليا والدخول معها في صراع سياسي وديبلوماسي حول مسألة عسكرة الفضاء عبر برنامج الدرع الصاروخي. ففي مؤتمر ميونيخ الذي عقد يومي 9 و10 شباط/فبراير 2007، وبعد أن شن فلادمير بوتين في خطابه هجوما على السياسة الأمريكية في العالم، حذر من تسليح الفضاء وأعلن أنه سيقدم قريبا مشروع معاهدة دولية لتحييد الفضاء من التسلح. وبالرغم من تأكيد المتحدث باسم الخارجية الأمريكية شون ماكورماك أن هذا المشروع لا يستهدف روسيا، بل الدول غير المسئولة التي يمكن أن تمتلك تكنولوجيا تهدد الولايات المتحدة وأصدقاءها وحلفاءها وأنه يهدف إلى وقايتها من أية هجمات محتملة من إيران أو كوريا الشمالية أو أي دولة أخري، إلا أن قائد القوات الفضائية الروسية الجنرال فلاديمير بوبوفكين يرى أن عسكرة الفضاء الأوروبي عبر نشر رادارات وصواريخ إعتراضية إضافية في أوروبا بحلول 2011 سيشكل تهديدا أكيدا لأمن روسيا ومصالحها، خاصة أن إقامة قاعدة رادارات في التشيك ستسمح بمراقبة نشاطات منشآت الصواريخ في وسط روسيا أو أسطول الشمال الروسي، وهذا الأمر سيسبب إنكشافا إستراتيجيا لروسيا.
ومن جانبه، فند فلادمير بوتين المزاعم الأمريكية بأن نشر مظلات صاروخية في أوروبا الشرقية إنما يستهدف التصدي لأية هجمات من قبل إيران أو كوريا الشمالية، مؤكدا أن تلك حجج واهية وباطلة وغير مقنعة، لأن إيران لا تملك صواريخ بعيدة المدى بمقدورها الوصول إلي أوروبا أو أمريكا. فالإيرانيون لا يملكون صواريخ باليستية عابرة للقارات تستطيع تهديد أوروبا ناهيك عن الولايات المتحدة، أما روسيا فإنها تملك مثل هذه الصواريخ. وحتى لو افترضنا أن التهديد الإيراني موجود فعلا، ألا يجدر بالولايات المتحدة نشر عناصر من منظومتها الدفاعية المضادة للصواريخ في مكان آخر كتركيا مثلا وليس في أوروبا الشرقية وبالذات في تشيكيا وبولندا ؟ وقد ذكر بوتين أن روسيا ستكون مستعدة في مثل هذه الحال للتعاون مع الولايات المتحدة، ولكن بشرط أن يبدأ بناء مواقع المنظومة الدفاعية المضادة للصواريخ من الصفر وعلى أساس التكافؤ. فروسيا ترى أن الخطط الأميركية تخل بتوازن القوى الاستراتيجية في أوروبا، وتثير سباقا جديدا للتسلح. واعتبر الرئيس السابق بوتين أنَّ نشر الدرع الأمريكي من شأنه أن يحوِّل أوروبا إلى "برميل بارود"، متهمًا واشنطن بخلق سباق تسلح عالمي جديد، وخرق معاهدة الحد من الصواريخ الباليستية. وشدّد على أنه "إذا وصل جزء من القوة النووية الأمريكية إلى أوروبا، ورأى خبراؤنا العسكريون أن ذلك سيهددنا؛ فسنضطر وقتئذ إلى إتخاذ خطوات مماثلة ردًا على ذلك"، مشيرًا لإعادة توجيه الصواريخ الروسية ضد أوروبا. وقد أكد فلادير بوتين على هذا المعنى من جديد، في مؤتمره الصحافي السنوي الأخير قبل مغادرته الكرملين، من أن روسيا لن تنزلق إلى مواجهات مع أي طرف، لكنه أطلق تهديدًا صريحًا بتصويب صواريخ في إتجاه بولندا وتشيكيا وأوكرانيا، إذا تحققت مشاريع توسيع الحلف الأطلسي .
أما وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف فقد إتهم أمريكا صراحة بأنها تسعي للتفوق النووي على روسيا . وأكد لافروف أن روسيا لا تخطط لإطلاق أي صواريخ، لكن النظام الدفاعي الصاروخي الأمريكي سيمنح الفرصة للولايات المتحدة لشن ما أسماها الضربة الأولى. وقال لافروف إن الموقع المقترح للنظام الدفاعي الأمريكي ـ في بولندا وجمهورية التشيك ـ أكثر ملائمة لإعتراض الصواريخ التي يتم إطلاقها من روسيا. أما قائد القوات الجوية الروسية السابق فلاديمير ميخايلوف فقد ذكر أن نصب أنظمة رادار أميركية مضادة للصواريخ في القوقاز "لن يؤثر على قدرات روسيا الدفاعية"، وأشار إلى أن بلاده "قادرة على تقديم رد مناسب على نشر درع الدفاع الصاروخي" الأميركي. وتابع ميخايلوف إن الأميركيين "لديهم الكثير من الأموال، فلندعهم ينفقونها"، موضحاً أن أنظمة صواريخ "أس ـ 400" الروسية، التي يزيد مداها على 400 كيلومتر، "تضمن الأمن، بما في ذلك من ناحية الدفاع الجوي الفضائي".. وقد بدأت روسيا فعلا تحتاط لمواجهة ما قد تضعه الولايات المتحدة من أسلحة خطيرة في القارة الأوروبية وفي الفضاء، واتخذت في ذلك إجراءات فعلية كتجهيز صواريخها "توبول – م" بعدة رؤوس نووية. ويتضمن برنامج تسليح القوات المسلحة الروسية صنع قاذفتي قنابل جديدتين من طراز "تو – 160" اللتان تستطيعان إختراق شبكات إصطياد الصواريخ. كما تستعد روسيا لنشر صواريخ "إسكندر "التكتيكية بالقرب من حدودها بالإضافة إلى نشر صواريخ جديدة من طراز «أس - 400» التي تستطيع تدمير الأهداف الباليستية.
وهكذا فإن ما يحدث الآن على الساحة الدولية يعني بوضوح أن سباق التسلح بين واشنطن وموسكو قد بدأ بالفعل، حتى ولو نفاه الطرفان لأسباب سياسية داخلية ودولية. ولكن الأكيد أن أمريكا تسعى لإجبار الدول الأوروبية ودول أخرى في الشرق الأوسط وفي آسيا على شراء أسلحة أميركية حديثة تتناسب مع طبيعة الحروب المتطورة القادمة. وهذا ما سوف ينعش في آن الاقتصاد الأميركي ويؤثر سلبا على إقتصادات الدول الأخرى، بينما ستكون روسيا الطرف الآخر للعبة الأميركية المزدوجة. ذلك أن روسيا لن تقبل وجود هذه الأسلحة الحديثة المتطورة بالقرب من حدودها ولن تقف مكتوفة الأيدي، بل ستسعى بالضرورة للحفاظ على توازن القوى مع الولايات المتحدة، الأمر الذي سيدفعها للإنفاق بكثافة على التسليح ، مما قد يؤدي إلى ضعف تدريجي لإقتصادها وربما إنهيار كامل له بعد ذلك. هذه هي اللعبة التي سبق أن إستخدمتها أمريكا مع الاتحاد السوفييتي وكان ذلك أحد أسباب إنهياره. والسؤال الآن هو هل تستطيع روسيا تفادي الوقوع في شراك اللعبة الأميركية عبر الإستعانة بالصين في ذلك؟

يتبع ...

 

الوسوم (Tags)

روسيا   ,  

اقرأ أيضا ...
هل ترغب في التعليق على الموضوع ؟
ملاحظة : جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا علاقة لموقع دام برس الإخباري بمحتواها
الاسم الكامل : *
المدينة :
عنوان التعليق : *
التعليق : *
*
   
دام برس : http://sia.gov.sy/
دام برس : https://www.facebook.com/Syrian.Ministry.Culture/

فيديو دام برس

الأرشيف
Copyright © dampress.net - All rights reserved 2024
Powered by Ten-neT.biz